الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوثاق أن سرابيلهم وثيابهم من مادة شديدة القابليّة للالتهاب، وهي في ذات الوقت قذرة سوداء {مِنْ قَطِرَانٍ} ففيها الذلّ والتحقير، وفيها الإيحاء بشدّة الاشتعال بمجرد قربهم من النار:{وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} !
فهو مشهد العذاب المذلّ المتلظي المشتعل، جزاء المكر والاستكبار:{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)} !
ولقد كسبوا المكر والظلم فجزاؤهم القهر والذلّ .. والسرعة في الحساب هنا تناسب المكر والتدبير الذي كانوا يحسبونه يحميهم ويخفيهم، ويعوق انتصار أحد عليهم .. فها هم أولاء يجزون جزاء ما كسبوا ذلاً وألماً وسرعة حساب!
إعداد وثبات:
ويطالعنا قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ
طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)} (النساء)!
وهنا نذكر ما رواه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا نبيّ الله: كنا في عزّة، ونحن مشركون، فلمّا آمنّا صرنا أذلّة، فقال:"إِني أُمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم"، فلمّا حوّله إِلى المدينة، أمره بالقتال، فكفّوا، فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ} ! (1) واختلف في سبب النزول! (2) ويتضح ذلك فيما يلي:
في هذه الآيات نبصر أمر هؤلاء الذين كانوا يتدافعون حماسة إلى القتال (3)، ويستعجلونه وهم في مكة، يتلقون الأذى والاضطهاد، والفتنة من المشركين، حين لم يكن مأذوناً لهم في القتال، للحكمة التي يريدها الله، فلمّا أن جاء الوقت المناسب الذي قدّره الله، وتهيأت الظروف المناسبة، وكُتب عليهم القتال -في سبيل الله- إذا فريق منهم شديد الجزع، شديد الفزع، حتى ليخشى الناس الذين أمروا بقتالهم -وهم ناس من البشر- كخشية الله، القهار الجبّار، الذي لا يعذّب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد {كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} !
(1) الحاكم: 2: 66، 67، 307، وقال: على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، والنسائي: 6: 3، والتفسير (132)، وابن جرير: 5: 108، والبيهقي: 9: 11.
(2)
انظر: تفسير الشوكاني: 1: 579، والواحدي: أسباب النزول: 65، 96.
(3)
في ظلال القرآن: 2: 712 وما بعدها بتصرف.
وإذا هم يقولون -في حسرة وخوف وجزع- {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ} ؟! .. وهو سؤال غريب من مؤمن، وهو دلالة على عدم وضوح تصوّره لتكاليف هذا الدّين، ولوظيفة هذا الدّين أيضاً .. ويتبعون ذلك التساؤل بأمنية حسيرة مسكينة! {لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} ! وأمهلتنا بعض الوقت قبل ملاقاة هذا التكليف الثقيل المخيف!
إن أشدّ الناس حماسةً واندفاعاً وتهوّراً، قد يكونون هم أشدّ الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجدّ الجدّ، وتقع الواقعة .. بل إن هذه قد تكون القاعدة! ذلك أن الاندفاع والتهوّر والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثةً عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار .. كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة احتمال الضّيق والأذى والهزيمة، فتدفعهم قلّة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأيّ شكل، دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار، حتى إذا وُوجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدّروا، وأشقَّ مما تصوّروا، فكانوا أوّل الصفّ جزعاً ونكولاً وانهياراً .. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضّيق والأذى بعض الوقت، ويعدّون للأمر عدّته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف، فيصبرون ويتمهّلون ويعدّون للأمر عدّته .. والتهوّرون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافاً، ولا يعجبهم تمهّلهم ووزنهم للأمور! وفي المعركة يتبيّن أيّ الفريقين أكثر احتمالاً، وأيّ الفريقين أبعد نظراً كذلك!
وأغلب الظنّ أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه الأذى في مكّة فلا يطيقه، ولا يطيق الهوان وهو ذو عزّة، فيندفع
يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأذن بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة .. والرسول صلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربّه بالتريّث والانتصار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المناسب، فلمّا أن آمن هذا الفريق في (المدينة)، ولم يعد هناك أذى ولا إذلال، وبعد لسع الحوادث عن الذوات والأشخاص، لم يعد يرى القتال مبرّراً، أو على الأقلّ لم يعد يرى للمسارعة به ضرورة! {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} !
