المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌{الله أعلم حيث يجعل رسالته}: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: ‌{الله أعلم حيث يجعل رسالته}:

ومعلوم أن الأرض المعمورة -عند مولد هذه الرسالة الخاتمة الأخيرة- تكاد تتقسّمها امبراطوريات أربع:

الإمبراطوريّة الرومانيّة في أوروبّا وطرف من آسيا وإفريقيا!

والإمبراطوريّة الفارسيّة وتمدّ سلطانها على قسم كبير من آسيا وإفريقيا!

والإمبراطوريّة الهنديّة، ثم الإمبراطوريّة الصينيّة، تكادان تكونان مغلقتين ومنعزلتين بعقائدهما واتصالاتهما السياسيّة وغيرها، وهذه العزلة كانت تجعل الإمبراطوريتين الأوليين هما ذواتا الأثر الحقيقي في الحياة البشرية وتطوّراتها!

ومن ثم جاء (الدّين القيم) لينقذ البشريّة كلها مما انتهت إليه من انحلال وفساد واضطهاد، وجاهليّة جهلاء، وفوضى عمياء، في كل مكان معمور!

جاء ليهيمن على حياة البشريّة، ويقودها في الطريق إلى الله، على هدى وعلى نور!

ولم يكن هنالك بدٌّ من أن يبدأ الإِسلام رحلته من أرض حرّة، لا سلطان فيها لإمبراطوريّة من تلك الإمبراطوريّات، وأن ينشأ نشأة حرّة لا تسيطر عليه فيها قوّة خارجة عن طبيعته!

وكانت الجزيرة العربيّة، و {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} بالذات أصلح مكان على وجه الأرض لتلك النشأة، ليبدأ الإِسلام رحلته العالميّة المباركة، منذ اللحظة الأولى!

{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} :

ونزل القرآن عربيًّا لينذر {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} !

ص: 1661

وعاش الرسول صلى الله عليه وسلم حتى خلصت الجزيرة العربية للإسلام، وتمحّض هذا المهد للعقيدة التي اختير لها عن علم!

كما اختير لها اللسان الذي يصلح لحملها إلى أقطار الأرض، حيث بلغت العربيّة نضجها، وأصبحت صالحة لحمل هذه الدعوة، والسير بها في أقطار الأرض:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124)!

ونبصر السياق القرآنيّ يعود إلى الحقيقة الأولى، لبيان الجهة التي يرجع إليها عند كل اختلاف، وهي هذا الوحي الذي جاء من عند الله عز وجل يتضمن حكم الله، كي لا يكون للهوى المتقلّب أثر في الحياة، بعد ذلك المنهج الإلهي القويم:

{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)} (الشورى)!

ويعود بعد ذلك مباشرة إلى تلك الحقيقة .. تقرير وحدة المصدر، ووحدة المنهج، ووحدة الاتجاه:

{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)

ص: 1662

{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} (الشورى)!

ونبصر أتباع الرسل قد تفرّقوا شيعًا وأحزاباً:

{وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} !

إنهم لم يتفرّقوا عن جهل، ولم يتفرّقوا لأنهم لا يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم، ويربط رسلهم ومعتقداتهم!

إنما تفرّقوا بعد ما جاءهم العلم!

تفرّقوا بغيًا وحسدًا وظلمًا للحقيقة ولأنفسهم سواء!

تفرّقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة والشهوات الباغية!

تفرّقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة!

ولو أخلصوا لعقيدتهم واتّبعوا منهج تلك العقيدة ما تفرّقوا!

ولقد كانوا يستحقّون أن يأخذهم الله أخذاً عاجلاً، جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرّق والتفريق، ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها، بإمهالهم إلى أجل مسمى:

{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} !

ص: 1663

فحق الحق، وبطل الباطل، وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا، ولكنهم مؤجّلون -كما أسلفنا- إلى يوم الوقت المعلوم!

