الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جواب الشكوى
أمّا القصيدة الثانية للمفكر الإِسلامي المرحوم محمَّد إقبال (1) فهي جواب الشكوى، تخيّلها إقبال صوتاً سماويًّا يدوي بصيحة الحق، جواباً لهذه الشكوى التي تبدو في صرختها المتململة المضطربة كأنها خيال جائر لا يقوم على الحجّة والبرهان، ولا يستقرّ على دليل من الواقع!
قال إقبال: كل كلام يصدر عن القلب يترك أثره في القلوب، والأفكار الصادقة لا أجنحة لها، ولكنها تسبق الطيور، وكل كلام قدسي المنبع فهو أبداً يتجه إلى العلا، ومن عجيب أنه نجم من التراب، ومتى صعد كان أول منازله السحاب!
كان عشقي فاتناً ساحراً جموحاً، فشق ستار السماء بأنين لا يتهيّب، ولا يرتعد، ولمّا سمع شيخ السماء زفرات الشكوى والبكاء قال:(إنه في مكان ما كائن يتكلّم)، فتساءلت النجوم والسيارات في عجيب وإنكار وكيف اقترب هذا الكائن من بساط العرش الرفيع)، فقال القمر:(إنه إنس من أهل الأرض)، وقالت المجرّة:(عجبت لهذا الإنسان، كيف يستتر عن العيون، ويختفي عن المادة، خلف الظنون)!
هكذا كان الجميع يشتجرون في أمري، فلا يهتدون، ولئن كان من بينهم من فهم الشكوى، وعرف النجوى، فهو رضوان .. إذ قال:
(إنه قوي العنصر، رفع الله مكانته، وأسجد له ملائكته)!
وسأل سائل: كيف تعلمتْ هذه القبضة من التراب أن تخترق من
(1) السابق: 89 وما بعدها تصرف.
العناصر كل حجاب .. حقاً إن سكان الأرض المستخلصين فيها لمخلوقات جامعة .. !
هذا هو نفس آدم ما أقدره في علم الكيف والكم! ولكن ما أجهله بأسرار العجز والفناء!
وأخيراً دوى صوت تفزّعت له الجنبات، واخترق بجلجلته ذرات النيرات:
(يا هذا! إن قصتك محزنة شائكة، وقدحك مليء بدموع مضطربة حيرى، ولقد أطافت صيحتك بالسماوات، فما أبعد قلبك المجنون عن قرار السكون، ولكنك على كل حال أعلنت شكواك، فأثبت قدرة الخالق فيك)!
لقد مددنا بساط الكرم، فأين السائلون، ومهدنا الطريق إلى المجد، فأين السالكون!
لقد أنزلنا الأنوار على الفطر، ولكن الجواهر ظلت غير قابلة، وكأن هذا التراب ليس الذي جبلت منه البداية الأولى للإنسانية العالية!
إن الإنس كما ترى قد نسوا ناموس فطرتهم، وتغيّر ترابهم، ولو أنهم أدركوا سرّ خلْقهم، وحكمة وجودهم، لأعطوا فوق ما يطلبون، ونالوا من العظمة فوق ما ينشدون، ولكن الأداة أدركها الفساد، ومالت القلوب إلى الإلحاد .. !
وهؤلاء المتأخرون في هذه الأمّة قد أصبحوا خجلاً لماضيها، وتوهيناً لعظمتها!
لقد انقرض الذين هدموا الأصنام وجعلوها جذاذاً تحت الرغام .. أما هؤلاء فقد جدّدوا لها البنيان، وأصبحوا صنّاعها في هذا الزمان، كانوا هم أبناء إبراهيم، غير أنهم أقرب إلى آزر القديم!
الشارب والخمر جديدان، والدنّ أيضاً جديد، وها هي أصنام جديدة، تطبع الأجيال الحديثة على غرارها!