وقد يكون هذا الفريق مؤمناً فعلاً، بدليل اتجاههم إلى الله في ضراعة وأسى! وهذه الصورة ينبغي أن تكون في حسابنا .. فالإيمان الذي لم ينضج بعد، والتصوّر الذي لم تتّضح معالمه، ولم يتبين صاحبه وظيفة هذا الدّين في الأرض، وأنها أكبر من حماية الأشخاص، وحماية الأقوام، وحماية الأوطان .. إذ إنها في صميمها إقرار منهج الله في الحياة، وإقامة نظامه العادل في ربوع العالم، وإنشاء قوّة عليا في هذه الأرض ذات سلطان، يمنع أن تغلق الحدود دون دعوة الله، ويمنع أن يحال بين الأفراد والاستماع للدعوة في أيّ مكان على سطح الأرض، ويمنع أن يفتن أحد من الأفراد عن دينه إذا هو اختاره بكامل حرّيته -بأيّ لون من ألوان الفتنة- ومنها أن يطارد في رزقه أو في نشاطه حيث هو -وهذه كلها مهام خارجة عن وقوع أذى على أشخاص بعينهم أو عدم وقوعه .. وإذن فلم يكن الأمن في المدينة- حتى على فرض وجوده كاملاً غير مهدّد- لينهي مهمة المسلمين هناك، وينهى عن الجهاد!
إن الإيمان الذي لم ينضج بعد ليبلغ بالنفس درجة إخراج ذاتها من الأمر، والاستماع فقط إلى أمر الله، واعتباره هو العلّة والمعلول، والسّبب والمسبّب،
والكلمة الأخيرة -سواء عرف المكلّف حكمتها أم لم تتّضح له- والتصوّر الذي لم تتّضح معالمه بعد، ليعرف المؤمن مهمة هذا الدّين في الأرض، ومهمته -شأن المؤمن- بوصفه قدراً من أقدار الله، ينفذ الله به ما يشاؤه في هذه الحياة .. لا جرم أنه ينشأ عنه مثل هذا الوقف، الذي يصوّره السياق القرآنيّ هذا التّصوير، ويعجّب منه هذا التعجيب! وينفر منه هذا التنفير!
أمّا لماذا لم يأذن الله للمسلمين -في مكّة- بالانتصار من الظلم، والردّ على العدوان، ودفع الأذى بالقوّة .. وكثير منهم كان يملك هذا، حيث لم يكن ضعيفاً ولا مستضعفاً، ولم يكن عاجزاً عن ردّ الصاع صاعين .. مهما يكن المسلمون في ذلك الوقت قلّة!
أمّا حكمة هذا، والأمر بالكفّ عن القتال، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصبر والاحتمال .. حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى والعذاب مالا يطاق، وبعضهم يتجاوز العذاب طاقته -كما أسلفنا- وبعضهم لا يحتمل الاستمرار في العذاب فيستشهد تحت وطأته!
أمّا حكمة هذا فلسنا في حلّ من الجزم بها؛ لأننا حينئذ نتألّى على الله ما لم يبين لنا من حكمة، ونفرض على أوامره أسباباً وعللاً، قد تكون هي الأسباب والعلل الحقيقيّة، أو لا تكون، ولكن وراءها أسباباً وعللاً أخرى لم يكشف لنا عنها، ويعلم سبحانه أن فيها الخير والمصلحة .. وهذا هو شأن المؤمن أمام أيّ تكليف، أو أيّ حكم في شريعة الله -لم يبيّن الله سببه محدّداً جازماً حاسماً- فمهما خطر للمؤمن من الأسباب والعلل لهذا الحكم أو لذلك التكليف، أو لكيفيّة تنفيذ هذا الحكم، أو طريقة أداء ذلك التكليف، مما يدركه عقله ويحسن فيه .. فينبغي أن يعتبر هذا كله مجرّد احتمال .. ولا يجزم -مهما بلغت ثقته
بعلمه وعقله وتدبّره لأحكام الله بأن ما رآه هو الحكمة التي أرادها الله .. نصًّا .. وليس وراءها شيء، وليس دونها شيء! فهذا التحرّج هو مقتضى الأدب الواجب مع الله، ومقتضى الفارق ما بين علم الله ومعرفة الإنسان من اختلاف في الطبيعة والحقيقة!