فأمّا الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرّقوا وفرقوا من أتباع كل نبيّ، فقد تلقوّا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم؛ إذ كانت الخلافات السابقة مثاراً لعدم الجزم بشيء، وللشك والغموض والحيرة بين شتّى المذاهب والاختلافات:

{وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} !

وما هكذا تكون العقيدة؛ لأنها هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن، فتميد الأرض من حوله، وهو ثابت راسخ القدمين فوق تلك الصخرة التي لا تميد .. وهي النجم الهادي الثابت، يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع، فلا يضل ولا يحيد!

فأمّا حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة، فلا ثبات لشيء ولا لأمر في نفس صاحبها، ولا قرار له على جهة، ولا اطمئنان إلى طريق!

لقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله، ويقودوا - من وراءهم- من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال، فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد، وهم أنفسهم حائرون، وكذلك كان أتباع الرسل يوم جاء هذا (الدّين القيّم)!

يقول المفكر الإِسلامي (أبو الحسن الندوي) رحمه الله: (1)

(أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرّفين

(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: 37 - 38 دار القلم، ط تاسعة 1393 هـ 1973 م.

ص: 1664

والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأوّلون، لم يعرفوها، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام، وعسف الحكام، وشغلت بنفسها، لا تحمل للعالم رسالة، ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنويّاتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعاً صافياً من الدّين السماويّ، ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري)!

ويقول الكاتب الأوروبيّ (ج. هـ. دنيسون) في كتابه (العواطف كأساس للحضارة): (1)

(في القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى؛ لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت، ولم يك ثمّ ما يعتدّ به مما يقوم مقامها، وكان يبدو إذ ذاك أن المدنيّة الكبرى التي تكلّف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكّك والانحلال، وأن البشريّة توشك أن ترجع ثانيةً إلى ما كانت عليه من الهمجيّة، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولا نظام، أما النظم التي خلّفتها المسيحيّة فكانت تعمل على الفرقة والانهيار، بدلاً من الاتحاد والنظام، وكانت المدنيّة كشجرة ضخمة متفرّعة امتدّ ظلّها إلى العالم كله، واقفةً تترنح، وقد تسرّب إليها العطب، حتى اللباب .. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحّد العالم جميعه!).

يعني محمداً صلى الله عليه وسلم!

(1) ترجمة (Emotion as the Basis of Givilisation) نقلاً عن: في ظلال القرآن: 5: 3149.

ص: 1665

ولأن أتباع الرسل تفرقوا: {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} !

ولأن: {الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)} !

لهذا وذاك، ولخلوّ مركز القيادة البشريّة من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله .. أرسل الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم، ووجّه إليه الأمران يدعو وأن يستقيم على دعوته، وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة، وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين:

{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)} (الشورى)!

يقول ابن كثير: (اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، حكم برأسها، قالوا: ولا نظير لها إلا آية الكرسي، فإنها -أيضاً- عشرة فصول كهذه)(1).

إنها القيادة الجديدة للبشريّة جمعاء .. القيادة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت .. القيادة التي تدعو إلى الله على بصيرة .. وتستقيم على أمر الله دون انحراف .. وتنأى عن الأهواء المضطربة من هنا وهناك!

القيادة التي تعلن وحدة النهج والطريق .. وتردّ الإيمان إلى أصله الثابت الواحد .. وتردّ البشرية إلى ذلك الأصل الواحد!

(1) تفسير ابن كثير: 4: 109، وانظر: بدائع التفسير: 4: 114 - 115 والتحرير والتنوير: 6025 وما بعدها.

ص: 1666

وفي ختام تلك السورة نقرأ:

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} (الشورى)!

وهنا نبصر مرّة من بعد مرّة قاعدة التصوّر الإِسلامي للسلام العالمي .. في حقيقة هذا الوحي .. هذا الروح .. هذا النور الذي تخالط بشاشته القلوب الحي يشاء الله لها أن تهتدي!