لقد انطوى عهد أولئك الذين لهم من سمات الجلال ما هو خليق بالدّلال .. إنهم كانوا مرآة متاع العظمة، وصفاء موسم الورود، وشقائق نعمان الصحراء، وأغنية أحلام البيداء!
ويومئذ تفانى كل مسلم في الله .. وكان يوم محمَّد المحبوب مهرجاناً للشعوب!
هل لكم في عهد جديد تكونون فيه عبيداً لله، وجنوداً لمحمد، وجواهر في عقد الملّة .. !.
أَنَّى وقد أصبح عسيراً عليكم، وثقيلاً على أجفانكم، أن تستقبلوا نور الصباح بتكبيرة صلاتكم، وصحو حياتكم، لكأن الطبائع قد نامت منع الأجفان، وما أشبه نهار المنام بليل الظلام!
أليس رمضان يقيّد حرّيتكم، ويخالف مدنيّتكم .. فاشهدوا على أنفسكم، أهذا هو الوفاء لماضيكم وملتكم؟!
إن وجود الشعب من وجود الملّة، والدّين في الأمّة هو قوام الدّولة، فإذا ذهب الدّين فما أنتم بباقين!
الدّين هو الذي يجمعكم صفًا واحداً، ولولا التساند بين الكواكب لم ينعقد حفل النجوم، ولم يسطع جمال القمر الساحر!
من هؤلاء الذين ضاعت علومهم وفنونهم من الدّنيا؟!
ومن أولئك الذين لا يبالون أن يعيشوا بلا مأوى؟
بل ما هذا البيدر الذي لم تجد الصواعق مكاناً تستقرّ فيه نيرانها سواء؟!
تم مَن هؤلاء الذين يبيعون تركة الآباء، ويحاولون الشهرة بتجارة القبور؟!
لعلكم تستطيعون بأنفسكم أن تدركوا الجواب عما تسألون، فأيّ هذه الحقائق تنكرون؟
ومن أولئكم الأبرار الأخيار الذين محوا الأباطيل من صحائف الأجيال والأمصار؟!
مَن الذين حرّروا شعوب الإنسانيّة من الذل؟!
من الذين عمروا الكعبة بجباههم؟
ومن الذين ضَمُّوا القرآن إلى صدورهم؟!
أليسوا آباءكم وأجدادكم، وقد بقيتم بعدهم تضعون يداً على يد، وترتقبون ما يأتيكم به الغد؟!
لقد وُعد المسلمون جمال الحور، ونعيم القصور، ووعدوا خلافة الأرض، وأن تدين لهم الدنيا بكنوزها، والأرض بخيراتها، والسماء بنجومها، وملائكتها، والآخرة بجنّاتها ونعيمها!
ها هي الدنيا قد أفلتت من أيديكم؛ لأن أيديكم قد أصبحت طليقة من سنن الفطرة، ومن عروة الدّين، أليس ربكم هو الذي يقيم العدل والحق، وهو أحكم الحاكمين؟
أكنتم تنتظرون أن يعمل أعداؤكم في الأرض، وأن يتخلقوا بأخلاق أسلافكم في الجهاد، وينفقوا أوقاتهم في الزراعة، ثم يحرموا الحصاد؟!
ولقد سار الكافر في طريق المسلم الأوّل فأعطي حظاً من الدنيا، ولكنكم لا تنشدون اليوم محاسن الحور ولا كنوز القصور!
ألا لقد بقي تجلّي النور، ولكن ذهب الكليم من الطور!
إن أمر المسلمين في الخسارة والربح واحد، والذي يقع لأقصاهم ينال أدناهم .. أليس نبي الجميع واحداً. وكذا الدّين والإيمان والحرم والقرآن؟!
وإلهكم إله واحد، فهل كان من الصعب أن تحيوا متّحدين؟
نار العصبية هنا، وجذوة الجنسيّة هنالك .. فحدّثوني عن قوم أدركوا نجاحهم بالفراق، ونالوا سعادتهم بالشقاق!
