المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌4 - السخرية والاستهزاء: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: ‌4 - السخرية والاستهزاء:

‌4 - السخرية والاستهزاء:

وتطالعنا السخرية والاستهزاء من هؤلاء الذين كانوا يسمعون آيات الله تتلى -كما سبق أن عرفنا (1) - يزعمون أن في مقدورهم أن يأتوا بمثلها لو شاءوا، مع وصف هذا القرآن الكريم بأنه أساطير الأولين:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إلَّا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31)} (الأنفال)!

وذكر ابن كثير أن القائل هو النضر بن الحارث، لعنه الله (2)، كما قد نصّ على ذلك سعيد بن جبير، والسدي، وابن جريج، وغيرهم، فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس، وتعلّم من أخبار ملوكهم (رستم) و (اسفنديار)، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس القرآن، فكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلس جلس فيه النضر، فحدّثهم من أخبار أولئك، ثم يقول: بالله! أيّنا أحسن قصصاً، أنا أو محمد؟

ولهذا لمَّا أمكن الله تعالى منه يوم بدر، ووقع في الأسارى، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرًا بين يديه، ففعل ذلك، ولله الحمد!

وكان الذي أسره -كما سيأتي- المقداد بن الأسود رضي الله عنه!

وتكررت في القرآن الكريم حكايته قول المشركين عن القرآن: إنه أساطير الأولين!

وما كان هذا القول إلا حلقة من سلسلة المناورات التي كانوا يحاولون أن

(1) وانظر أيضاً: ابن هشام: 1: 389 وما بعدها، والبيهقي:"الدلائل": 2: 706207، وسبل الهدى والرشاد: 2: 470.

(2)

تفسير ابن كثير: 2: 304.

ص: 893

يقفوا بها في وجه هذا القرآن (1)، وهو يخاطب الفطرة البشريّة بالحق الذي تعرفه في أعماقها فتهتز وتستجيب، ويواجه القلوب بسلطانه القاهر فترتجف لإيقاعه ولا تتماسك!

وهنا كان يلجأ العلية من قريش إلى مثل هذه المناورات، وهم يعلمون أنها مناورات!

ولكنهم كانوا يبحثون في القرآن عن شيء يشبه الأساطير المعهودة في أساطير الأمم من حولهم، ليموّهوا على جماهير العرب، الذين من أجلهم تطلق هذه المناوَرات، للاحتفاظ بهم في حظيرة العبوديّة للعبيد!

لقد كان الملأ من قريش يعرفون طبيعة هذه الدعوة، مذ كانوا يعرفون مدلولات لغتهم الصحيحة!

كانوا يعرفون أن (شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، معناها إعلان التحرّر من سلطان البشر كافة، والخروج من حاكميّة العباد جملة، والفرار إلى ألوهيّة الله وحده وحاكميّته .. ثم التلقّي في هذه العبوديّة لله عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم!

وكانوا يرون الذين يشهدون هذه الشهادة يخرجون لتوّهم من سلطان قريش وقيادتها وحاكميّتها، وينضمّون إلى التجمع الإسلامي الذي يقوده محمد صلى الله عليه وسلم، ويخضعون لقيادته وسلطانه، وينتزعون ولاءهم للأسرة والعشيرة والقبيلة والمشيخة والقيادة الجاهليّة، ويتوجّهون بولائهم كله لله والرسول، والعُصْبة المسلمة التي تقوم عليها هذه القيادة الإسلاميّة!

(1) في ظلال القرآن: 3: 1502 وما بعدها بتصرف.

ص: 894

كان هذا المدلول واقعاً يشهده الملأ من قريش، ويحسّون خطره عليهم، وعلى الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي يقوم عليها كيانهم!

وهذا ما كان يقضّ مضاجع الملأ من قريش، فيقاومونه بشتّى الأساليب .. ومنها هذا الأسلوب .. أسلوب ادعاء أن القرآن الكريم أساطير الأولين، وأنهم لو شاءوا لقالوا مثله!

ذلك مع تحدّيهم به مرّة ومرّة ومرّة، وفي كل مرّة يعجزون ويَخْنسون!

والأساطير واحدتها أسطورة، وهي الحكاية المتلبسة غالباً بالتصوّرات الخرافيّة، وأقاصيص القدامى وبطولاتهم الخارقة، وعن الأحداث التي تتخللها أساساً تصوّرات الخيال والخرافة!