وقد حفظ لنا ديننا كيف ارتبط تاريخ الإِسلام والنبوّة بهذه الرحاب الطاهرة .. وكيف سعى إبراهيم الخليل عليه السلام، وأسكن من ذريته بواد غير ذي زرع .. وكيف كان الفداء!

وفوق هذه الأرض سعى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل .. واستجاب الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم .. وفتحت مكة .. وخطب الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الإيمان، مؤكدًا إكرامه الإنسان!

ونبصر في الحج وحدة إسلامية تظهر في أصالتها كل عام (1)، وفي بقاء هذا الدّين بعيداً عن التحريف والغموض والالتباس، وبقاء هذه الأمة بعيدة عن الانقطاع عن الأصل والمصدر والأساس، محفوظة من المؤامرات؛ المغالطات التي وقعت أمم كثيرة فريستها في الزمن الماضي، وعن هذا الطريق تبقى الأمّة

(1) انظر كتابنا {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} : 26 وما بعدها، و"الإِسلام دين السلام العالمي وحاجة الإنسانية إليه": 104 وما بعدها.

ص: 1667

الخالدة محتفظةً بالحنيفيَّة السمحة، الثائرة على الباطل، القويّة بالحق، وتتوارثها جيلاً بعد جيل، فكأنها الجَنان القوي الفيّاض الذي يبث الحياة!

هذا، والجماعة المسلمة الأولى تدرك حق الإدراك مدى وعمق هذه الحقيقة في حياتها! (1).

لقد كانت قريبة عهد بما كان عليه العرب من ضلال في التصوّر والاعتقاد، وضلال في الحياة الاجتماعيّة والأخلاقيّة!

تمثله تلك الفوارق الطبقيّة، والمشاحنات القبليّة التي لم تجعل من العرب أمةً يحسب لها حساب في العالم الدولي!

وتمثله تلك الفوضى الخلقيّة التي كانوا عليها!

وتمثّله تلك المظالم التي يزاولها الأقوياء ضد الضعفاء!

وتمثله حياة العرب بصفة عامّة، ووضعهم الذي لم يرفعهم منه إلا هذا الدّين، وحين كانوا يبيتون في مبيت واحد، ويفيضون إفاضة واحدة:

{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)} (البقرة)!

كانت ولا شك تتواكب على خيالهم وذاكرتهم ومشاعرهم صور حياتهم الضالة الزّريّة الهابطة التي كانت تطبع تاريخهم كله، ثم يتلفّتون على أنفسهم ليروا مكانهم الجديد الذي رفعهم إليه هذا الدّين، والذي هداهم الله إليه بهذا الدّين، فيدركون عمق هذه الحقيقة وأصالتها في وجودهم كله بلا جدال!

(1) في ظلال القرآن: 1: 199 بتصرف.

ص: 1668

وهذه الحقيقة ما تزال قائمةً بالقياس إلى المسلمين من كل أمة ومن كل جيل:

من هم بغير هذا الدين؟

وما هم بغير هذه العقيدة؟

ويطالعنا قول الله تعالى:

{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} (المائدة)!

إنها الكعبة الحرام!

والأشهر الحرم!

منطقة الأمان، يقيمها الحق للبشر في زحمة الصراع بين المتحاربين والمتصارعين والمتزاحمين!

بين الرغائب والمطامع والشهوات!

فتحلّ الطمأنينة مكان الخوف!

ويحل السلام مكان الخصام!

وترفرف أجنحة من الحب والسلام!

وتدرّب النفس في واقعها العملي -لا في عالم الله والنظريات- على هذه المشاعر، وتلك المعاني، فلا تبقى مجرّد كلمات مجنحة ورؤى حالمة!

لقد جعل الله عز وجل هذه المحرمات تشمل الإنسان والطير والحيوان بالأمن

ص: 1669

في البيت الحرام، وفي فترَة الإحرام بالنسبة للمحرم، حتى وهو لم يبلغ الحرم، كما جعل الأشهر الحرم الأربعة لا يجوز فيها القتل ولا القتال!

