المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

منحةٌ ربَّانيَّة   ‌ ‌طريق الدعوة: سبق أن عرفنا -في طريق جهاد الدعوة- كيف - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: منحةٌ ربَّانيَّة   ‌ ‌طريق الدعوة: سبق أن عرفنا -في طريق جهاد الدعوة- كيف

منحةٌ ربَّانيَّة

‌طريق الدعوة:

سبق أن عرفنا -في طريق جهاد الدعوة- كيف وقفت قريش موقف العناد والجحود، والضلال والكنود، وعادت الرسول صلى الله عليه وسلم، وظلَّت عقبةً كؤوداً في سبيل دعوة الحقّ، ولجّت في العداوة والكفران، وتمادت في الإيذاء والطغيان!

وهنا تطالعنا أعظم آيات الإعجاز الكونيّ لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، التي كُتب بمداد نورها الحرف الأوّل في سطر الحفاوة الربَّانيَّة الذي افتتحت به نفحات الفرج، وانكشاف غُمم المحن والبلاء، وضائقات المعوّقات التي كان يقيمها طغاة الشرك، وعتاولة الوثنيّة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق تبليغ رسالته، ونشر دعوته .. دعوة الهُدى والنور، إعلاءً لكلمة الله .. كلمة الحق والعدل، والخير والإصلاح، والإخاء بين أبناء الإنسانيَّة كافّة، وزرع المحبَّة بين الناس من كل جنس ولون، وعصر ومصر، وجيل وقبيل، أينما وجدوا من أرض الله؛ لأن هذه المنحة الربَّانيَّة جاءت بعد مقتضياتها التي كان من أظهرها العام الذي ابتُلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقد زوجه ومأنس قلبه، ومطمئن فؤاده، وزيرة الصدق له في دياجير المحن، وهي تخفّف عنه آلامه، وتمسح عن نفسه ما كان يلمُّ به من حزن، لما يلقاه من عتوّ الشرك، وفجور الوثنيّة على أيدي أحلاسها من المستكبرين الطغاة البغاة العتاة (1)،

(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 327 وما بعدها بتصرف.

ص: 1449

ربائب الجهل الظلوم، من ملأ قريش، الذين كان يدعوهم إلى النجاة، ويأبون إلا أن يكون مأواهم النار، لا يخفّف عنهم من عذابها، وما هم منها بمخرجين!

تلك زوجه الصّدِّيقة المصدَّقة، الأمينة الطاهرة، سيّدة نساء العالمين، السيّدة خديجة أمّ المؤمنين رضي الله عنها!

ثم بفقد الحفيّ القويّ الحميّ الجريء، المطاع في قومه، العظيم في حياته، الحدب المدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حميّةً قوميّة .. العزيز في حسبه، الفارع في نسبه .. الذي إذا دعا لنضال الحماية لدفع مذلة الضّيم أجابته السيوف المنافية الهاشميّة، شاكيةً تأبى أن تقرّ في أغمادها، حتى يُقضى بينها وبين من يتلمّظ لعداوتها، ويتعرض لملاقاتها وسخطها!

ذلك الفحل لا يُجدع أنفه، ولا يطمع في مهادنته إذا اسْتُغضب .. أبو طالب بن عبد المطّلب، سيّد البطحاء، عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنو أبيه، صاحب المواقف التي أرعبت أفئدة ملأ قريش، وروّعت أمنهم، وذهبت باستقرارهم، وأذلت استكبارهم، دفاعاً عن سياج العزّة الهاشميّة التي أبى عليها تعزّزها بالسؤدد والمجد والشرف في العرب قاطبةً، أن تقبل ضَيماً في شخص وحيد الدنيا في عليا المكارم محمَّد الأمين صلى الله عليه وسلم، حفيّها، ونور حياتها، ولباب أفئدتها، يهبّون إذا أهبهم شيخهم أبو طالب، ويسكنون متحفّزين إذا سكّنهم، فهم طوع إرادته، ورهن إشارته!

