الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحمايته له، وهم يعلمون مكانة أبي طالب فيهم، ويعلمون أن بني هاشم وإخوتهم بني المطلب لا يخالفون عن أمره، ولا يخذلونه في مواقف الجد، ونوازل الأحداث، وأنهم مناصروه على من ناوأه، أو حاول النّيل منه، وهم أشدّ شكيمةً في قومهم على من نابذهم العداوة واللدد!
3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:
ومن ثم عمدت بطون زعماء قريش إلى أبي طالب، يلقونه شاكين إليه ابن أخيه، ومشى إليه منهم وهي من رؤوسهم وزعمائهم (1) .. والرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بقوة لا تقهر، وعزيمة لا تفل!
ومن ثم زاد ملأ قريش سوءاً على سوئهم، وشرى الأمر بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبينهم، واشتدّ التأزم، ولحق الحنق قلوبهم، وتباعد الرجال، وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها، وشنفوا له، وحضّ بعضهم بعضاً عليه، ورأوا أن عمه أبا طالب لم يعتبهم في شأنه، وازداد حدبه عليه، وحرصه على منعه وحمايته!
وهنا مشوا إليه مرة ثانية، يذكّرونه بأمرهم معه، وما قالوه له في شكايتهم أول مرّة، ويضيفون إلى ذلك لوناً من التهديد والوعيد (2)!
وروى ابن إسحاق من حديث عقيل بن أبي طالب، أن أبا طالب أرسل عقيلاً إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلمَّا حضر قال له عمه: إِن بني عمّك هؤلاء قد
(1) انظر: ابن هشام: 1: 328 من رواية ابن إسحاق بدون إسناد، وابن إسحاق 145 وسنده معلق.
(2)
انظر: المرجع السابق: 329.
زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم! فحلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إِلى السماء، فقال:" أترون هذه الشمس؟ " قالوا: نعم، قال:"فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم، على أن تشتعلوا منها شعلةً" فقال أبو طالب: والله! ما كذبنا ابن أخي، فارجعوا (1)!
وذكر ابن إسحاق أن قريشاً حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه، وإجماعَه لفراقهم في ذلك وعداوتهم، مشَوْا إليه بعمارة ابن الوليد بن المغيرة، فقالوا له، فيما بلغني (2):
يا أبا طالب: هذا عُمارة بن الوليد، أنْهَدُ فتىً فتىً قريش وأجمله، فخذه ذلك عَقْله، ونَصْره، واتّخذه ولداً فهو لك، وأسْلِمْ إِلينا ابن أخيك، هذا الذي قد خالف دينَك ودين آبائك، وفرّق جماعة قومك، وسفّه أحلامهم، فَنَقْتله، فإِنما هو رجل برجل، فقال: والله! لبئس ما تسومونني! أُتعطُوني ابنكم أغذوه لكم، وأُعْطيكم ابني تقتلونه! هذا والله! ما لا يكون
(1) ابن إسحاق: 155 بإسناد حسن، وقال الهيثمي: "المجمع: 6: 15 رواه أبو يعلى باختصار يسير من أوله، ورجاله رجال الصحيح، وانظر: فقه السيرة: الغزالي: 114 - 115، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية:167.
أما ما رواه ابن إسحاق بسند منقطع: 154، وابن هشام: 1: 329 - 330، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ": "يا عم، والله! لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته. قال: ثم استعْبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكى، ثم قام، فلمَّا ولّى ناداه أبو طالب، فقال: أقبل يا بن أخي، قال: فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب يا بن أخي، فقل ما أحببت، فوالله! لا أُسلمك شيء أبداً"! والطبري: 2: 326، والكلاعي: الاكتفاء في مغازي المصطفى: 187 من طريق ابن إسحاق. ومع ذلك فالحديث مشهور، ونقله كثيرون!
(2)
ابن هشام: 1: 330 بدون إسناد.
أبدًا! قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله! يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك، وجهدوا على التخلّص مما تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً! فقال أبو طالب للمطعم: والله! ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعْت خذلاني ومُظاهرة القوم عليّ، فاصنع ما بدا لك، أو كما قال: فحقَب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضُهم بعضاً! فقال أبو طالب عند ذلك يعرّض بالمطعم بن عدي، ويَعُمُّ مَن خذله مَن بني عبد مناف، ومَن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه، وما تباعد مِن أمرهم:
ألا قُل لعمرو والوليد ومُطعم
…
ألا ليت حظِّي من حياطتكم بَكْرُ (1)
مَن الخُور حبْحاب (2) كثيرٌ رخاؤُه
…
يُرَشُّ على الساقين من بوله قطْر
تخلّف خلْف الورد ليس بِلاحق
…
إِذا ملا علا الفيفاء قيل له وبْر (3)
أرى أخوَيْنا من أبينا وأُمّنا
…
إِذا سُئلا قالا إِلى غيرنا الأمر
(1) الحفاظ والحفيظة: الغضب، وقال بعضهم: لا يكون الحفاظ إلا في الغضب خاصة، والقول الأول أصح، ويروى من حياطتكم وهي معلومة، والبكر: الفتى من الإبل.
(2)
الخور جمع أخور، وهو الضعيف، وحبحاب يروى بالخاء المعجمة، وبالحاء وبالجيم، قال ابن سراج: بالجيم الكثير الكلام، فاستعاره هنا للرغاء، وبالحاء القصير، وبالخاء الضعيف.