جعلها الله كذلك؛ لأنه أراد للكعبة -بيت الله الحرام- أن تكون مثابة أمن وسلام، تقي الناس الخوف والفزع!

كذلك جعل الأشهر الحرم، لتكون منطقة أمن في الزمان، كالكعبة منطقة أمن في المكان!

ثم مدّ رواق الأمن خارج منطقة الزمان والمكان، فجعله حقًّا للهدي -وهو النّعم- الذي يطلق ليبلغ الكعبة .. فلا يمسه أحد في الطريق بسوء، كما جعله لمن يتقلّد من شجر الحرم، معلناً احتماءه بالبيت العتيق!

لقد جعل الله عز وجل هذه الحرمات، وجعل الكعبة البيت الحرام مثابةً للناس وأمناً!

حتى لقد امتنَّ به على المشركين أنفسهم؛ إذ كان بيت الله بينهم -كما أسلفنا- مثابةً لهم وأمناً، والناس من حولهم يتخطفون، وهم فيه وبه آمنون، ثم هم بعد ذلك لا يشكرون الله، ولا يفردونه بالعبادة في بيت التوحيد:

{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)} (القصص)!

إنها النظرة السطحيّة الخاطئة (1)، أوحت إلى هؤلاء أن اتباع هدى الله يعرضهم للمخافة، ويُغري بهم الأعداء!

(1) السابق: 5: 2703 بتصرف.

ص: 1670

ومع ذلك فهم لا ينكرون أنه الهدى، ولكنهم يخافون في الوقت ذاته أن يتخطفهم الناس، وهم لا يدركون أن قوى الأرض لا تملك أن تتخطفهم وهم في حمى الله، ولا تملك أن تنصرهم إذا خذلهم الله، ذلك أن الإيمان لم يخالط قلوبهم!

ولو خالطها لتبدّلت نظرتهم للقوى، ولاختلف تقديرهم للأمور، ولعلموا أن الأمن لا يكون إلا في التزام منهج الله، وأن الخوف لا يكون إلا في البعد عن هُداه، وأن هذا الهدى موصول بالعزّة، وأن هذا ليس وهماً، وليس قولًا يقال لطمأنة القلوب .. إنما هو حقيقة عميقة، منشؤها أن اتباع هدى الله معناه الاصطلاح مع ناموس الكون وهداه، والاستعانة بهذه القوّة وتسخيرها في الحياة، والذي يتبع هُدى الله يستمدّ مما في الكون من قوى غير محدودة، ويأوي إلى ركن شديد في واقع الحياة!

وهُدى الله منهج حياة صحيحة .. حياة واقعة في هذه الأرض .. وحين يتحقق هذا المنهج تكون له السيادة الأرضيّة إلى جانب السعادة الأخرويّة!

وميزته أنه لا انفصال فيه بين طريق الدنيا وطريق الآخرة .. ولا يقتضي إلغاء هذه الحياة الدنيا أو تعطيلها ليحقّق أهداف الحياة الآخرة، إنما هو يربطهما معاً برباط واحد:

صلاح القلب!

وصلاح المجتمع!

وصلاح الحياة!

ومن ثم نبصر الطريق إلى الآخرة، فالدنيا مزرعة الآخرة، وعمارة هذه

ص: 1671

الأرض وسيادتها وفق المنهج الرباني وسيلة إلى سعادة الآخرة، بشرط اتباع هُدى الله والتوجيه إليه بالعمل، والتطلّع إلى رضاه!

وما حدث قطّ في تاريخ البشريّة أن استقامت جماعة على هدى الله إلا منحها القوّة والمنعة والسيادة في نهاية المطاف، بعد إعدادها لحمل هذه الأمانة .. أمانة الخلافة في الأرض، وتصريف الحياة!

