الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:
سبق أن عرفنا عاليّة الدعوة الإسلاميّة .. وأن منافذ تبليغ الرسالة بمكة قد سدّت بعد وفاة خديجة وأبي طالب، وأن الجوّ قد خلا لأحلاس الشرك، وفجّار الوثنيّة في مكة التي أظلمت فجاجها أمام الدعوة إلى الله تعالى، وضاقت بمواسمها، وأسواقها، ومحافلها ومجتمعاتها، وأنديتها ومضارب القبائل في بطحائها على رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
ومن ثم لم يجد فيها متنفّساً لدعوته، ولا منتجعاً لتبليغ رسالته؛ لأن سفهاء قريش، ومن وراءهم من أهل العتو والطغيان، والجحود والكفران طمعوا فيما لم يكونوا يطمعون فيه، وأبو طالب على قيد الحياة -كما عرفنا!
وكان لابدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من السير قدماً في القيام بنشر دعوته، وتبليغ رسالة ربّه، وأرض الله واسعة .. وهي بجميع أرجائها ومواطنها منازل للدّعوة إلى الحقّ والهدى، وأينما يُشرق النور فهناك الأفق الذي تطلع منه شمس الهداية، فلتذهب الدعوة إلى الله عز وجل مذاهبها في الأرض، حيث يتاح لها، ولتفارق مكة إلى عودة ظافرة، تطهّرها من أرجاس الفجور في أشباح البأو العنيد، والاستكبار البليد!
والنبي صلى الله عليه وسلم في حدود أقصى استطاعته، وأبلغ مدى طاقته يدأب في تبليغ وحي الله تعالى إلى عباد الله، لا يني، ولا يتوقّف، فإذا سدّت منافذ التبليغ في جانب من الأرض بقيت سائر الجوانب والواطن مهْيَعاً يجب سلوكه!
فمكّة بمن فيها من العتاة الطغاة البغاة العاندين، والفجّار المستكبرين وما
(1) محمَّد رسول صلى الله عليه وسلم: 2: 319، وما بعدها بتصرف.
فيها من مهانة الشرك وأوثانه، أبت أن تستجيب إلى الإيمان بدعوة الحقّ، وأبت أن تقبل هداية الله، وأعرضت مدبرة ماكرة، ووقفت سدًّا عنيداً دون نشر الدّعوة إلى الحق والخير، بل طغت وتجاوزت كل حدّ من العتوّ والفجور، ودبّرت مؤتمرةً لتفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتقتله غيلة وغدراً -كما أسلفنا- لا لشيء إلا لأنه يدعوهم إلى أن يقولوا ربّنا الله، لا ندّ له ولا شريك في ملكه:{يُرِيدُونَ أَن يطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْركُونَ (33)} (التوبة).
ومن ثم سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى (الطائف) -وفيها (ثقيف)، وكانوا كما قال المقريزي- أخواله، ولم تكن بينه وبينهم عداوة، يلتمس من أهلها النصرة والمنعة، والاستجابة إلى توحيد الله وهدايته، فأقام فيهم صلى الله عليه وسلم شهراً، يجتمع بسادتهم وأشرافهم، يدعوهم إلى قبول الحق ونصرته!
روى ابن إسحاق قال: (1) لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى الطائف، عمد إِلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إِخوة ثلاثة:
(1) السيرة النبوية: ابن هشام: 2: 70 - 72، وإسناده مرسل عن محمَّد بن كعب القرظي، وابن سعد: 1: 211 - 212، مختصراً، وفي سنده الواقدي، والطبري: 2: 344 - 346. والطبراني وفيه ابن إسحاق، وبقية رجاله ثقات، انظر: المجمع: 6: 35 مختصراً، والبيهقي: الدلائل: 2: 415 - 417، من غير طريق ابن إسحاق مرسلاً.
عبد ياليل بن عمرو بن عُمير، ومسعود بن عمرو بن عُمير، وحبيب بن عمرو بن عُمير بن عفو بن عقدة بن نميرة بن عوف بن ثقيف.
وعند أحدهم امرأة من قريش، من بني جُمح!
فجلس إِليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إِلى الله، وكلّمهم بما جاءهم له من نُصرته على الإِسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه!
فقال أحدهم: هو يمرط (1) ثياب الكعبة إِن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك!
وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول؛ لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله، ما ينبغي لي أن أكلمك!
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خبر ثقيف، وقد قال لهم -فيما ذُكر لي- "إِذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنّي"، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه، فيؤذِرَهم (2) ذلك عليه (3).
قال ابن هشام: قال عبيد بن الأبرص:
(1) أي يمزّق.
(2)
قال ابن هشام: السابق: يريد يُحرش بينهم، وفي الحديث "ذئر النساء على الرجال فأمر بضربهن".
