الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منحةٌ ربَّانيَّة
طريق الدعوة:
سبق أن عرفنا -في طريق جهاد الدعوة- كيف وقفت قريش موقف العناد والجحود، والضلال والكنود، وعادت الرسول صلى الله عليه وسلم، وظلَّت عقبةً كؤوداً في سبيل دعوة الحقّ، ولجّت في العداوة والكفران، وتمادت في الإيذاء والطغيان!
وهنا تطالعنا أعظم آيات الإعجاز الكونيّ لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، التي كُتب بمداد نورها الحرف الأوّل في سطر الحفاوة الربَّانيَّة الذي افتتحت به نفحات الفرج، وانكشاف غُمم المحن والبلاء، وضائقات المعوّقات التي كان يقيمها طغاة الشرك، وعتاولة الوثنيّة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق تبليغ رسالته، ونشر دعوته .. دعوة الهُدى والنور، إعلاءً لكلمة الله .. كلمة الحق والعدل، والخير والإصلاح، والإخاء بين أبناء الإنسانيَّة كافّة، وزرع المحبَّة بين الناس من كل جنس ولون، وعصر ومصر، وجيل وقبيل، أينما وجدوا من أرض الله؛ لأن هذه المنحة الربَّانيَّة جاءت بعد مقتضياتها التي كان من أظهرها العام الذي ابتُلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقد زوجه ومأنس قلبه، ومطمئن فؤاده، وزيرة الصدق له في دياجير المحن، وهي تخفّف عنه آلامه، وتمسح عن نفسه ما كان يلمُّ به من حزن، لما يلقاه من عتوّ الشرك، وفجور الوثنيّة على أيدي أحلاسها من المستكبرين الطغاة البغاة العتاة (1)،
(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 327 وما بعدها بتصرف.
ربائب الجهل الظلوم، من ملأ قريش، الذين كان يدعوهم إلى النجاة، ويأبون إلا أن يكون مأواهم النار، لا يخفّف عنهم من عذابها، وما هم منها بمخرجين!
تلك زوجه الصّدِّيقة المصدَّقة، الأمينة الطاهرة، سيّدة نساء العالمين، السيّدة خديجة أمّ المؤمنين رضي الله عنها!
ثم بفقد الحفيّ القويّ الحميّ الجريء، المطاع في قومه، العظيم في حياته، الحدب المدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حميّةً قوميّة .. العزيز في حسبه، الفارع في نسبه .. الذي إذا دعا لنضال الحماية لدفع مذلة الضّيم أجابته السيوف المنافية الهاشميّة، شاكيةً تأبى أن تقرّ في أغمادها، حتى يُقضى بينها وبين من يتلمّظ لعداوتها، ويتعرض لملاقاتها وسخطها!
ذلك الفحل لا يُجدع أنفه، ولا يطمع في مهادنته إذا اسْتُغضب .. أبو طالب بن عبد المطّلب، سيّد البطحاء، عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صنو أبيه، صاحب المواقف التي أرعبت أفئدة ملأ قريش، وروّعت أمنهم، وذهبت باستقرارهم، وأذلت استكبارهم، دفاعاً عن سياج العزّة الهاشميّة التي أبى عليها تعزّزها بالسؤدد والمجد والشرف في العرب قاطبةً، أن تقبل ضَيماً في شخص وحيد الدنيا في عليا المكارم محمَّد الأمين صلى الله عليه وسلم، حفيّها، ونور حياتها، ولباب أفئدتها، يهبّون إذا أهبهم شيخهم أبو طالب، ويسكنون متحفّزين إذا سكّنهم، فهم طوع إرادته، ورهن إشارته!
وهاتان المحنتان المتعاقبتان في زمن يسير -كما أسلفنا- من أشدّ ما لقي محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحزان الدّنيا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فقد بفقدهما حنان
الأنس، وعاطفة الحبّ في الزوج المحبّة الأمينة، وفقد القوّة الحامية، والحدب في عمّه الذي وقف إلى جانبه يُدافع عنه، ويقوِّي عزيمته، ويردّ عنه سفه السفهاء، وعتوّ البغاة العتاة الطغاة، وفجور الفجّار!