وبهذا الأدب الواجب نتناول حكمة عدم فرض الجهاد في مكّة وفرضيته في المدينة .. ونذكر ما يتراءى لنا من حكمة وسبب .. على أنه مجرّد احتمال .. وندع ما وراءه لله .. لا نفرض على أمره أسباباً وعللاً، لا يعلمها إلا هو .. ولم يحدّدها لنا ويطلعنا عليها بنصّ صريح!
إنها أسباب اجتهاديّة .. تخطئ وتصيب، وتنقص وتزيد، ولا نبغي بها إلا مجرّد تدبرّ أحكام الله، وفق ما تظهره لنا الأحداث في مجرى الزمان:
أولاً:
ربما كان ذلك لأن الفترة المكيّة كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معيّنة، لقوم معيّنين، وسط ظروف معيّنة .. ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئات خاصة، تربية نفس الفرد العربيّ على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضّيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به، وذلك كي يخلص من شخصه، ويتجرّد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به، محور الحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته .. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه؛ فلا يندفع لأوّل مؤثّر -كما هي طبيعته- ولا يهتاج لأوّل مهيّج، ليتمّ الاعتدال في طبيعته وحركته .. وتربيته على أن يتبع مجتمعاً منظّماً له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، ولا يتصرّف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفاً لمألوفه وعادته-
وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصيّة العربي، لإنشاء (المجتمع المسلم) الخاضع لقيادة موجّهة، المترقّي المتحضّر، غير الهمجيّ!
ثانياً:
وربما كان ذلك أيضاً؛ لأن الدّعوة السلميّة أشدّ أثراً وأنفذ، في مثل بيئة قريش ذات العنجهيّة والشرف، والتي قد يدفع قتالها معها -في مثل هذه الفترة- إلى زيادة العناد، وإلى إنشاء ثارات دمويّة جديدة، كثارات العرب المعروفة، والتي أثارت حرب (داحس والغبراء)، و (حرب البسوس) -أعواماً طويلة، تفانت فيها قبائل برمّتها- وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإِسلام، فلا تهدأ بعد ذلك أبداً .. ويتحوّل الإِسلام من دعوة إلى ثارات تنسى الفكرة الأساسيّة وهو ناشئ في مبدئه، فلا تذكر أبداً!
ثالثاً:
وربما كان ذلك أيضاً، اجتناباً لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت .. فلم تكن هناك سلطة نظاميّة عامة، هي التي تعذّب المؤمنين وتفتنهم .. إنما كان ذلك موكولاً إلى أولياء كل فرد، يعذّبونه هم ويفتنونه و (يؤدّبونه)!
ومعنى الإذن بالقتال -في مثل هذه البيئة- أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت .. ثم يقال: هذا هو الإِسلام! ولقد قيلت حتى والإِسلام يأمر بالكفّ عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم، في أوساط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمداً يفرّق بين الوالد وولده!
رابعاً:
وربما كان ذلك أيضاً، لا يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون
أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم ويؤذونهم، هم أنفسهم سيكونون من جنود الإِسلام المخلصين، بل من قادته، ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟
خامساً:
وربما كان ذلك أيضاً؛ لأن النخّوة العربيّة، في بيئة قبليّة، من عادتها أن تثور للمظلوم، الذي يحتمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان الأذى واقعاً على كرام الناس فيهم .. وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة في هذه البيئة، فابن الدغنة -كما سبق- لم يرض أن يترك أبا بكر -وهو رجل كريم- يهاجر ويخرج من مكّة، ورأى في ذلك عاراً على العرب! وعرض عليه جواره وحمايته .. وآخر هذه الظواهر -كما سيأتي- نقض صحيفة (الحصار) لبني هاشم في (شعب أبي طالب)، بعد ما طال عليهم الجوع، واشتدّت المحنة .. بينما في بيئة أخرى من البيئات ذات الحضارة القديمة التي مردت على الذّل، قد يكون السكوت على الأذى .. وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!
ونبصر استخفاف الطغاة البغاة العتاة للعامة .. وهم يعزلونهم عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات، حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثّرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبوا بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنّين!