وقد كان الملأ من قريش يعمدون إلى ما في القرآن من قصص الأوّلين، وفعل الله بالمكذّبين وإنجائه للمؤمنين .. إلى آخر ما في القصص القرآني من هذه "الموضوعات" وقد سجّل القرآن تطاولهم، وردّ عليهم بما يظهر سخف هذا التطاول وكذبه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)} (الفرقان)!

وأكذب شيء أن يقول كفّار قريش هذه المقالة، وهم يوقنون في أنفسهم أنها الفرية التي لا تقوم على أساس (1) .. فما يمكن أن يخفى على كبرائهم الذين يلقنونهم هذا القول أن القرآن الذي يتلوه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم شيء آخر غير كلام

(1) المرجع السابق: 5: 2551 بتصرف.

ص: 895

البشر، وهم كانوا يحسّون هذا بذوقهم في الكلام، وكانوا لا يملكون أنفسهم من التأثّر بالقرآن .. كما كانوا يعلمون عن محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أنه (الصادق الأمين) الذي لا يكذب ولا يخون -كما أسلفنا- فكيف به يكذب على الله، وينسب إليه قولاً لم يقله؟!

ولكنه العناد والخوف على مراكزهم الاجتماعيّة المستمدة من واقعهم الذي يعيشونه، كان يجنح بهم إلى هذه المناورات يطلقونها في وسط جمهور الرب، الذين قد لا يميزون بين الكلام، ولا يعرفون درجته!

{إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} !

قيل: إنهم عبيد أعاجم ثلاثة أو أكثر، هم الذين كانوا يعنونهم بهذه المقالة! وهو كلام متهافت تافه لا يقف للجدال!

فإن كان بشر يملك أن يفتري مثل هذا القرآن بمعاونة قوم آخرين، فما يمسكهم عن الإتيان بمثله، مستعينين بأقوام منهم، ليبطلوا حجة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو يتحدّاهم به وهم عاجزون؟!

ومن ثم لا يجادلهم هنا ولا يناقشهم في هذا القول المتهافت، إنما يدفعهم بالوصف البارز الثابت:{فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} !

ظلماً للحق، ولمحمد صلى الله عليه وسلم، ولأنفسهم، وزورًا واضح الكذب ظاهر البطلان!

ثم يمضي في استعراض مقولاتهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن القرآن: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} !

ذلك لما وجدوا فيه من قصص الأوّلين التي يسوقها للعبرة والعظمة، وللتربية والتوجيه، وهذا استطراد في دعواهم التي لا تقوم على أساس، ولا تثبت للمناقشة!

ص: 896

{قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} !

فأين علم حفاظ الأساطير ورواتها من ذلك العلم الشامل؟!

وأين أساطير الأوّلين من السرّ في السموات والأرض؟!

وأين النقطة الصغيرة من الخضم الذي لا ساحل له ولا قرار؟!

ألا إنهم ليرتكبون الخطيئة الكبيرة، وهم يدّعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الدعاوى المتهافتة، ومن قبل يصرّون على الشرك بالله، وهو خلقهم .. ولكن باب التوبة مفتوح، والرجوع عن الإثم ممكن، والله الذي يعلم السرّ في السموات والأرض، ويعلم ما يفترون وما يكيدون، غفور رحيم:{إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً (6)} !

وقد انكشف هذا النوع من المناورات بعد حين .. وتبيّن أن القرآن بسلطانه القاهر الذي يحمله من عند الله (1)، وبالحق العميق الذي تصطلح عليه الفطرة سريعاً، قد اكتسح هذه الأساليب وتلك المناورات، فلم يقف له منها شيء!

وراح الملأ من قريش في ذعر يقولون:

{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} (فصلت)!

ووجد كبراؤهم يخالس بعضهم بعضاً ليبيت ليلته يستمع خفيةً لهذا القرآن، ولا يملك نفسه من أن تقوده قدماه ليلةً بعد ليلة إلى حيث يستمع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في خفية عن الآخرين، حتى تعاهدوا وأكدوا على أنفسهم العهود، ألاّ يعودوا، مخافة أن يراهم الفتية فيفتنوا بهذا القرآن وبهذا الدّين!

(1) المرجع السابق: 3: 1504 بتصرف.

ص: 897

على أن محاولة النضر بن الحارث أن يلهي الناس عن هذا القرآن بشيء آخر يخدعهم به عنه، لم تكن هي المحاولة الأخيرة، ولن تكون!