ولا سيما كان فقدهما عقب محنة مريرة قاسية، تجلّت فيها بشاعة اللؤم العتيّ، وفظاعة الحقد الوثنيّ، والاستكبار العنيد .. تلك هي محنة الحصار الاقتصادي، والمقاطعة الصارمة، والإجاعة المميتة ثلاث سنين، بين البؤس والحرمان، وأنين الأطفال، ودموع النساء .. هذا الحصار الذي تعاهدت عليه قريش، وأفقدها كل عاطفة حيوانيّة، بَلْه إنسانيّة، كان أشدّ على النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- ومن دخل معهم حميّة من الهاشميّين والمطّلبيين، إيلاماً ومضاضة وقسوة -من سنيّ يوسف عليه السلام، وكانت أيّامها أظلم الحوالك في دنيا الظلم والفجور، حتّى أكل المحصورون ما لم يؤكل، وصبروا على ما لم يصبر عليه الصُّبَّر من أولي البلاء والمحن، مع ما سبق ذلك من سفه سفهاء قريش، وفجور ملئها في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم في صور متعدّدة، وأشكال مختلفة، تدلّ على حنق مغيظ، وغيظ حانق حقود!
وكان من آثار ذلك في تبليغ الرسالة، وقوّة الحميّة القوميّة، أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يأسه من طغاة الوثنيّة البليدة لدعوة الحقّ والهُدى، ويأسه صلى الله عليه وسلم أن يتركوه يبلّغ رسالة ربّه، ويخلّوا بينه وبين الناس في محافلهم وأسواقهم وتجمّعاتهم، ليدعوهم إلى الله الواحد الأحد، الذي يجب أن يفرد بإخلاص العبادة -إلى الطائف حيث ثقيف .. ليؤوه وينصروه، حتى
يُبلِّغ رسالة ربّه .. فلقي منهم -كما عرفنا- أفراداً وجماعات، السّفه الطائش، ولؤم الضيافة، وشراسة الخلق، ورذالة الطبع، وخسّة المروءة، فقد فَظِع بكبرائهم أن يسمعوا منه أنه رسول الله، وأنّه يدعو إلى توحيد الله، وخلع الأصنام والأوثان، فأساؤوا ردّه من أوّل وهلة، وتنمّروا له من أوّل كلمة .. وسلّطوا عليه غلمانهم وسائر سفهائهم، فوقفوا له في الطريق سِمَاطَيْن، يرمونه بالحجارة، حتى لقي من سوء ما لقي .. وبلغ مأمناً يهابه جبناء ثقيف، فرجعوا عنه .. وْعاد صلى الله عليه وسلم إلى مكّة وملؤها وسفهاؤها على أخبث ما كانوا من غيظ حقود!
وهكذا تجمّعت غمامات الآلام على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتكاثفت سحب العوائق أمام نهوضه بتبليغ رسالة ربّه، وانتشر الشر في آفاق الحياة، واحلولك الظلام في جنباتها، وتقاصر الأمل عن غايته، وضاقت حلقات العزائم عند كثير، واستحكم الشرُّ في نفوس الشرّيرين، وتثاءب اليأس المظلم، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً يُقلِّب وجهه في السماء، انتظاراً للفرج، وترقّباً لانجلاء غمامات المحن والبلايا!!
لقد كانت هذه المرحلة الكفاحيّة غير المتكافئة تمحيصاً للمؤمنين .. ودروساً لتربية صدق العزائم عند طلائع السابقين .. وإعداداً لكتائب الدعاة إلى الله تعالى في التأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم، صبراً جميلاً، واحتمالاً لنوازل البلاء، وتوجيهاً للأحداث بفكر حكيم محكم، وسياسة رحيمة، تجعل من العدوّ صديقاً حميماً، ومن السفيه الجهول حكيماً عليماً!