(3)
انظر: الدارمي: 2: 147، وابن ماجه (1985)، والشافعي: 2: 28، وعبد الرزاق (17945) والحميدي (876)، وأبو داود (2146)، وابن حبان (4189)، والطبراني (784، 785). والبيهقي: 7: 305، والبغوي (2346)، والحاكم: 2: 188، 189، وانظر: ابن سعد: 1: 221 - 212 مختصراً، وفيه الواقدي، وفتح المنان: 8: 435 وما بعدها.
ولقد أتاني عن تميم أنهم
…
ذئروا لقتلي عامر وتعصّبوا
فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبّونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس، وألجؤوه إِلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إِلى ظلّ حبلة (1) من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إِليه، ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما ذكر لي- المرأة التي من بني جمح فقال لها:"ماذا لقينا من أحمائك؟ ".
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- فيما ذكر لي: "اللهم! إِليك أشكو ضعف قوّتي، وقلّة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين، وأنت ربّي، إِلى من تكلني؟ إِلى بعيدٍ يتجهمُني؟ أم إِلى عدوٍّ ملّكته أمري؟ إِن لم يكن بك عليّ غضب فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسَعُ لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظّلمات، وَصلح عليه أمر الدنيا والآخرة. من أن تنزِل بي غضبَك، أو يَحِلَّ عليّ سخطك، لك العُتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إِلا بك"(2).
(1) الحبلة: طاقات من قضبان الكرم.
(2)
انظر البيهقي: الدلائل: 2: 414 - 417، من طريق موسى بن عقبة عن الزهري، وهو مرسل، ولم يذكر الدعاء، وأورد السيوطي الدعاء: الجامع الصغير، وعزاه للطبراني ورمز له بالحسن، وقال الألباني: حاشية فقه السيرة: 132، ودفاع: 19 وروى هذه القصة الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن جعفر مختصراً، وفيه الدعاء بنحوه. وقال الهيثمي: المجمع: 6: 35، وفيه ابن إسحاق. وهو مدلس، وبقية رجال ثقات، وانظر فيض القدير: 2: 150 - 151 (1483).
قال: فلما رآه ابنا ربيعة: عتبة وشيبة، وما لقي، تحرّكت له رحمهما، فدعَوَا غلاهاً لهما نصرانيًّا، يقال له عدّاس، فقالا له: خذ قِطفاً من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إِلى هذا الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عدّاس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال له: كل، فلمّا وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده قال:"باسم الله" ثم أكل، فنظر عداس في وجهه، ثم قال: والله إِن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومن أهل أيّ البلاد أنت يا عدّاس؟ وما دينك؟ " قال: نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من قرية الرجل الصالح يونس بن متَّى" فقال له عدّاس: وما يُدريك ما يونس بن متَّى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أخي، كان نبيًّا وأنا نبيّ، فأكبّ عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّل رأسه ويديه وقدميه! (1)
قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك، فلمّا جاءهما عدّاس قالا له: ويلك يا عدّاس! (2) ما لك تقبّل رأسه هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قال: يا سيّدي، ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إِلاّ نبيّ، قالا له: ويحك يا عدّاس، ولا يصرفنّك عن دينك. فإِن دينك خير من دينه!
(1) صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده مرسل، وانظر: ابن سعد: 1: 211 - 212 مختصراً وفيه الواقدي، والطبري: التاريخ: 2: 344 - 346، والطبراني. وفيه ابن إسحاق، وانظر المجمع: 6: 35، والبيهقي: الدلائل: 2: 415، من غير طريق ابن إسحاق مرسلاً.
(2)
انظر ترجمته في: الإصابة: 2: 466 - 467 (5468).
وفي رواية موسى بن عقبة، (1) أن سفهاء الطائف قعدوا للرسول صلى الله عليه وسلم صفّين على طريقه فلمّا مرّ بين صفيهم جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة، وكانوا أعدوها، حتى أدموا رجليه، وكان ذلك من أشدّ ما لقي الرسول صلى الله عليه وسلم في جهاده!
وسبق أن ذكرنا ما رواه الشيخان وغيرهما أن عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ من يوم أحد؟ قال: "لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إِذ عرفت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إِلى ما أردت، فانطلقت -وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إِلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإِذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإِذا جبريل، فناداني، فقال: إِن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث الله إِليهم ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلّم عليّ، ثم قال: يا محمَّد، إِن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً"!
وهنا نبصر الرسول صلى الله عليه وسلم في اختياره الثلاثة الذين كانوا سادة ثقيف يومذاك يعطينا الدليل على أهمية دعوة الزعماء الذين ينساق الناس وراءهم .. وبعد أن رفضوا قبول دعوته تبيّن أن غيرهم في الغالب سيرفضها، ومن ثم لم يستغرق مقامه في الطائف وقتاً طويلاً!
(1) انظر: البيهقي: الدلائل: 2: 414 وفيه محمَّد بن فليح، صدوق يهم، انظر: التقريب: 502.