الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حقيقة الإسراء والمعراج:
وبعد أن عرضنا -إجمالاً- لأهم الأدلّة، نبصر دعوةً تنادي المسلم، وتدعوه أن يتحرّك ويرتفع، فالإسراء لم يكن لغير محمَّد صلى الله عليه وسلم، والمعراج كذلك .. والمسلم من أتباع هذا النبيّ الذي أسرى الله به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في لحظات، وعرج به إلى السماوات العلا في لمحات، إلى أن جاوز مرتبةً وقفت عندها الخواطر والأماني .. ومن ثم يتحرّك المؤمن في طريق الصعود، فقد عبّد الرسول صلى الله عليه وسلم طريق الحق، وذلّل سبيل الهُدى، وتحمّل ما تحمّل .. وقد فتحت هذه الآية الربّانيّة عوالم، وقدّمت معالم، وأبصرتنا آفاق المجد واسعة!
ونبصر المسلم الصادق لا يختص بأرض دون أرض، ولا يحدّه مكان دون مكان، فهو كالشمس تشرق لتضيء الدنيا كلها، ومكانها في العلياء .. ونبصره يتحرّك لتبليغ دعوة الله إلى خلق الله، عسى أن يفتح الله به قلوباً غلفاً، وآذاناً صمًّا، وأعيناً عمياً!
وإذا ما كانت هذه الآية عوضاً عن جفوة الأرض وفقد النصير فإن مطلع سورة الإسراء -كما أسلفنا- يبصّرنا بالتنزيه والتقديس، وختامها يدعونا إلى الحمد، ووسط البدء والختام نقرأ عقب دعاوى المشركين عن الآية:
ونبصر كل شيء يتوجّه إلى الله، فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحة شجيّة نديّة، تنبض بها كل ذرّة في هذا الكون، وتنتفض تسبّح الله، وترتفع في جلال وكمال إلى الخالق جلّ شأنه!
ونبصر إعلان وراثة خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم لمقدّسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدّسات، وارتباط رسالته بها جميعاً، فهي رحلة مباركة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آماداً وآفاقاً أوسع من الزمان (1)، وتتضمّن معاني أكبر من المعاني الغريبة التي تتكشَّف عنها للنظرة الأولى!
ونبصر السياق ينتقل في مفتتح سورة الإسراء من صيغة التسبيحِ لله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} إلى صيغة التقرير: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} إلى صيغة الوصف: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وفقاً لدقائق الدلالات التعبيريّة بميزان دقيق حسّاس!
فالتسبيح يرتفع موجّهاً إلى ذات الله سبحانه، وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصًا، والوصف بالسميع البصير في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهيّة، وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة لتؤدّي دلالتها بدقّة كاملة!
وإنه لمشهد كونيّ فريد، حين يتصوّر المؤمن كل شيء يسبّح بحمد الله .. وإن الوجدان ليرتعش وهو يستغرق تلك الحقيقة في كل ما حوله ممّا يراه وممّا لا يراه!
(1) انظر: في ظلال القرآن: 4: 2212.
وحين تشفّ الروح وترفّ وتصفو تدرك سراً من أسرار هذا الوجود!
ونبصر مطلع السورة ووسطها وختامها يتّسق مع جوّ الإسراء اللطيف، والرحلة من المسجد الحرام -أول بيت وضع للناس- إلى المسجد الأقصى، وهي تربط عقيدة التوحيد في موكب الأنبياء والأماكن المقدّسة!
ونبصر اتجاهاً إلى الهدف الواحد الذي بعث الله النبيّين لدعوه الناس إليه، وسجوداً لله الذي كرّم الإنسان، ووقوفاً وراء خاتم النبيّين الذي جاء ليتمّم البناء، ويضع اللبنة المحكمة الأخيرة!
وفي سَبَحَات من الجلال والجمال والكمال، وفضاء لا يعلم مداه إلا الله، نبصر المعراج إلى مستوى لم يكن لغير محمَّد صلى الله عليه وسلم!
ونبصر تشويقاً للمسلم، ليصعد معارج الكمال، وليلقى كل صعب، ويعلو كل مركب خطر!
وفي هذا نداء قويّ يهزّ أعطاف المؤمن هزاً، ويهمس في أذنه:
لست مجرد إنسان في هذه الحياة!
لست مجرد كائن في هذا الوجود!
فلك روح دونها كل روح لا تؤمن بالله!
ولك همة عالية دونها قمم الجبال!
وقد خلقت لتحلّق وتعلو دائماً!
ومن ثم يعلو ويعرج بروحه، ويسمو بفكره، ويتحرّك في طريق الصعود!