لقد تركتم القرآن، وجعلتم مقياس رقيّكم صلاحية الزمان، واتخذتم من المدنيّة كل شعار، واتبعتم سبيل الأغيار، فلم يبق في القلوب مذاق، ولا للوعة احتراق!
ها هي مساجد الله لا يعمرها غير فقرائكم، فهم الصائمون والمصلّون، وهم العابدون الذاكرون، وهم الساترون لعيوبكم، وأنتم ترحمون!
أمّا الأغنياء فهم في سكر غفلتهم معرضون!
ومن عجيب أن الملّة البيضاء ما تزال قويمة البناء، ممتدّة النماء بحرارة أنفاس الفقراء!
ولقد فقدتم القوّة في سحر الكلام، ومررتم بالمواعظ مرّ الكرام، ولولا روح من بلال ما بقي للأذان جمال!
مساجدكم تبكي قلّة صفوفها، والمحراب موحش من المصلّين، والمنابر ساخرة من سيوف تحوّل حديدها إلى خشب لا يقاوم النار!
أما دياركم فقد امتلأت بالمفاخر والرتب والألقاب، الميرزا في إيران وفي غيرها الصاحب والخان، ولكننا ننشد رتبة المسلم في هذه الأوطان!
عندما كان المسلم ينهض إلى طلب المجد فكم اقتحم الصعاب، وعزمه غير هيّاب!! وكم كان عدله ميزاناً للصواب لم يلوّثه رياء، ولم يفسده دهاء، تخطى بشجاعته الأوهام، وفاق الأحلام!! .. كان خالياً من المقاصد الشخصيّة، والمتع النفسيّة، مثل الكأس المليئة بالشراب وشرابها لغيرها!
وكان المسلم مشرطاً لعروق الباطل، وكان العمل في قانون حياته هو الجوهر لا العرض، معتمداً على قوّة ساعده بعد ربّه .. وإذا كنتم تخافون الموت، فقد كان خوفه من الله الذي خلق الموت والحياة!
أين فيكم دولة عثمان ورفده؟! وفقر عليّ وزهده؟! وما الذي بقي لديكم من فضائل المسلمين الأوّلين، وتراث المؤمنين السابقين؟!
لقد أصبح بعضكم يبغي على بعض، بينما هم كانوا متراحمين! كم تخطئون وتغتابون الصالحين؟! وكم ستروا عيوب الخلق وهم أئمة المتقين؟!
أيطمع كل امرئ منكم أن يبلغ أوج الثّريّا بلا عزم قويم، ولا قلب سليم؟!
لقد ملكوا عرش (كسرى) وسرير (كيقباد) وتاج (فخفور) وعظمة القياصر؟!
أما أنتم فقد اقتنيتم الكلام وأكثرتم الأوهام!
لقد كانوا حكّام أنفسهم قبل أن يكونوا حكّام الخلق!
وكانوا بناة الأخوّة والاتحاد في الأمّة، وأنتم تفقدون المودّة حتى في الأسرة!
كانت حياتهم عملاً، وأصبحت حياتكم أملاً، تبحثون عن الزهرة فلا تجدونها، أما هم فقد كان لهم من الدنيا بستانها، وصار لهم من الآخرة رضوانها، لا تزال الشعوب تؤلف من مجدهم الأنغام، ولا تزال عاطرة بذكرهم الأيام، فهم نجوم الآفاق ونور الأخلاق!
عاشوا أصواتهم أحرار القلوب، وبراهمة بيت المحبوب .. !
ابتعدوا عن الأوكار، وهجروا الدّيار، وأقاموا على النجوم المطار!
أمّا شباب اليوم فالعطلة والفقر والشقاء، وينسبون إلى الدّين ما لحقهم من بلاء .. ومنهم بليّتهم، ولكن لا يشعرون .. !!
لقد أطلقتهم المدنيّة من القوانين، فعاشوا مستهترين، صنعت لهم هيكل الصنم فألهتهم عن جلال الحرم .. فلم يبق قيس يحن إلى ليلى بين الشعاب .. بل يتمنّى في حرّية العشق أن يرى ليلى بغير حجاب، وأن يشهد جمالها بغير نقاب!