ولا يملك الطاغية أن يفعل بالعامة هذه الفعلة إلا وهم فاسقون، لا يستقيمون على طريق، ولا يمسّكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح، ومن هنا يعلّل القرآن استجابة العامة لفرعون فيقول: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ
إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)} (الزخرف)!
وقد سجّل التاريخ قديماً وحديثاً سكوتاً على الأذى، بل وتعظيم المؤذي الظالم المعتدي!!
سادساً:
وربما كان ذلك أيضاً، لقلّة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكّة، حيث لم تبلغ الدعوة بقيّة الجزيرة، أو بلغت أخبارها متناثرةً، إذ كانت القبائل تقف على الحياد، من معركة داخليّة بين قريش وبعض أبنائها، حتى ترى ماذا يكون مصير الموقف .. ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة، إلى قتل المجموعة المسلمة القليلة -حتى ولو قتلوا هم أضعاف من سيقتل منهم- ويبقى الشرك، وتنمحي الجماعة المسلمة، ولا يقوم في الأرض للإسلام نظام، ولا يوجد له كيان واقعي .. وهو الدين الذي جاء ليكون منهجاً، نظاماً واقعيًّا عمليًّا للحياة!
سابعاً:
في الوقت ذاته، لم تكن هناك ضرورةٌ قاهرةٌ ملحةٌ، لتجاوز هذه الاعتبارات كلها، والأمر بالقتال ودفع الأذى؛ لأن الأمر الأساسي في هذه الدعوة كان قائماً وقتها ومحقّقاً .. هذا الأمر الأساسي هو (وجود الدعوة) .. وجودها في شخص الداعية الأول صلى الله عليه وسلم. وشخصه في حماية سيوف بني هاشم، فلا تمتدّ إليه يد إلاّ وهي مهدّدة بالقطع!
والنظام القبليّ السائد يجعل كل قبيلة تخشى أن تقع في حرب مع بني
هاشم، إذا هي امتدّت يدها لأذى محمد صلى الله عليه وسلم، فكان شخص الداعية صلى الله عليه وسلم من ثمّ محميًّا حمايةً كافيةً .. وكان الداعية يبلغ دعوته -إذن- في حماية سيوف بني هاشم ومقتضيات النظام القبلي، ولا يكتمها، ولا يخفيها، ولا يجرؤ أحدٌ على منعه من إبلاغها وإعلانها، في ندوات قريش في الكعبة، ومن فوق جبل الصفا، وفي اجتماعات عامة -كما سبق-، ولا يجرؤ أحد على منعه من الجهر بدعوته، ولا يجرؤ أحدٌ على أن يفرض عليه كلاماً بعينه يقوله، يعلن فيه بعض حقيقة دينه، ويسكت عن بعضها .. وحين طلبوا إليه أن يكف عن سبّ آلهتهم وعيبها لم يكف .. وعلى الجملة كان للدعوة (وجودها الكامل) في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وفي إبلاغه لدعوة ربّه كاملة في كل مكان .. ومن ثم لم تكن هناك الضرورة القاهرة لاستعجال المعركة، والتغاضي عن كل هذه الاعتبارات البيئيّة التي هي في مجموعها مساندةً للدعوة، ومساعدة في مثل هذه البيئة!
هذه الاعتبارات كلها -فيما نحسب- كانت بعض ما اقتضت حكمة الله، أن يأمر المسلمين بكفّ أيديهم، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة .. لتتم تربيتهم ويتم إعدادهم، ولينتفع بكل إمكانيّات الخطّة في هذه البيئة، وليقف المسلمون في انتظار أمر القيادة في الوقت المناسب، وليخرجوا أنفسهم من المسألة كلها، فلا يكون لذواتهم فيها حظّ، لتكون خالصةً لله، وفي سبيل الله .. (والدعوة لها وجودها)، وهي قائمة ومؤدّاة ومحميّة ومحروسة!
وأيًّا ما كانت حكمة الله من وراء هذه الخطة، فقد كان هناك المتحمّسون يبدون لهفتهم على اللحظة التي يؤذن لهم فيها بالقتال:{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} !