وإن الكثيرين ليشفقون من اتباع شريعة الله، والسير على هداه .. يشفقون من عداوة أعداء الله ومكرهم .. ويشفقون من تألّب الخصوم عليهم .. ويشفقون من المضايقات في الحياة!

وإن هي إلا أوهام كأوهام قريش يوم قالت للرسول صلى الله عليه وسلم:

{إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} !

فلما تبعت هدى الله سيطرت على مشارق ومغاربها في ربع قرن أو أقلّ من الزمان!

وقد ردّ الله عليهم في وقتها بما يكذّب هذا العذر الموهوم!

فمن الذي وهبهم الأمن في رحاب الحرم الآمن؟

ومن الذي جعل الكعبة البيت الحرام قياماً للناس؟

ومن الذي جعل القلوب تهوي إليهم تحمل من ثمرات الأرض جميعاً؟ تتجمع في الحرم من كل أرض، وقد تفرّقت في مواطنها ومواسمها الكثيرة:

{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا} !

فما بالهم يخافون أن يتخطفهم الناس لو اتبعوا هُدى الله، والله هو الذي مكّن لهم هذا الحرم منذ أيّام إبراهيم عليه السلام؟

ص: 1672

أفمن أمّنهم وهم عصاة، يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟

{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} !

لا يعلمون أين يكون الأمن!

وأين تكون المخافة!

ولا يعلمون أن الأمر لله!

وهؤلاء الذين كانوا يدينون بحرمة البلد الحرام والبيت الحرام، ويستمدّون سيادتهم من عقيدة تحريم البيت، كيف لا يوحّدون الله الذي حرّمه وأقام حياتهم عليه!

ويطالعنا إعلان الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مأمور أن يعبد ربّ هذه البلدة الذي حرّمها، لا شريك له، وأن ربّ هذه البلدة هو ربّ كل شيء في الوجود، وأنه مأمور بأن يكون من المسلمين. والرّعيل الممتدّ في الزمن المتطاول من الموحدّين:

{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)} (النمل)!

ويطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو ابن سعيد. وهو يبعث البعوث إِلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أحدِّثك قولاً قام به النبيّ صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلّم به: حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

"إِن مكّة حرّمها الله، ولم يُحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضدَ بها شجرةً، فإِن أحد ترخَّص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا: إِن الله قد أذن لرسوله، ولم يأذن لكم،

ص: 1673

وإِنما أذن له فيها ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، وليبلِّغ الشاهد الغائب".

فقيل لأبي شريح: ما قال عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، لا يعيذُ عاصيًا، ولا فارًّا بدم، ولا فارًّا بخربة! (1)

وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم افتتح مكّة: "لا هجرة، ولكن جهاد ونيّة، وإِذا استُنفرتم فانفروا، فإِن هذا بلدٌ حرّم الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إِلى يوم القيامة، وإِنه لم يحلّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحلّ لي إِلاّ ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إِلى يوم القيامة، لا يعضدُ شوكه، ولا يُنفَّر صيده، ولا يلتقطُ لُقطته إِلاّ من عرّفها، ولا يُختلى خلاها".

قال العباس: يا رسول الله! إِلاّ الإِذخر، فإنه لقَيْنهم ولبيوتهم، قال:"إِلا الإِذخر"(2).

(1) البخاري: 3 - العلم (104)، وانظر (1832، 4295)، وخلق أفعال العباد (51)، ومسلم (1354)، وأحمد: 4: 31، 32، 384، 385، وأبو داود (4504)، والترمذي (809، 1406)، والنسائي: 5: 205 - 206، والكبرى (5846)، والفاكهي: أخبار مكة (1493)، والبيهقي: الدلائل: 5: 82 - 83، والطحاوي: شرح مشكل الآثار (4791)، ومعاني الآثار 2: 261، والطبراني: الكبير: 22 (484).

