الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتطهير قلوبهم، وامتحان صبرهم على الحق الذي هم عليه أمناء، فإذا اختاروا الامتحان بقوّة كفّ الله عنهم الابتلاء، وكفّ عنهم هؤلاء الأعداء، وعجز هؤلاء الأعداء أن يمدّوا إليهم أيديهم بالأذى وراء ما قدّر الله، وآب أعداء الله بالضعف والخذلان، وبأوزارهم كاملة، يحملونها على ظهورهم:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} !
ويخلص لنا ثالثاً:
أن من حكمة الله الخالصة أن يترك لشياطن الإنس والجن أن يتشيطنوا -فهو إنما يبتليهم في القدر الذي تركه لهم من الاختيار والقدرة- وأن يدعهم يؤذون أولياءه فترةً من الزمان فهو إنما يبتلي أولياءه كذلك لينظروا: أيصبرون؟ أيثبتون على ما معهم من الحق، بينما الباطل ينتفش عليهم ويستطيل؟ أيخلصون من حظ أنفسهم في أنفسهم، ويبيعونها بيعة واحدة لله، على السراء وعلى الضرّاء سواء، وفي المنشط والمكره؟ وإلا فقد كان الله قادراً على ألا يكون شيء من هذا الذي كان!
ويخلص لنا رابعاً:
هَوَان الشياطن من الإنس والجنّ، وهَوَانُ كيدهم وأذاهم، فما يستطيعون بقوّة ذاتيّة لهم، وما يملكون أن يتجاوزوا ما أذن الله به على أيديهم
…
والمؤمن الذي يعلم أن ربّه هو الذي يقدر، وهو الذي يأذن، خليق أن يستهين بأعدائه من الشياطين، مهما تبلغ قوّتهمِ الظاهرة، وسلطانهم المدَّعى .. ومن هنا هذا التوجيه العلوي:{فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} !
دعهم وافتراءهم، فأنا من ورائهم قادر على أخذهم، مدّخر لهم جزاءهم!
وهناك حكمة أخرى غير ابتلاء الشياطين، وابتلاء المؤمنين .. لقد قدّر الله أن يكون هذا العداء، وأن يكون هذا الإيحاء وأن يكون هذا الغرور بالقول
والخداع .. لحكمة أخرى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} !
أي لتستمع إلى ذلك الخداع والإيحاء قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة .. فهؤلاء يحصرون همّهم كله في الدنيا، وهم يرون الشياطين في هذه الدنيا يقفون لكل نبيّ، وينالون بالأذى أتباع كل نبيّ، ويزين بعضهم لبعض القول والفعل، فيخضعون للشياطين، معجبين بزخرفهم الباطل، معجبين بسلطانهم الخادع، ثم يكسبون ما يكسبون من الإثم والشرّ والمعصية والفساد، في ظلّ ذلك الإيحاء، وبسبب هذا الإصغاء!
وهذا أمر أراده الله كذلك، وجرى به قدرة، لما وراءه من التمحيص والتجربة؛ ولما فيه من إعطاء كل أحد فرصته، ليعمل لما هو ميسّر له، ويستحق جزاءه بالعدل والقسطاس!
ثم لتصلح الحياة بالدفع، ويتميّز الحق بالمفاصلة، ويتمحّض الخير بالصبر، ويحمل الشياطين أوزارهم كاملة يوم القيامة .. وليجري الأمر كله وفق مشيئة الله .. أمر أعدائه وأمر أوليائه على السواء .. إنها مشيئة الله، والله يفعل ما يشاء!
والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجنّ من ناحية، وكل نبيّ وأتباعه من ناحية أخرى، ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة .. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة!
إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون .. شياطين الإنس والجن .. تتجمّع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقرّرة، هي عداء الحق الممثّل
في رسالات الأنبياء وحربه .. خطة مقرّرة فيها وسائلها: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} !
يمدّ بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية، وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضاً! وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمّع للشرّ في حرب الحق وأهله .. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم، ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً! إنهم لا يهدون بعضهم بعضاً إلى الحق أبداً، ولكن يزيّن بعضهم لبعض عداء الحق وحربه، والمضيّ في المعركة معه طويلاً!