وكان وجود هذه الطائفة في الصف المسلم ينشئ حالة من الخلخلة، وينشئ فيه حالة من عدم التناسق بين هذه الطائفة الجزوع الهلوع، وبين الرجال المؤمنين، ذوي القلوب الثابتة الطمئنة، المستقبلة لتكاليف الجهاد -على كل ما فيها من مشقّة- بالطمأنينة والثقة والحماسة أيضاً، ولكن في موضعها المناسب .. فالحماسة في تنفيذ الأمر حين يصدر هي الحماسة الحقيقيّة .. أمّا الحماسة قبل الأمر فقد تكون مجرّد اندفاع وتهوّر، يتبخّر عند مواجهة الخطر!
والقرآن يعالج هذه الحالة بمنهجه الربّاني: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} !
إنهم يخشون الموت، ويريدون الحياة .. ويتمنّون في حسرة مسكينة لو أن الله قد أمهلهم بعض الوقت، ومدّ لهم شيئاً من المتاع بالحياة!
والقرآن يعالج هذه المشاعر في منابتها، ويجلو غبش التصوّر لحقيقة الموت والأجل:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} !
متاع الدنيا كله، والدنيا كلها، فما بال أيّام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين؟!
ما قيمة هذا الإمهال لأجل قصير، إذا كان متاع الحياة الدنيا بطولها في جملته قليلاً؟!
ما الذي يملكون تحقيقه من المتاع في أيّام، أو أسابيع، أو شهور، أو سنين، ومتاع الدنيا كله والدنيا بطولها قليل؟! {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} !
فالدنيا أوّلاً ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة .. إنها مرحلة .. ووراءها
الآخرة، والمتاع فيها هو المتاع -فضلاً عن أن المتاع فيها طويل كثير- فهي {خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} !
وتذكر التقوى هنا والخشية والخوف في موضعها .. التقوى لله، فهو الذي يُتقى، وهو الذي يُخشى، وليس الناس -كما سبق:{إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} !
والذي يعمر قلبه الخوف من الله لا يخاف أحداً، فماذا يملك أحد إذا كان الله لا يريد؟! {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)} !
فلا غبن ولا ضير ولا بخس، إذا فاتهم شيء من متاع الدنيا، فهناك الآخرة، وهناك الجزاء الأوفى، الذي لا يبقى معه ظلم ولا بخس في الحساب الختامي والآخرة جميعاً!
ولكن بعض الناس قد تهفو نفسه -مع هذا كله- إلى أيَّام تطول به، في هذه الأرض! حتى وهو يؤمن بالآخرة، وهو ينتظر جزاءها الخير .. وبخاصة حين يكون في المرحلة الإيمانيّة التي كانت فيها هذه الطائفة!
هنا تجيء اللمسة الأخرى .. اللمسة التي تصحّح التصور عن حقيقة الموت والحياة، والأجل والقدر، وعلاقة هذا كله بتكليف القتال، الذي جزعوا له هذا الجزع، وخشوا الناس فيه هذه الخشية:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} !
فالموت حتم في موعده المقدّر، ولا علاقة له بالحرب والسلم، ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته، ولا يؤخّره أن يؤخَّر عنهم تكاليف القتال إذن، ولا هذا التكليف والتعرّض للناس في هذا الجهاد يعجله عن موعده!
هذا أمر وذاك أمر، ولا علاقة بينهما .. إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل، بين الموعد الذي قدّره الله وحلول ذلك الموعد .. وليست هناك علاقة أخرى .. ولا معنى إذن لتمنّي تأجيل القتال، ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال!
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآنيّ كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر، وكل ما ينشئه التصوّر المضطرب من خوف ومن ذعر!
وليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته، وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبة ووقاية .. فقد أمر الله عز وجل بأخذ الحذر .. وأمر بالاحتياط في صلاة الخوف .. وأمر باستكمال العدّة والأهبة .. ولكن هذا كله شيء، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر .. والتصوّر الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب -رغم كل استعداد واحتياط- أمر آخر يجب أن يطاع، وله حكمته الظّاهرة والخفيّة ووراءه تدبير الله!
توازن واعتدال، وإلمام بجميع الأطراف، وتناسق بين جميع الأطراف! هذا هو الإِسلام .. وهذا هو منهج التربية الإِسلامية للأفراد والجماعات!
ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثّة في المجتمع الإِسلامي، والتي يتألف منها الصف المسلم .. وإن كان السياق لا انقطاع فيه، ولا فصل:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)} !