(3)
الفيفاء: القفر، ووبر: دويبة على قدر الهرة.
بَلى لهما أمر ولكن تَجَر جَما (1)
…
كما جُرْجِمت من رأس ذي علق (2) الصخر
أخُصُّ خُصوصاً عبد شمس ونوفلا
…
هما نبذانا مثل ما يُنبذ الجمر
هما أغْمَزَا لِلْقوم (3) في أخوَيْهما
…
فقد أصبحا منهم أكفهما صفر (4)
هما أشركا في المجد من لا أبا له
…
من الناس إِلا أن يُرَسّ له ذكر (5)
وتيْم ومخزوم وزهرة منهمُ
…
وكانوا لنا مولى إِذا بُغي النصر
فوالله! لا تنفكّ منا عداوة
…
ولا منهم ما كان من نسلنا شَفْر (6)
فقد سُفهت أحلامُهم وعقولهم
…
وكانوا كجفر بئس ما صنعت جفر
(1) تجرجما: أي سقطا وانحدرا، يقال: تجرجم الشيء إذا سقط.
(2)
ذو علق: جبل في ديار بني أسد.
(3)
أغمزا للقوم: أي سببا لهم الطعن فيهم، يقال: غمزت الرجل إذا طعنت فيه.
(4)
الصفر: الخالي من الآنية وغيرها.
(5)
يرسّ له ذكر: معناه أن يذكر ذكراً خفيًّا، يقال: رسست الحديث، إذا حدّثت به في خفاء.
(6)
من نسلنا شفر: أي أحد، يقال: ما بالدار أحد، وما بها شفر، أي ما بها أحد.
أهذا منتهى تقدير الرجوليّة في نظركم يا هؤلاء (1)؟!
تبًّا لهذه الحياة إن كان مثلها الأعلى في شبابها ورجوليّتها وفتوّة فتيانها جسامة بضّة، وجمال مظهر مائع، وميعة شباب تافه، وتمايل أعطاف مرذول!
لقد مشى ملأ الوثنّية الماديّة إلى أبي طالب منتفخة أوداجهم، يقودون فتاهم بشحمه، وبضاضة جسمه، وهم يقولون له:
قد جئناك بفتى قريش، جمالاً ونسباً ونهادة، ندفعه إليك، فيكون لك نصره وميراثه، فخذه وادفع إلينا ابن أخيك نقتله، فإن ذلك أجمع للعشيرة، وأفضل في عواقب الأمور مغبة، ورجل برجل!
ونظر أبو طالب إلى هذه الأشباح التي تكلمه، وهي تقود فتاها بنسعة الغرور الكذوب!
وحدّث أبو طالب نفسه، هامساً متعجّباً من هذه الرؤوس التي لم تركب في تلافيفها أدمغة تعقل، ولا دُسّ في صدورها قلوب تفقه!
وما قيمة جسامة فتاكم، وبضاضة جسمه وجماله وميعة شبابه، وتمايل عطفيه، وتضاحك شدقيه، في ميزان الرجوليّة الجادّة؟!
وما قيمة ذلك في ميزان الفضائل الإنسانيّة التي تعتزّ بها الحياة في حساب مفاخرها فيمن تدّخرهم لإنقاذها من شروركم؟! أفلا تعقلون؟!
بل ما قيمة فتاكم البضّ التيّاه في شرعة وشائج الطبيعة؟! أفلا تفقهون؟!
وكان أبو طالب -كما أسلفنا- قد استجمع أطراف عزائمه، وراجعته حميّته لابن أخيه، وزاده هذا العرض السخيف الأبله قوّةً وشموخاً، وتبدّى له خذلان الطغيان .. وأنهم جاؤوه بدنيّة الدنيا، ورديلة الرذائل، وحطيطة الجبن!
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 178 وما بعدها بتصرف.
وانتهض أبو طالب للرد عليهم رداً بدّد غرورهم الأبله، وغمز قناة بلاهتهم، فقال لهم كما عرفنا: والله! لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني تقتلونه!
هذا والله! ما لا يكون أبداً!
وله قصيدة طويلة عظيمة بليغة جداً، أفحل من المعلّقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها كما يقول الحافظ ابن كثير وقد أوردها الأموي في مغازيه بزيادات، يخبر قومه وغيرهم أنه غير مُسْلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ولا تاركه لشيء أبداً، حتى يهلك دونه (1)!
(1) انظر: ابن هشام: 1: 338 وما بعدها، والبداية: 3: 5357.
ولم يجد الحافظ ابن كثير: البداية: 3: 41 تفسيراً لذلك سوى أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبّه حباً طبيعياً لا شرعيًّا، وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية؛ إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه، ولا اجترؤوا عليه، ولمدّوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه، وربّك يخلق ما يشاء ويختار!
وقد قسم خلقه أنواعاً وأجناساً، فهذان العمان كافران: أبو طالب، وأبو لهب، ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه، تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمّن أنه سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب! وإشارة الحافظ ابن كثير إلى أن أبا طالب في ضحضاح من نار، إشارة إلى الحديث المتفق عليه عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال للنبي: ما أغنيت عن عمّك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال:"هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار"!
البخاري: 63 مناقب الأنصار (3883)، وانظر (6208، 6572)، ومسلم (209)، وانظر الفتح: 7: 193.