الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقى الله الأمّة شرّ هذه الأقصوصة المتزندقة فلم تثبت برواية مسندة صحيحة، فلم يتدنّس بروايتها صحابي قط، ولا تابعي من ذوي الثقة الأعلام!
أمّا مصابرتنا للشيخ الكوراني، وبيان زيف كلامه، وخروجه عن جادّة الصواب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتهوّره في حماقة لا يعرفها أهل العلم والإيمان، فخشية أن ينخدع بأباطيله وأكاذيبه من يقرأ كلامه في سياق الآلوسي الذي كبا به جواد الحقّ فغلط، فقال في وصف هذا الكوراني (إنه خاتمة المحقّقين)!
والله تعالى وحده العلم بالنيّات، وهو المجازي بعدله كل عمل اكتسبه عبدٌ من عباده، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل!
آيات القرآن:
ومعلوم أن الرسل عندما يكلّفون حمل الرسالة إلى الناس (1)، يكون أحبّ شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاءوهم به من عند الله فيتّبعوه .. ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة .. والرسل بشر محدودو الأجل، وهم يحسّون هذا ويعلمونه، فيتمنَّون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق .. يودون مثلاً لو هادنوا الناس فيما يعزّ على الناس أن يتركوه من عادات وتقاليد وموروثات، فيسكتوا عنها مؤقّتاً، لعلّ الناس أن يفيئوا إلى الهُدى، فإذا دخلوا فيه أمكن صرفهم عن تلك الموروثات العزيزة!
ويودّون مثلاً لو جاروهم في شيء يسير من رغبات نفوسهم رجاء
(1) في ظلال القرآن: 4: 2433 وما بعدها بتصرف.
استدراجهم إلى العقيدة، على أمل أن تتمّ فيما بعد تربيتهم الصحيحة التي تطرد هذه الرغبات المألوفة!
ويودّون، ويودّون .. من مثل هذه الأماني والرغبات البشريّة المتعلّقة بنشر الدعوة وانتصارها .. ذلك على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فالكسب الحقيقيّ للدّعوة في التقدير الإلهيّ الكامل غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم هو أن تمضي على تلك الأصول وفق تلك الموازين، ولو خسرت الأشخاص في أوّل الطريق، فالاستقامة الدقيقة الصارمة على أصول الدعوة ومقاييسها كفيلة أن تثني هؤلاء الأشخاص أو من هم خير منهم إلى الدعوة في نهاية المطاف، وتبقى مُثُل الدعوة سليمة لا تخدش، مستقيمة لا عوج فيها ولا انحناء!
ويجد الشيطان في تلك الرغبات البشريّة، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرّفات أو كلمات فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس .. ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، ويبيّن الحكم الفاصل فيما وقع من تصرّفات أو كلمات .. ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة، كما حدث في بعض تصرّفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي بعض اتجاهاته، مما بين الله فيه بياناً في القرآن!
بذلك يبطل الله كيد الشيطان، ويحكم الله آياته، فلا تبقى هناك شبهة في الوجه الصواب:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج)!
فأمّا الذين في قلوبهم مرض من نفاق أو انحراف، والقاسية قلوبهم من
الكفّار المعاندين، فيجعلون في مثل هذه الأحوال مادّةً للجدل واللّجاج والشقاق:{وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)} (الحج)!
وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)} (الحج)!
وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي تاريخ الدعوة الإِسلامية نجد أمثلة من هذا، تغنينا عن تأويل الكلام، الذي أشار إليه الإِمام ابن جرير رحمه الله!
وهنا نذكر ما رواه الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قال:
أنزل {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} (عبس)! في ابن أمّ مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: يا رسول الله! أرشدني، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من عظماء المشركين، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعرض عنه، ويُقبل على الآخر، ويقول:"أترى بما أقول بأساً" فيقول: لا، ففي هذا أنزل! (1)
وقد أجمع المفسّرون على أن سبب نزول الآية: أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طمع في إِسلامهم، فأقبل عبد الله بن أمّ مكتوم، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع عليه ابن أمّ مكتوم كلامه، فأعرض عنه فنزلت. (2)
وتطالعنا الآيات: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
(1) الترمذي (3331)، وعلله الكبير (667)، وصحيح الترمذي (2651)، وأبو يعلى (4848)، والطبري: التفسير: 30: 50، والحاكم: 2: 514، وابن حبان (535).
(2)
انظر: الشوكاني: 5: 378.
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)} (عبس)!
وهذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جداً، أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة .. إنه معجزة، هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض، والآثار التي ترتّبت على إقرارها بالفعل في حياة البشريّة، ولعلّها هي معجزة الإِسلام الأولى، ومعجزته الكبرى كذلك، ولكن هذا التوجيه يرد هكذا، تعقيباً على حادث فردي، على طريقة القرآن الإلهيّة في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصةً لتقرير الحقيقة المطلقة، والمنهج المطرد! (1)
وبهذا ردّ الله للدعوة موازينها الدقيقة وقيمها الصحيحة، وصحّح تصرّف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي دفعته إليه رغبته في هداية صناديد قريش، طمعاً في إسلام مَن وراءهم وهم كثيرون .. فبيّن الله له أن استقامة الدعوة على أصولها الدقيقة أهمّ من إسلام أولئك الصناديد، وأبطل كيد الشيطان من الدخول إلى العقيدة من هذه الثغرة، وأحكم الله آياته، واطمأنّت إلى هذا البيان قلوب المؤمنين!
ويروي مسلم عن سعد -هو ابن أبي وقاص- قال: (2)
كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ستّة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترؤن علينا.
قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجلٌ من هذيل، وبلال، ورجلان لَسْتُ أُسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث نفسه،
(1) انظر: السابق: 6: 3822 وما بعدها.
(2)
مسلم: 44 فضائل الصحابة (2413).
فأنزل الله عز وجل: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الأنعام: 52)!
وهكذا ردّ الله للدّعوة قيمها المجرّدة، وموازينها الدقيقة، وردّ كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة، ثغرة الرغبة البشرية في استمالة كبراء قريش بإجابة رغبتهم في أن لا يحضر هؤلاء الفقراء مجلسهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وقيم الدعوة أهمّ من أولئك الكبراء، وما يتبع إسلامهم من إسلام الألوف معهم، وتقوية الدعوة في نشأتها بهم -كما كان يتمنّى رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم بمصدر القوّة الحقيقيّة، الكامنة في الاستقامة التي لا ترعى هوى شخصيًّا ولا عُرفاً جارياً!
ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمّين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه:
أن هذه الآية: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} (الأحزاب: 37)! نزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة! (1)
وفي رواية عنه رضي الله عنه قال: (جاء زيد بن حارثة) يشكو، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"اتق الله وأمسك عليك زوجك".
قال أنس: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً لكتم هذه، قال: فكانت زينب تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوّجكنّ أهاليكن، وزوّجني الله من فوق سبع سموات! (2)
(1) البخاري: 65 - التفسير (4787).
(2)
البخاري: 97 - التوحيد (7420).
قال ابن حجر (1): أخرج ابن أبي حاتم هذه القصة من طريق السّدّي، فساقها سياقاً واضحاً حسناً، ولفظه: بلغنا أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش، وكانت أمّها أميمة بنت عبد المطلب عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يزوّجها زيد بن حارثة مولاه، فكرهت ذلك، ثم إِنها رضيت بما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوّجها إِيّاه، ثم أعلم الله عز وجل نبيّه صلى الله عليه وسلم بعد أنها من أزواجه، فكان يستحي أن يأمر بطلاقها. وكان لا يزال يكون بين زيد وزينب ما يكون من الناس، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمسك عليه زوجه، وأن يتقي الله، وكان يخشى الناس أن يعيبوا عليه، ويقولوا: تزوّج امرأة ابنه، وكان قد تبنّى زيداً).
ثم قال ابن حجر: ووردت آثار أخرى أخرجها ابن أبي حاتم، والطبري، ونقلها كثير من المفسرين، لا ينبغي التشاغل بها، والذي أوردته منها هو المعتمد!
والحاصل أن الذي كان يخفيه النبيّ صلى الله عليه وسلم هو إخبار الله إيّاه أنها ستصير زوجته، والذي كان يحمله على إخفاء ذلك خشية قول الناس: تزوّج امرأة ابنه، وأراد الله إبطال ما كان أهل الجاهليّة عليه من أحكام التبنّي بأمر لا أبلغ في الإبطال منه، وهو تزوّج امرأة الذي يُدعى ابناً، قال: ووقوع ذلك من إمام المسلمين، ليكون أدعى لقبولهم، قال: وإنما وقع الخبط في تأويل متعلّق الخشية، والله أعلم! (2)
وهكذا أنفذ الله شريعته وأحكمها، وكشف ما خالج خاطر رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1) انظر: الفتح: 8: 523 - 524.
(2)
وانظر: أحمد: 6: 241، 266، والطبري: التفسير: 22: 13 عن عائشة رضي الله عنها.