الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} ولا ما هما هذان السدان، كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدّين صناعيين، تفصلهما فجوة أو ممر، فوجد هنالك قوماً مختلفين:{لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} .
وعندما وجدوه فاتحاً قويًّا، توسّموا فيه القدرة والصلاح .. عرضوا عليه أن يقيم لهم سدًّا في وجه يأجوج ومأجوج الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين، ويغيرون عليهم من ذلك الممر، فيعيثون في أرضهم فساداً، ولا يقدرون هم على دفعهم وصدّهم .. وذلك في مقابل خراج من المال يجمعونه له من بينهم!
وتدور القصة وأطرافها ثلاثة: (1)
الطغاة:
ولا يظهرون أمامنا في القصة، ولا يشتركون فيها إلا من بعيد، كخطر قائم يهدّد سلامة الشعب الآخر.
المستضعفون:
الذين يتعرّضون لإغارة الطغاة. القائد بقوّته المؤمنة التي وضعها في خدمة العدل. ويدور الحوار بين القائد والشعب:
(1) كتابنا: العمل والعمال بين الإسلام والنظم الوضعية العاصرة: 153 وما بعدها.
العرض المقدّم أن يجمع الشعب مالاً ليقدّمه إلى القائد، ليتولّى مسؤوليّة السدّ: عليهم المال، وعليه أن يوفّر المواد والعمل!
ولكن القائد العادل لم يقبل هذا العرض، فليس مهمته مجرّد إنشاء سدّ، وإن كان يحول دون الطغيان، ويحتمي وراءه المستضعفون، فرد عليهم:
ما مكّني فيه ربّي خير مما تعرضون عليَّ .. أريد منكم أن تشاركوني في بناء السدّ، أيديكم في يدي، وسواعدكم معي، وسنبني السدّ معاً متعاونين، وستبنون نفوسكم وأنتم تبنونه، وتجدون حقيقتكم وسط الجهد والعرق، لا أريد أن تبقى لكم أيد لا تحسن إلا تقديم المال .. والشكوى .. وانتظار من يحمل عنها مسؤوليتها، أريد أن تعملوا!
وما أكرم قوله: {فَأَعِينُونِي} كأنه المحتاج إلى العون {بِقُوَّةٍ} كأنه المحتاج منهم، مع أنهم المحتاجون إلى العون والقوّة!
هكذا نفخ فيهم القائد من روحه، أراهم أنهم قادرون على أن يعملوا .. وأن يعملوا بقوة:{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أمر تجد فيه الدعوة التي تحسّها في قول الحق جلَّ شأنه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} (البقرة)!
وفي سرعة ينتقل القائد من التوجيه العام إلى تحديد خطوط العمل: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} قطع الحديد، اذهبوا وابحثوا عنها في أرضكم، وجّهوا ما بين أيديكم منها إلى الهدف الكبير، إلى بناء السدّ الذي يحول بينكم وبين أعدائكم!
ولك أن تتصوَّر كيف تحوّل المستضعفون إلى أرضهم يثيرونها بحثاً عما فيها من معادن!
لك أن تتصوّر الأيدي التي كانت لا تُحْسن إلا دفع الخراج وتقديم المال، تحاول أن تشتري به سلامتها إلى أيد خشنة طهّرهَا العمل!
وهذه الجباهُ التي كانت تذل أمام طغيان يأجوج ومأجوج، انحنت على أرضها تخرج منها كنوزها من المعادن، وتستخرج في الوقت نفسه ذاتها، وتعثر على حقيقتها .. وتجلّت فيها طاقة كبيرة كانت مقهورة تحت أطباق الذل!
لقد أعانها القائد على أن تكتشف ذاتها عندما وجهها إلى العمل الدائب، والاعتماد على النفس، وعلى أساس من الإيمان والتعاون الواعي!
ويتجمع الحديد ليسدّ بين الجبلين، ويرتفع صوت القائد:{انفُخُوا} كلمة واحدة آمرة!
لقد نفخ فيهم القائد من روحه فاندفعوا إلى العمل!
وها هم ينفخون الحديد الخامد فيلتهب كما التهبت نفوسهم، ثم يرتفع صوته الآمر مرة أخرى:{آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)} نحاساً مذاباً .. فكان هناك مجموعة أخرى كانت مختصة بإعداد النحاس المصهور في نفس الوقت الذي كانت فيه المجموعة الأولى مكلّفة بإعداد الحديد ثم صهره، حتى تجعله
ناراً، وفي مرحلة معيّنة من مراحل العمل يصبّ القائد النحاس المصهور على الحديد الملتهب!
هنا يصبح السدّ قطعة واحدة، كما يصبح الشعب سبيكة واحدة، عن طريق العمل الدائب، وارتفاع معنوياته، وعمله المنظم من أجل هدف كبير، مع تماسك السدّ، وتماسك الشعب!
هذا بالصهر!
وهذا بالعمل!
وبعد أن يفرغ القائد والشعب من الإنشاء ينتقل إلى مرحلة ختاميّة، هي اختبار العمل بعد إتمامه، ويأمرهم القائد: حاولوا أن تتسلّلوه، حاولوا أن تخترقوه ونقرأ التسجيل الإلهي لهذه المحاولة:{فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)} !
وعندنا في اللغة العربيّة قاعدة أن زيادة المبنى في الكلمة تدل على زيادة المعنى، ولا شك أن محاولة صعود السد أيسر من محاولة اختراقه، ولهذا قال الله في الأولى:{فَمَا اسْطَاعُوا} ، وفي الثانية:{وَمَا اسْتَطَاعُوا} بزيادة حرف التاء! وبعد هذا كله يرتفع صوت القائد: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} إيمان يرد الأمر فيه إلى الله تعالى، دون انتظار ثناء منهم، أن فتح أمامهم طريق العمل الجاد المشترك من أجل هدف كبير!
ونبصر رحمة الله تمثّلت في تحوّل أمة من شعار:
{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا}
إلى أمة شعارها:
{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}
أمة لا تشتري سلامتها، ولكن تصنع سلامتها!
أمة لا تشتري السدّ، ولكن تصنع السدّ!
وقيادة تنفخ في الأمة فاعليّة وإيجابيّة، تستطيع بهما أن تتحوّل إلى أرضها تبحث فيها عن كنوزها، وتكتشف ذاتها من خلال العمل!
أمّة تتحوّل إلى جيش عمل منظّم عالم بخبايا أرضه، يقف أمام النار الملتهبة. ويرفع السد معتمداً على ربّه، متجمعاً وراء قيادته، منظّماً صفَّه، ومحدّداً مراحل العمل وتوقيته الدقيق!
الاعتماد على النفس رحمة من ربّي!
تنظيم العمل رحمة من ربّي!
صهر الحديث والنحاس رحمة من ربّي!
اختبار العمل بعد الانتهاء منه رحمة من ربّي!
وهكذا تتمثّل رحمة الله عملاً إيجابياً، ومشروعات تقيمها الإرادة المؤمنة الواعية، والجموع المنظمة إلى حياة أفضل!
وهكذا يتمثل دستور الحكم الصالح، ومنهج العمل الصالح .. وحين يجد العامل المحسن في الجماعة جزاء إحسانه جزاء حسناً، ومكاناً كريماً، وعوناً وتيسيراً .. ويجد المعتدي على دستور الحكم الصالح، ومنهج العمل الصالح، جزاء إفساده عقوبة زاجرة .. يجد الناس ما يحفزهم إلى الصلاح والإعداد والعمل والإنتاج، والابتكار والإبداع. حيث استخدمت طريقة هذا السدّ حديثاً في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته