الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية للنسائي عن يزيد بن أبي مالك عن أنس: (فارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإنه فرض علي بن بني إسرائيل صلاتين، فما قاموا بهما، فرجعت إلى ربي عز وجل فسألته التخفيف، فقال: إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمّتك خمسين صلاة، فخمس بخمسين، فقم بها أنت وأمّتك، فعرفت أنها من الله تعالى صرّي، فرجعت إلى موسى عليه السلام فقال: ارجع، فعرفت أنها من الله صرّى -أي حتم- فلم أرجع! (1)
وهذا يردّ قول الداودي أيضًا! (2)
بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:
وأمّا عن الحكمة فيما جرى بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، حيث جاء في رواية البخاري عن قتادة عن أنس بن مالك عن صعصعة: "فلمّا خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه، فردّ ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح والشعبي الصالح، فلمّا
(1) النسائيُّ: 1: 221 - 223 وفيه صرّى -بكسر الصاد المهملة وفتح الراء المشدّدة، آخرها ألف مقصورة- أي عزيمة باقية لا تقبل النسخ، قال في النهاية: أي حتم واجبة وعزيمة وجد، وقيل: هي مشتقة من صر: إذا قطع، وقيل: هي مشتقة من أصررت الشيء: إذا لزمته، فإن كان من هذا فهو بالصاد والراء المشدّدة، وقال أبو موسى: إنه صرّي بوزن جنّي، وصري العزم: أي ثابتة ومستقرّة، وقال ابن فارس: الإصرار: الثبات على الشيء والعزم عليه، يقال: هذا يمين صري: أي جد: انظر معجم مقاييس اللغة.
(2)
انظر: فتح الباري: 1: 462 - 463، وأضواء على أحاديث الإسراء والمعراج:73.
تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأنّ غلامًا بُعث بعدي يدخل الجنّة من أمّته أكثر ممن يدخُلها من أمّتي
…
".
وفي رواية شريك: (فقال موسى: ربّ لم أظنّ أن ترفع عليّ أحدًا ..)!
قال ابن حجر: وفي حديث أبي سعيد (قال موسى: يزعم بنو إسرائيل أنّي أكرم على الله، وهذا أكرم على الله منّي)!
زاد الأموي في روايته: (ولو كان هذا وحده وإن عليّ، ولكن معه أمّته، وهم أفضل عند الله)!
قال العلماء: لم يكن بكاء موسى حسدًا، معاذ الله، فإن الحسد في ذلك العالم منزوع عن آحاد المؤمنين، فكيف بمن اصطفاه الله تعالى؛ بل كان أسفًا على ما فاته من الأجر الذي يترتّب عليه رفع الدرجة، بسبب ما وقع من أمّته من كثرة المخالفة المقتضية لتنقيص أجورهم المستلزم لتنقيص أجره؛ لأنّ لكل نبيّ مثل أجر كل من اتبعه، ولهذا كان من اتبعه من أمّته في العدد دون من أَتبع نبيّنا صلى الله عليه وسلم، مع طول مدّتهم بالنسبة لهذه الأمة!
وأمّا قوله (غلامًا) فليس على سبيل النقص، بل على سبيل التنويه بقدرة الله وعظيم كرمه، إذا أعطى لمن كان في ذلك السنّ ما لم يعطه أحدًا قبله ممن هو أسنّ منه!
وقد وقع من موسى من العناية بهذه الأمّة من أمر الصلاة ما لم يقع
لغيره. ووقعت الإشارة لذلك في حديث أبي هريرة عند الطبري والبزار، قال صلى الله عليه وسلم:"كان موسى أشدّهم عليّ، حين مررت به، وخيرهم لي حين رجعت إليه".
وفي حديث أبي سعيد: "فأقبلت راجعًا، فمررت بموسى، ونعم الصاحب كان لكم، فسألني: كم فرض عليك ربك؟ .. " الحديث.
قال ابن أبي جمرة: إن الله جعل الرحمة في قلوب الأنبياء أكثر مما جعل في قلوب غيرهم، لذلك بكى رحمةً لأمّته!
وأمّا قوله (هذا الغلام) فأشار إلى صغر سنّه بالنسبة إليه!
قال الخطّابي: العرب تسمّي الرجل المستجمع السنّ غلامًا، ما دامت فيه بقيّة من القوّة!
قال ابن حجر: ويظهر لي أن موسى عليه السلام أشار إلى ما أنعم الله به على نبيّنا عليه الصلاة والسلام من استمرار القوّة في الكهوليّة، وإلى أن دخل في سنّ الشيخوخة، ولم يدخل على بدنه هرم، ولا اعترى قوّته نقص .. !
وقال القرطبي: الحكمة في تخصيص موسى بمراجعة النبيّ صلى الله عليه وسلم في أمر الصلاة، لعلّها لكون أمّة موسى كلّفت من الصلوات بما لم تكلف به غيرها من الأمم، فثقلت عليهم، فأشفق موسى على أمّة محمَّد من مثل ذلك، ويشير إلى ذلك قوله:(إني قد جرّبت الناس قبلك)!
وقال غيره: لعلّها من جهة أنه ليس في الأتباع من له أتباع أكثر من موسى، ولا من له كتاب أكبر ولا أجمع للأحكام من هذه الجهة، فناسب أن يتمنّى أن يكون له مثل ما أنعم به عليه، من غير أن يريد زواله عنه، وناسب أن يطلعه على ما وقع له، وينصحه فيما يتعلّق به، ويحتمل أن يكون موسى لما غلب عليه في الابتداء الأسف على نقص حظّ أمته بالنسبة لأمّة محمَّد، حتى تمنّى ما تمنّى أن يكون، استدرك ذلك ببذل النصيحة لهم، والشفقة عليهم، ليزيل ما عساه أن يتوهم عليه فيما وقع منه في الابتداء!
وذكر السهيلي: (1) أن الحكمة في ذلك أنه كان رأى في مناجاته صفة أمّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فدعا الله أن يجعله منهم، فكان إشفاقه عليهم كعناية من هو منهم .. !
قال ابن حجر: (2) وقد وقع من موسى عليه السلام في هذه القصة من مراعاة جانب النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمسك عن جميع ما وقع له، حتى فارقه النبي صلى الله عليه وسلم أدبًا معه، وحسن عشرة، فلمّا فارقه بكى وقال ما قال!
تلك أضواء على ردود تلك الشبهات وفق قواعد التحديث رواية ودراية .. رجاء أن يعلم من يريد أن يعلم .. وبخاصة الذين يدرسون سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للتأسّي: أن المحدّثين كانوا ملهمين، تحقيقًا لمعجزة
(1) انظر: الروض الأنف: 2: 162.
(2)
فتح الباري: 7: 212.
سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، حين استنبطوا القواعد المحكمة لنقد رواية الحديث، ومعرفة الصحاح من الزّياف، وأنهم ما كانوا هازلين ولا مخدوعين، وأنهم كانوا جادّين وعلى صراط مستقيم، وأن القواعد التي ارتضوها رواية ودراية أحكم القواعد وأدقّها!