ولكن هذا الكيد كله ليس طليقاً؛ إنه محاط به بمشيئة الله وقدره؛ لا يقدر الشياطين على نبيّ إلا بالقدر الذي يشاؤه الله وينفذه بقدره .. ومن هنا يبدو هذا الكيد -على ضخامته وتجمّع قوى الشرّ العالميّة كلها عليه- مقيّداً مغلولاً!
إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط، ولا يصيب من يشاء بلا معقّب ولا مراجع، كما يحبّ الطغاة البغاة العتاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلّقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم!
كلا! إن إرادتهم مقيّدة بمشيئة الله، وقدرتهم محدودة بقدر الله .. وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله -في حدود الابتلاء- ومرد الأمر كله إلى الله!
ومشهد التجمّع على خطّة مقرّرة من الشياطين جدير بأن يسترعي وعي أصحاب الحق، ليعرفوا طبيعة الخطة ووسائلها .. ومشهد إحاطة مشيئة الله وقدره بخطّة الشياطين وتدبيرهم، وجدير كذلك بأن يملأ قلوب أصحاب الحق بالثقة والطمأنينة واليقين، وأن يعلّق قلوبهم وأبصارهم بالقدرة القاهرة والقدر النافذ، وبالسلطان الحق الأصيل في هذا الوجود، وأن يطلق وجدانهم من
التعلّق بما يريده أو لا يريده الشياطين! وأن يمضوا في طريقهم يبنون الحق في واقع الخلق، بعد بنائه في قلوبهم هم وفي حياتهم .. أمّا عداوة الشياطين، وكيد الشياطين، فليدعوهما للمشيئة المحيطة، والقدر النافذ:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} !
ويطالعنا قوله تعالى:
إنها سنة جارية (1)، أن ينتدب في كل قرية (وهي المدينة الكبيرة والعاصمة) نفر من أكابر المجرمين فيها، يقفون موقف العداء من دين الله، ذلك أن دين الله يبدأ من نقطة تجريد هؤلاء الأكابر من السلطان الذي يستطيلون به على الناس، ومن الربوبيّة التي يتعبّدون بها الناس، ومن الحاكميّة التي يستذلّون بها الرقاب، ويردّ هذا كله إلى الله وحده .. ربّ الناس .. ملك الناس .. إله الناس!
إنها سنة من أصل الفطرة .. أن يرسل الله رسله بالحق .. بهذا الحق الذي يجرّد مدّعي الألوهية من الألوهيّة، والربوبيّة، والحاكميّة، فيجهر هؤلاء بالعداوة لدين الله ورسل الله، ثم يمكرون مكرهم في القرى، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ويتعاونون مع شياطين الجنّ في المعركة مع الحق والهدى، وفي نشر الباطل والضلال، واستخفاف الناس بهذا الكيد الظاهر والخافي!
إنها سنّة جارية، ومعركة محتومة؛ لأنها تقوم على أساس التناقض الكامل
(1) السابق: 1202 بتصرف.
بين القاعدة الأولى في دين الله -وهي ردّ الحاكميّة كلها لله- وأطماع المجرمين في القرى، بل بين وجودهم أصلاً!
معركة لا مفرّ للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخوضها، فهو لا يملك أن يتّقيها، ولا مفرّ للمؤمنين بالنبيّ أن يخوضوها، وأن يمضوا إلى النهاية فيها .. والله سبحانه يطمئن أولياءه .. إن كيد أكابر المجرمين -مهما ضخم واستطال- لا يحيق إلا بهم في نهاية المطاف .. إن المؤمنين لا يخوضون المعركة وحدهم فالله وليّهم فيها، وهو حسبهم، وهو يردّ على الكائدين كيدهم:{وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)} فليطمئن المؤمنون!
