الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويروي البخاري وغيره عن خبّاب قال: شَكوْنا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بُرْدةً في ظلّ الكعبة قلنا له: ألا تَسْتَنْصِرُ لنا؟ ألا تَدْعوا لنا؟ قال: وكان الرجل فيمن قبلكم، يُحفر له في الأرض، فيُجعلُ فيه، فيُجاءُ بالميشار فيُوضع على رأسه، فيُشقُّ باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله! ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إِلى حضْرموت، لا يخاف إِلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون" (1)!
15 - المساومة والإغراء:
وانتقل المشركون إلى أسلوب المساومة والإغراء، وهو أسلوب خطير، فقد قال ابن إسحاق:
حدثني يزيد بن زياد بن محمَّد بن كعب القرظي قال: حدَّثت أن عتبة ابن ربيعة، وكان سيّداً، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمَّد فأكلمه
(1) البخاري: 61 المناقب (3612)، وانظر (3852، 6943)، والحميدي (157)، وأحمد: 5: 109، 111، 6: 395، وأبو داود (2649)، وأبو يعلى (7213)، والطبراني:(3639، 3640، 3646، 3647)، وأبو نعيم: الحلية: 1: 144، والبيهقي: 9: 5، و"الدلائل": 6: 315، والنسائي: الكبرى (5893).
وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيّها شاء، ويكفّ عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون. فقالوا: يا أبا الوليد، قم إليه فكلّمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منّا حيث قد علمت من السِّطة (1) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد به شرفاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً (2) تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك، طلبنا لك الطبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له: حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال:"أقد فركت يا أبا الوليد؟ " قال: نعم، قال:"فاسمع مني" قال: أفعل، فقال:{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} (فصلت: 4).
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول
(1) أي من الشرف، يقال فلان من سطة قومه، أي من أشرافهم.
(2)
الرئي -بفتح الراء وكسرها- ما يتراءى للإنسان من الجن، والتابع هنا من يتبع الجن.
الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال:"قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك"!
فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أنّي قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه. فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزّه عزّكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأي، فاصنعوا ما بدا لكم! (1).
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلي والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، وابن عساكر عن جابر ابن عبد الله قال: "اجتمعت قريش يوماً فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر
(1) السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 362 - 364، وقد صرح بالسماع، وسنده منقطع، ورواه ابن أبي شيبة: المصنف: 14: 295 - 297 من غير طريق ابن إسحاق، فيه الأجلح، وفيه كلام، والبيهقي: الدلائل بمثل رواية ابن أبي شيبة: 2: 202 - 203، وأبو يعلى، وفيه الأجلح، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره. وبقية رجاله ثقات. قال الهيثمي: المجمع: 6: 19 - 20 لم أجده في مسند أبي يعلى، وانظر: عبد بن حميد: المنتخب: 337 (1123)، وحسن الألباني إسناده، فقه السيرة: 113، هامش، وقال عن إسناد ابن إسحاق؛ حسن مرسل، ورواه ابن أبي شيبة من غير طريق ابن إسحاق، والبيهقي بمثل رواية ابن أبي شيبة، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 234، وأبو يعلى: 3: 349 (1818)، وانظر: المجمع: 6: 20، والمطالب العالية (4285)، وابن كثير: التفسير: 4: 90، وما بعدها، والبداية: 3: 62 وما بعدها، والدر المنثور: 5: 358.
والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتّت أمرنا، وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ما يردّ عليه؟ فقالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أثبت يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمَّد، أنت خير أم عبد الله، أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإِن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإِن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا، وشتتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما تنتظر إِلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إِلى بعض بالسيوف، يا رجل إِن كان بك حاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإِن كان بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجنك عشراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فرغت؟ " قال: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)} فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال:"لا" فرجع إِلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئاً أرى أنكم تكلمونه به إِلا كلمته، فقالوا: فهل أجابك؟ قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئاً مما قال. غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال: لا والله، ما فهمت شيئاً مما قال، غير ذكر الصاعقة! (1)
(1) فتح القدير للشوكاني: 4: 485 نقلاً عن ابن أبي شيبة: المغازي (1849)، وأبي يعلى (1818)، وصححه الحاكم: 2: 253، 254، ووافقه الذهبي، وأبي نعيم:"الدلائل": =