هذا الشباب يستطيع لو شاء في عهد جديد أن يجدِّد قوّة الإيمان، وأن يحمل شعلة الهداية يوقدها من تعاليم خاتم الأنبياء والرسل، فتنشر في الربوع إيمان إبراهيم .. فالنار قد تحرق، وقد تنضج أيها الشاكي الولهان .. لا تحزن من رؤيةَ البستان، وقد فقد زاهي الألوان، فسرعان ما تلمع الأزهار من كواكب البراعم، ويتلألأ دم الشهداء على شفاه الورود .. ألا ترى السماء بلونها العنابي، أليس هذا لمعان الأفق يستقبل اليوم الجديد، ويستبشر بالشمس الطالعة!
انظر إلى الأرض .. هلا ترى قوماً يلتقطون الثمار، وآخرين في البوار!
ألا ترى مئات النخيل خاوية الأشجار، بينما مئات أخرى في باطن الأرض، في طريقها إلى ربيع الحياة، فلو سقيناها من تعاليم الملة السمحة لأينعت ونمت، فنخيل الإِسلام أنموذج للإثمار والنماء!
واستطرد إقبال يبيّن أن المسلم لا وطن له ولا مكان، ولن يفنى مسلم بفناء الأزمنة والأوطان، إذ لا علاقة بين الكأس وسكر الشراب، ولقد تعرّضت الأوطان الإِسلاميَّة لهجمات التتار، وما حدث من غوغاء إثر حملات البلقان، وكان كل ذلك امتحاناً لذاتية المسلم، فما ارتاع، ولكن بقي الإِسلام والمسلم في كل البقاع!
فلماذا إذن يرتاع مسلم اليوم من صهيل خيل الأعداء، ولن يطفئ ذلك نور الحق الوضاء!
فهيّا أظهر حقيقتك للأقوام والشعوب، فمحافل الأكوان في حاجة إليك ترنو إلى حرارة أنفاسك، ومضاء عزمك .. فلتتدفق دماؤك بالحرارة ليحيا الدهر في حماية دينك!
إن خلافة الأرض لك فكن بها خليقاً .. وقم لتثبت وجودك فيتمّ بك نور التوحيد .. فإنك عطر، ولكن حبستك عن العالم براعم وزهرات .. فقم واحمل الأمانة في عنقك، وانشر أنفاسك، حتى تعطر نسيم البستان!
لا تكن كنغمة الأمول حبيسة الشواطئ، ولكن كن فيّاضاً بالعمل، وانشر جناحك حول الآفاق، وأنر الدهر بنور إيمانك، وأرسل الضياء بقوّة يقينك، وباسم نبيّك!
فلو لم يكن الزهر في البستان ما تغني قمري على الأغصان، وما صدحت العنادل بأعذب الألحان، ولو لم تبتسم البراعم بين الأوراق ما رأيت ابتسام الزهر في حديقة الدهر، ولو لم يكن اسم محمَّد لما نبض الوجود بالحرارة!
وإليك القصيدة:
* * *
كلام الروح للأرواح يسري
…
وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح
…
وشق أنينه صدر الفضاء
ومعدنه ترابي ولكن
…
جرت في لفظه لغة السماء
لقد فاضت دموع العشق مني
…
حديثاً كان علوي النداء
فحلق في ربا الأفلاك حتى
…
أهاج العالم الأعلى بكائي
* * *
تحاورت النجوم وقلن صوت
…
بقرب العرش موصول الدعاء
وجاوبت المجرة علّ طيفًا
…
سرى بين الكواكب في خفاء
وتمال البدر هذا قلب شاك
…
يواصل شدوه عند المساء
ولم يعرف سوى رضوان صوتي
…
وما أحراه عندي بالوفاء
ألم أك قبلُ في جنات عدن
…
فأخرجني إِلى حين قضائي
* * *
وقيل هو ابن آدم في غرور
…
تجاوز قدره دون ارعواء
لقد سجدت ملائكة كرام
…
لهذا الخلق من طين وماء
يظن العلم في كيف وكم
…
وسرّ العجز عنه في انطواء
وملء كؤوسه دمع وشكوى
…
وفي أنغامه صوت الرَّجاء
فيا هذا لقد أبلغت شيئاً
…
وإِن أكثرت فيه من المراء
* * *
عطايانا سحائب مرسلات
…
ولكن ما وجدنا السائلينا
وكل طريقنا نور ونورٌ
…
ولكن ما رأينا السالكينا
ولم نجد الجواهر قابلات
…
ضياء الوحي والنور المبينا
وكان تراب آدم غير هذا
…
وإِن يك أصله ماء وطينا
ولو صدقوا وما في الأرض نهر
…
لأجرينا السماء لهم عيونا
وأخضعنا لملكهم الثّريّا
…
وشيّدنا النجوم لهم حصونا
ولكن ألحدوا في غير دين
…
بني في الشمس ملك الأوّلينا
تراث محمَّد قد أهملوه
…
فعاشوا في الخلائق مهمَلينا
تولّى هادم الأصنام قدما
…
فعاد لها أولئك يصنعونا
أباهم كان إِبراهيم ولكن
…
أرى أمثال آزر في البنينا
وفي أسلافكم كانت مزايا
…
بكل فم لذكراها نشيد
تضوع شقائق الصحراء عطراً
…
بريّاها وتبسم الورود
فهل بقيت محاسنهم لديكم
…
فيجعل في دلالكم الصدود
لقد هاموا بخالقهم فناء
…
فلم يكتب لغيرهم الخلود
وكوثر أحمدٍ منكم قريب
…
ولكن شوقكم عنه بعيد
وكم لاح الصباح سناً وبشرى
…
وأذَّنت القماري والطيور
وكبَّرت الخمائل في رباها
…
مصلِّيةً فجاوبها الغدير
ونوم صباحكم أبداً ثقيلٌ
…
كأن الصبح لم يدركه نور
وأضحى الصوم في رمضان قيداً
…
فليس لكم به عزمٌ صبور
تمدّن عصركم جمع المزايا
…
وليس بغائبٍ إِلا الضمير
لقد ذهب الوفاء فلا وفاء
…
وكيف ينال عهدي الظالمينا
إِذا الإِيمان ضاع فلا أمان
…
ولا دنيا لمن لم يُحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دينٍ
…
فقد جعل الفناء لها قرينا
وفي التوحيد للهمم اتحاد
…
ولن تبنوا العلا متفرقينا
تساندت الكواكب فاستقرت
…
ولولا الجاذبية ما بقينا
غدوتم في الديار بلا ديار
…
وأنتم كالطيور بلا وكور
وكل صواعق الدنيا سهام
…
لبيدركم وأنتم في غرور
أهذا الصقر في علم ومال
…
وأنتم في القطيعة والنفور
وبَيع مقابر الأجداد أضحى
…
لدى الأحفاد مدعاة الظهور
سيعجب تاجرو الأصنام قدماً
…
إِذا سمعوا بتجار القبور
من المتقدّمون إِلى المعالي
…
على نهج الهداية والصواب؟