لقد تكرّرت في صور شتّى .. وحاول أعداء الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم دائماً أن يصرفوا الناس نهائيًّا عن هذا القرآن، فلما عجزوا حوّلوه إلى تراتيل يترنّم بها القرّاء ويطرب لها المستمعون، وحوّلوه إلى تمائم وتعاويذ يضعها الناس في بيوتهم وسياراتهم وجيوبهم وفي صدورهم وتحت وسائدهم .. ويفهمون أن هذا فقط هو الدين، وقد أدّوا حقّ هذا القرآن وحق هذا الدّين!

لم يعد القرآن في حياة الناس هو مصدر التوجيه .. لقد صاغ لهم أعداء هذا (الدّين القيّم) أبدالاً منه يتلقّون منها التوجيه في شؤون الحياة كلها .. حتى ليتلقّون منها تصوراتهم ومفاهيمهم، إلى جانب ما يتلقّون منها شرائعهم وقوانينهم، وقيمهم وموازينهم!

ثم قالوا لهم: إن هذا الدّين محترم، وإن هذا القرآن مصون، وهو يتلى عليكم صباحاً ومساء وفي كل حين، ويترنّم به المترنّمون، ويرتّله المرتّلون .. فماذا تريدون من القرآن بعد هذا الترنّم وهذا الترتيل؟!

إنها مناورة النضر بن الحارث، ولكن في صورة متطوّرة معقّدة، تناسب تطوّر الزمان وتعقّد الحياة .. ولكنها هي هي في شكل من أشكالها الكثيرة، التي عرفها تاريخ الكيد لهذا الدّين، على مدار القرون!

ولكن العجيب في شأن هذا القرآن، أنه على طول الكيد وتعقّده وتطوّره وترقّيه ما زال يغلب!

إن لهذا الكتاب من الخصائص العجيبة، والسلطان القاهر على الفطرة، ما

ص: 898

يغلب به كيد الجاهليّة في الأرض كلها، وكيد الشياطن من هؤلاء وأولئك الذين يحاربون هذا الدّين، وكيد الأجهزة العالميّة التي يقيمونها هنا وهناك في كل أرض وفي كل حين!

إن هذا الكتاب ما يزال يلوي أعناق أعدائه في الأرض كلها، ليجعلوه مادة إذاعيّة في جميع محطّات العالم!

وحقيقة إنهم يذيعونه بعد أن نجحوا في تحويله في نفوس الكثير من المسلمين إلى مجرّد أنغام وتراتيل، أو مجرّد تمائم وتعاويذ!

وبعد أن أبعدوه حتى في خاطر الكثيرين من المسلمين، من أن يكون مصدر التوجيه للحياة!

وأقاموا مصادر أخرى للتوجيه في جميع الشؤون!

بيد أن هذا الكتاب مازال يعمل من وراء هذا الكيد، وسيظل يعمل .. وما تزال في أنحاء الأرض هنا وهناك عصبة مسلمة تتجمّع على جديّة هذا الكتاب، وتتخذه وحده مصدر التوجيه، وهي ترتقب وعد الله عز وجل بالنصر والتمكين .. من وراء الكيد والسحق والقتل والتشريد .. وما كان مرّة لابدّ أن سيكون!

ويطالعنا قوله تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} (الأنفال)!

وهنا نذكر ما رواه البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه

ص: 899

قال: (1) قال أبو جهل: " {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} "!

فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} !

وأخرج ابن جرير وغيره أنها نزلت في النضر بن الحارث (2)!

إنه العجب العجاب من عناد هؤلاء المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم، فإذا الكبرياء تصدّهم عن الاستسلام له، والإذعان لسلطانه، وإذا هم يتمنون على الله إن كان هذا هو الحق من عنده أن يمطر عليهم حجارة من السماء، أو أن يأتيهم بعذاب أليم، بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} !

وهو دعاء غريب، يصوّر حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق، حتى ولو كان حقًّا!

إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق، وأن يهديها إليه، دون أن تجد في هذا غضاضة!

ولكنها حين تفسد بالكبرياء تأخذها العزّة بالإثم، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب، على أن تخضع للحق، عندما يكشف لها واضحاً لاريب فيه!

وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكّة يواجهون الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم!

(1) البخاري: 65 التفسير (4648، 4649)، والبيهقي:"الدلائل": 3: 75.

(2)

انظر: ابن جرير: 9: 152، وابن كثير: 2: 305، والشوكاني: 2: 323.

ص: 900