وهاتان المحنتان المتعاقبتان في زمن يسير -كما أسلفنا- من أشدّ ما لقي محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحزان الدّنيا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فقد بفقدهما حنان

ص: 1450

الأنس، وعاطفة الحبّ في الزوج المحبّة الأمينة، وفقد القوّة الحامية، والحدب في عمّه الذي وقف إلى جانبه يُدافع عنه، ويقوِّي عزيمته، ويردّ عنه سفه السفهاء، وعتوّ البغاة العتاة الطغاة، وفجور الفجّار!

ولا سيما كان فقدهما عقب محنة مريرة قاسية، تجلّت فيها بشاعة اللؤم العتيّ، وفظاعة الحقد الوثنيّ، والاستكبار العنيد .. تلك هي محنة الحصار الاقتصادي، والمقاطعة الصارمة، والإجاعة المميتة ثلاث سنين، بين البؤس والحرمان، وأنين الأطفال، ودموع النساء .. هذا الحصار الذي تعاهدت عليه قريش، وأفقدها كل عاطفة حيوانيّة، بَلْه إنسانيّة، كان أشدّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- ومن دخل معهم حميّة من الهاشميّين والمطّلبيين، إيلاماً ومضاضة وقسوة -من سنيّ يوسف عليه السلام، وكانت أيّامها أظلم الحوالك في دنيا الظلم والفجور، حتّى أكل المحصورون ما لم يؤكل، وصبروا على ما لم يصبر عليه الصُّبَّر من أولي البلاء والمحن، مع ما سبق ذلك من سفه سفهاء قريش، وفجور ملئها في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في صور متعدّدة، وأشكال مختلفة، تدلّ على حنق مغيظ، وغيظ حانق حقود!

وكان من آثار ذلك في تبليغ الرسالة، وقوّة الحميّة القوميّة، أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يأسه من طغاة الوثنيّة البليدة لدعوة الحقّ والهُدى، ويأسه صلى الله عليه وسلم أن يتركوه يبلّغ رسالة ربّه، ويخلّوا بينه وبين الناس في محافلهم وأسواقهم وتجمّعاتهم، ليدعوهم إلى الله الواحد الأحد، الذي يجب أن يفرد بإخلاص العبادة -إلى الطائف حيث ثقيف .. ليؤوه وينصروه، حتى

ص: 1451

يُبلِّغ رسالة ربّه .. فلقي منهم -كما عرفنا- أفراداً وجماعات، السّفه الطائش، ولؤم الضيافة، وشراسة الخلق، ورذالة الطبع، وخسّة المروءة، فقد فَظِع بكبرائهم أن يسمعوا منه أنه رسول الله، وأنّه يدعو إلى توحيد الله، وخلع الأصنام والأوثان، فأساؤوا ردّه من أوّل وهلة، وتنمّروا له من أوّل كلمة .. وسلّطوا عليه غلمانهم وسائر سفهائهم، فوقفوا له في الطريق سِمَاطَيْن، يرمونه بالحجارة، حتى لقي من سوء ما لقي .. وبلغ مأمناً يهابه جبناء ثقيف، فرجعوا عنه .. وْعاد صلى الله عليه وسلم إلى مكّة وملؤها وسفهاؤها على أخبث ما كانوا من غيظ حقود!

وهكذا تجمّعت غمامات الآلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتكاثفت سحب العوائق أمام نهوضه بتبليغ رسالة ربّه، وانتشر الشر في آفاق الحياة، واحلولك الظلام في جنباتها، وتقاصر الأمل عن غايته، وضاقت حلقات العزائم عند كثير، واستحكم الشرُّ في نفوس الشرّيرين، وتثاءب اليأس المظلم، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً يُقلِّب وجهه في السماء، انتظاراً للفرج، وترقّباً لانجلاء غمامات المحن والبلايا!!

لقد كانت هذه المرحلة الكفاحيّة غير المتكافئة تمحيصاً للمؤمنين .. ودروساً لتربية صدق العزائم عند طلائع السابقين .. وإعداداً لكتائب الدعاة إلى الله تعالى في التأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، صبراً جميلاً، واحتمالاً لنوازل البلاء، وتوجيهاً للأحداث بفكر حكيم محكم، وسياسة رحيمة، تجعل من العدوّ صديقاً حميماً، ومن السفيه الجهول حكيماً عليماً!

ص: 1452