ومن جبهاتهم أنوار بيتي
…
وفي أخلاقهم يُتلى كتابي؟
أما كانوا جدودكم الأوالي
…
بناة المجد والفن العجاب؟
وليس لكم من الماضي تراث
…
سوى شكوى اللغوب والاكتئاب
ومن يك يومه في العيش يأساً
…
فما غده سوى يوم العذاب
أتشكو أن ترى الأقوام فازوا
…
بمجد لا يراه النائمونا
مشوا بهدي أوائلكم وجدوا
…
وضيعتم تراث الأوّلينا
أيحرم عامل وِرد المعالي
…
ويسعد بالرّقيّ الخاملونا
أليس من العدالة أن أرضي
…
يكون حصادها للزارعينا
تجلّي النور فوق الطور باق
…
فهل بقي الكليم بطورسينا؟
ألم يبعث لأمّتكم نبيّ
…
يوحّدكم على نهج الوئام
ومصحفكم وقبلتكم جميعاً
…
منارٌ للأخوّة والسلام
وفوق الكلّ رحمان رحيمٌ
…
إِلهٌ واحدٌ رب الأنام
فما نهار ألفتكم تولّى
…
وأمسيتم حيارى في الظلام
وحسن اللؤلؤ المكنون رهن
…
بصوغ العِقد في حسن النظام
وكيف تغيّرت بكم الليالي
…
وكيف تفرّقت بكم الأماني
تركتم دين أحمدَ ثم عدتم
…
ضحايا للهوى أو للهوان
رقي الشعب قد أضحى لديكم
…
تقرّره صلاحية الزمان
وكيف تقاس أوهام ولغو
…
بحكمة مُنزل السبع المثاني؟
أرى ناراً قد انقلبت رماداً
…
سوى ظلّ مريض من دخان
أرى الفقراء عباداً تقاةً
…
فياماً في المساجد راكعينا
هم الأبرار في صوم وفطر
…
وبالأسحار هم يستغفرونا
وليس لكم سوى الفقراء ستر
…
يواري عن عيوبكم العيونا
أضلت أغنياءكم الملاهي
…
فهم في ريبهم يترددونا
وأهل الفقر ما زالوا كنوزاً
…
لدين الله رب العالمينا
أرى التفكير أدركه خمول
…
ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير سحر
…
ولا نور يطل من المقال
وعند الناس فلسفة وفكر
…
ولكن أين تلقين (الغزالي؟)
وجلجله الأذان بكل أرض
…
ولكن أين صوت من (بلال؟)
منائركم علت في كل حيّ
…
ومسجدكم من العبّاد خالي
فأين أئمّة وجنود صدق
…
تهاب شَباة عزمهم الحراب
إِذا صنعوا فصنعهم المعالي
…
وإِن قالوا فقولهم الصواب
مرادهم الإله فلا رياء
…
ونهجهم اليقين فلا ارتياب
لأمتهم وللأوطان عاشوا
…
فليس لهم إِلى الدنيا طلاب
كمثل الكأس نبصرها دهاقاً
…
وليس لأجلها صُنع الشراب
جهاد المؤمنين لهم حياة
…
ألا إِن الحياة هي الجهاد
عقائدهم سواعد ناطقات
…
وبالأعمال يثبت الاعتقاد
وخوف الموت للأحياء قبر
…
وخوف الله للأحرار زاد
أرى ميراثهم أضحى لديكم
…
مضاعاً حيث قد ضاع الرشاد
وليس لوارث في الخير حظ
…
إِذا لم يحفظ الإِرث اتحاد
لأي مأثر القوم انتسبتم؟
…
لتكتسبوا فخار المسلمينا
فأين مقام ذي النورين منكم
…
ودولة عزه دنيا ودينا
وفقر عليٍّ الأوّاب هلاّ
…
ربحتم فيه كنز الفاتحينا
أقمتم في الذنوب وفي الخطايا
…
وتغتابون حتى الصالحينا
وهم ستروا عيوب الحلق فضلًا
…
وإِن كانوا أبرّ المتقينا
أريكة قيصر وسرير كسرى
…
قد احتميا بملكهم العميمِ
وأنتم تطمحون إِلى الثّريّا
…
بلا عزم ولا قلب سليمِ
تضيعون الإِخاء وهم أقاموا
…
صروح إِخائهم فوق النجومِ