(2)

البخاري: 28 - جزاء الصيد (1834)، وانظر (2783، 2825، 3077)، ومسلم (1353)، وعبد الرزاق (9713)، وأحمد: 1: 226، 259، 315 - 316، 355، وابن أبي عاصم: الجهاد (261)، والدارمي: 2: 239، والترمذي (1590)، والنسائي: 5: 203، 204، 7: 146، وأبو داود (2018، 2480)، والطحاوي: شرح المشكل (2615، 2616، 3138)، والقضاعي (846)، والطبراني: الكبير (10943، 10944)، وابن حبان (4592).

ص: 1674

ومن الطبيعي أن يحنّ المسلم، لا سيما الوافد من مكان بعيد إذا قضى حجّه، (1) وأدّى مناسكه، إلى مهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم!

إلى المسجد الذي انبثق منه النور، وانطلقت منه موجة الهداية والعلم، وقوّة (الدين القيم) في العالم كله!

إلى المدينة المنوّرة التي آوى إليها الإِسلام -كما سيأتي- وتمثّلت فصول التاريخ الإِسلاميّ الأوّل، وشهد ترابها جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم، وابتل بدماء الشهداء، فيصلِّي في المسجد الذي تعادل صلاة فيه ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام!

يروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إِلا المسجد الحرام"(2).

ويروي البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة" قال البزار: إسناده حسن. (3)

ويشهد المسلم مواقف الشهداء والصّدّيقين، والسابقين الأوّلين، فيستمدّ

(1) انظر كتابنا: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} : 45 يتصرف.

(2)

البخاري: 20، فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1190)، ومسلم (1394)، ومالك: 1: 196، وابن أبي شيبة: 2: 371، والدارمي: 1: 330، وأحمد: 2: 256، 386، 366، 473، 485، والحميدي (940)، وأبو يعلى (5857)، والطحاوي: شرح المشكل (596، 604)، والترمذي (325، 3916)، والنسائي: 5: 35، 142، والكبرى (684)، وابن ماجه (1404)، وابن حبان (1621، 1625).

(3)

انظر: فتح الباري: 3: 67.

ص: 1675

الصدق والإيمان، والحبّ والحنان، والبطولة والشهادة، ويصلي ويسلّم على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتعرّف معالم الطريق إلى الله عز وجل!

ويعود المسلم بذاكرته إلى مكّة، حين يقرأ ما رواه مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحلّ لأحدكم أن يحمل بمكّة السلاح"(1).

وفي رواية قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِن إِبراهم حرّم مكّة، وإِنِّي حرّمت المدينة، ما بين لابَتَيها، لا يُقطع عضاهها، ولا يُصاد صيدها"(2).

ويقرأ ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة، ومنبري على حوضي"(3).

وتسيطر علينا روحانيّة عالية، يعجز القلم عن تصويرها .. وتهبّ نفحات حرمة الزمان والمكان. ونتعرّف معالم الطريق إلى الأمن والسلام، في عالم أحوج ما تكون الإنسانيّة فيه إلى معرفة معالم هذا (الدّين القيم)، ليبصر العالم طريق الهداية إلى السلام الذي يسكبه هذا الدّين في الحياة كلها!

(1) مسلم: 15 - الحج (1356)، والبيهقي: 5: 155، والبغوي (2005)، وابن حبان (3714).

(2)

مسلم (1362).

(3)

البخاري: 29 - فضائل المدينة (1888)، وانظر (6588، 7335)، ومسلم (1391)، ومالك: 1: 197، وأحمد: 2: 236، 401، 438، وعبد الرزاق (5243)، وابن سعد: 1: 253، وابن أبي شيبة: 11: 439، والبيهقي: 5: 246، وابن عبد البر: التمهيد: 2: 5286، والطحاوي: شرح المشكل (2878)، والطبراني: الصغير (1110)، وأبو نعيم: أخبار أصبهان: 2: 276، 332، والترمذي (3916)، وابن حبان (3750).

ص: 1676