ويطالعنا قوله عز وجل:
ولله الحكمة البالغة (1) فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوّي عودها، ويطبعها بطابع الجدّ الذي يناسب طبيعتها .. وكفاح أصحاب الدعوات للمجرمين الذين يتصدّون لها -مهما كلّفهم من مشقة، ومن تعويق- هو الذي يميّز الدعوات الحقّة من الدعوات الزائفة .. وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصر المؤمنة القويّة المتجرّدة، التي لا تبتغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة، تبتغي بها وجه الله تعالى!
(1) السابق: 5: 2561 بتصرف.
ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة، تسلك طريقاً ممهّدة مفروشة بالأزهار، ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون، ولا يتعرّض لها المكذّبون والمعاندون لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، ولاختلطت الدعوات .. ووقعت البلبلة والفتنة، ولكن بروز الخصوم والأعداء للدعوات، هو الذي يجعل الكفاح لانتصارها حتماً مقضيًّا، ويجعل الآلام والتضحيات لها وقوداً، فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون، الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع، وأعراض الحياة الدنيا؛ بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها، ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عوداً، وأشدّهم إيماناً، وأكثرهم تطلعاً إلى ما عند الله، واستهانةً بما عند الناس .. عندئذ تتميّز دعوة الحق من دعاوى الباطل، وعندئذ تُمَحّص الصفوف، فيتميّز الأقوياء من الضعفاء، وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها .. أولئك هم الأمناء عليها، الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته، وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين .. وقد علَّمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور .. وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم، فنما رصيدهم من القوّة، ونمت ذخيرتهم من المعرفة، فيكون هذا رصيداً للدعوة التي يحملون رايتها على السرّاء والضرّاء!
والذي يقع غالباً أن كثرة الناس تقف مشاهدة للصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات، حتى إذا تضخم رصيد التضحيات والآلام في صفّ أصحاب الدعوات، وهم ثابتون على دعوتهم، ماضون في طريقهم، أدركت
الكثرة المشاهدة تمسك أصحاب الدعوة بدعوتهم، فعلى الرغم من التضحيات والآلام، إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحّون به وأثمن .. وعندئذ تتقدّم الكثرة المشاهدة لترى هذا العنصر الغالي الثمين الذي يرجح كل أعراض الحياة، ويرجح الحياة ذاتها عند أصحاب الدعوة، وعندئذ يدخل المشاهدون أفواجاً في هذه العقيدة بعد طول مشاهدة لأحداث الصراع!
ومن أجل هذا كله جعل الله لكل نبيّ عدوًّا من المجرمين، وجعل المجرمين يقفون في وجه دعوة الحق، وحملة الدعوة يكافحون المجرمين، فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق، والنهاية مقدّرة من قبل، ومعروفة لا يخطئها الواثقون بالله .. إنها الهداية إلى الحق؛ لأنه الانتهاء إلى النصر:{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)} !
وبروز المجرمين في طريق الأنبياء أمر معتاد؛ فدعوة الحق إنما تجيء في أوانها لعلاج فساد واقع في الجماعة أو في البشريّة .. فساد في القلوب؛ وفساد في النظم؛ وفساد في الأوضاع .. ووراء هذا الفساد يكمن المجرمون، الذين ينشئون الفساد من ناحية، ويستغلّونه من ناحية، والذين تتفق مشاربهم مع هذا الفساد، وتتنفّس شهواتهم في جوّه الوبيء، والذين يجدون فيه سنداً للرغبات الزائفة التي يستندون هم في وجودهم إليها .. فطبيعي إذن أن يبرزوا للأنبياء وللدعوات دفاعاً عن وجودهم واستبقاءً للجوّ الذي يستطيعون أن يتنفّسوا فيه، وبعض الحشرات يختنق برائحة الأزهار العبقة، ولا يستطيع الحياة إلا في المستنقع الآسن، وكذلك المجرمون .. فطبيعي إذن أن يكونوا أعداء لدعوة الحق، ويستميتون في كفاحها .. وطبيعي أن تنتصر دعوة الحق في النهاية؛ لأنها تسير في خط الحياة، وتتّجه إلى الأفق الكريم الوضيء الذي تتّصل فيه