طلبتم زهرة الدنيا وعدتم
…
بلا زهر يضوع ولا شميمِ
وكان لديهم البستان محضاً
…
وهم أصحاب جنّات النعيمِ
يعيد الكون قصتهم حديثاً
…
وينشئ من حديثهم الفنونا
فكم نزحوا عن الأفكار شوقاً
…
إِلى التحليق فوق العالينا
ويأس شبابكم أدمى خطاهم
…
فظنوا فيه بالدين الظنونا
هي المدنية الحمقاء ألقت
…
بهم حول المذاهب حائرينا
لقد صنعت لهم صنم الملاهي
…
لتحجب عنهم الحق الأمينا
لقد سئم الهوى في البيد قيس
…
ومل من الشكاية والعذاب
يحاول أن يباح العشق حتى
…
يرى ليلاه وهي بلا حجاب
يريد سفور وجه الحسن لما
…
رأى وجه الغرام بلا نقاب
فهذا العهد أحرق كل غرس
…
من الماضي وأغلق كل باب
لقد أفنت صواعقه المغاني
…
وعاثت في الجبال وفي الهضاب
هي النار المجديدة ليس يُلقى
…
لها حطب سوى المجد القديم
خذوا إِيمان إِبراهيم تنبت
…
لكم في النار روضات النعيم
ويذكر من دم الشهداء ورد
…
سنيّ العطر قدسىّ النسيم
ويلمع في سماء الكون لون
…
من العناب مخضوب الأديمِ
فلا تفزع إِذا الرجان أضحى
…
عقوداً للبراعم والكرومِ
فكم زالت رياض من رباها
…
وكم بادتْ نخيل في البوادي
ولكن نخلة الإِسلام تنمو
…
على مر العواصف والعوادي
ومجدك في حمى الإِسلام باق
…
بقاء الشمس والسبع الشداد
وانك يوسف في أرض مصر
…
يرى كنعانه كل البلاد
تسير بك القوافل مسرعات
…
بلا جرس ولا ترجيع حادي
ضياؤك مشرق في كل أرض
…
لأنك غير محدود المكان
بغت أمم التتار فأدركتها
…
من الإِيمان عاقبة الأمان
وأصبح عابدو الأصنام قدماً
…
حماة الحجر والركن اليمان
فلا تجزع فهذا العصر ليلٌ
…
وأنت النجم يشرق كل آن
ولا تخش العواصف فيه وانهض
…
بشعلتك المضيئة في الزمان
أعد من مشرق التوحيد نوراً
…
يتم به اتحاد العالمينا
وأنت العطر في روض المعاني
…
فكيف تعيش محتبساً دفينا
وأنت نسيمه فاحمل شذاه
…
ولا تحمل غبار الخاملينا
وأرسل شعلة الإِيمان شمساً
…
وصغ من ذرةٍ جبلاً حصينا
وكن في قمة الطوفان موجاً
…
ومزناً يمطر الغيث الهتونا
فباسم محمَّد شمس البرايا
…
أقيمت خيمة الفلك المنير
تلألأ في الرّياض وفي الصحاري
…
وفوق الموج والسير المغير
ونبض الكون منه مستمد
…
حراراته على مرّ العصور
ومن مرّاكش يغزو صداه
…
ربوع الصين بالصوت الجهير
وما مشكاة هذا النّور إِلا
…
ضمير المسلم الحرّ الغيور
ورفع الذكر للمختار رفع
…
لقدرك نحو غايات الكمال
فكن إِنسان عين الكون واشهد
…
مقامك عالياً فوق المعالي
بخنجر عزمك الوثاب لاحت
…
على الأعلام أنوار الهلال
نداؤك في العناصر مستجاب
…
إِذا دوى بصوت من بلال
وعقلك في الخطوب أجلّ درع
…
وعشقك خير سيف للنضال
خلافة هذه الأرض استقرت
…
بمجدك وهو للدنيا سماء
وفي تكبيرك القدسي يبدو
…
صغيراً كل ما ضمّ الفضاء
فيا من هب للإِسلام يدعو
…
وأيقظ صدق غيرته الوفاء
سترفع قدرك الأقدار حتى
…
تشاهد أن ساعدك القضاء
وقيل للث احتكم دنيا وأخرى
…
وشأنك والخلود كما تشاء