الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما أن وجه صلى الله عليه وسلم في أرفع مكان في الرّفيق الأعلى مُستقرّة هناك، وبدنه في ضريحه غيرُ مفقود، وإذا سلّم عليه السلم ردّ الله عليه روحه حتّى يردّ عليه السلام، ولم يفارق الملأ الأعلى!
ومن كثُفَ إدراكه، وغلظت طباعُه عن إدراك هذا، فلينظر إلى الشمس في علوّ محلّها، وتعلّقها، وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها!
هذا، وشأن الرُّوح فوق هذا، فلها شأن، وللأبدان شأن!
وهذه النار تكون في محلّها، وحرارتها تؤثّر في الجسم البعيد عنها، مع أن الارتباط والتعلّق الذي بين الروُح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتمّ، فشأن الرُّوح أعلى من ذلك وألطف!
فقل للعيون الرُّمْدِ إِيّاكِ أن تَري
…
سَنَا الشَّمس فاستغشي ظلام اللّياليا
القول الثالث:
بالجسد يقظة إلى بيت المقدس، وإلى السماء بالروح (1)، واستدلوا بآية الإسراء .. وقالوا: جعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجّب به من الكفّار تعجّب استحالة، ومن المؤمنين تعجّب تعظيم، بعظيم قدرة الله الباهرة، والتمدّح بتشريف النبي صلى الله عليه وسلم، وإظهار الكرامة له بالإسراء، ولو كان الإسراء بجسده إلى مكان زائد عن المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ
(1) انظر: شرح المواهب اللدنية: 6: 5.
في المدح، فلمّا لم يقع ذكر المعراج في هذا الموضع مع كون شأنه أعجب، وأمره أغرب بكثير من الإسراء، دلّ على أنه كان مناماً، وأما الإسراء فلو كان مناماً لما كذّبوه ولا استنكروه!
وأجيب كما ذكر ابن المنير بأن حكمة التخصيص بالمسجد الأقصى سؤال قريش له على سبيل الامتحان، على ما شاهدوه وعرفوه من صفة بيت المقدس، وقد علموا أنه لم يسافر إليه، فيجيبهم بما عاين -كما سبق- ويوافق ما يعلمونه، فتقوم الحجة، وكذلك وقع!
ولهذا لم يسألوه عما رأى في السماء، ولا عهد لهم بذلك!
وفي الشامي: وأجاب الأئمّة عن ذلك بأنه استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء، فلمّا ظهرت أمارات صدقه، ووضحت لهم براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية، أخبرهم بما هو أعظم منها، وهو المعراج، فحدّثهم به، وأنزله الله في سورة النجم!
قال ابن حجر (1): ويؤيد وقوع المعراج عقب الإسراء في ليلة واحدة رواية ثابت عن أنس عند مسلم -الحديث الأول الذي سبق- ففي أوّله: "أتيت بالبُراق .. " إلى أن قال: "ثم عرج بنا
…
".
قال ابن القيم (2): وكان الإسراء مرّة واحدة، وقيل: مرّتين (3): مرّة يقظة، ومرّة مناماً، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك -الآتي- وقوله:(ثم استيقظت) وبين سائر الروايات!
(1) فتح البارى: 7: 198، وفي شرح المواهب:(وقوع الإسراء عقب المعراج)، وهو خطأ ظاهر.
(2)
زاد المعاد: 3: 42.
(3)
انظر: الآية الكبرى: 109.
ومنهم من قال: بل كان هذا مرّتين، مرَّة قبل الوحي، لقوله في حديث شريك:(وذلك قبل أن يوحى إليه) ومرّة بعد الوحي، كما دلّت عليه سائر الأحاديث!
ومنهم من قال: بل ثلاث مرّات: مرّة قبل الوحي، ومرّتين بعده!
وكلّ هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهريّة من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات، جعلوه مرّة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع!
والصواب الذي عليه أئمّة النقل أن الإسراء كان مرّة واحدة بمكّة بعد البعثة!
ويا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً، كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في صلّ مرّة تفرض عليه الصلاة خمسين، ثم يتردّد بين ربّه وبين موسى، حتى تفسير خمساً، ثم يقول:"أمضيت فريضتي، وخفّفت عن عبادي" ثم يعيدها في المرّة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها عشراً عشراً، وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظه من حديث الإسراء -كما سيأتي!
تلك هي الأقوال المشهورة، وهناك أقوال أخرى نتحدث عنها في حديث شريك بعون الله وتوفيقه!
ونعود إلى كلام الإِمام ابن القيّم، نعود لنرى تشييده بكلام فلسفي لا يقبله الشيخ عرجون (1)، الذي قال:
(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 354 وما بعدها بتصرف.
لابدّ من التساؤل حينئذ أمام الحماسة المتدفّقة في تشييد بناء هذا القول المتداعي: هل كان التصوّر للإسراء على قول القائلين بالرّوح ولم يفقد جسده صلى الله عليه وسلم موجوداً في ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أخبر مجتمع الكفر من قريش برحلته الإعجازيّة، فاستمعوا له ما بين مصفّق وضاحك وساخر، إنكاراً وتكذيباً لما قال لهم، وحين استوصفوه المسجد الأقصى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت في ذاكرته بعض أشياء منه، فكرب كرباً شديداً، فجلاّه ربّ العزّة في الحجر، فجعل ينظر إليه ويخبر عمّا يسألون، فلمّا وافق وصفه ما عندهم ممّا عرفوه عن المسجد الأقصى، لكثرة تردّدهم عليه للتجارة وغيرها، قال قائلهم: أمّا الوصف فقد صدق فيه؟
وهل المسلمون وهم يستمعون إلى نبيّهم صلى الله عليه وسلم يتحدّث عن رحلته الإعجازيّة يفهمون أنها رحلة روح فقط، تركت جسدها وانسلخت منه، ثم عادت إليه؟
ففيم إذن كان موقف الذين لم يصدقوا، وهم يعلمون أن الرُّوح لها شأنها الخاص الذي لا تقيّده المادّيّات، فتنطلق إلى أقصى المشرق ثم تعود إلى أقصى المغرب في لحظات من الزمن، وتباشر من الأمور المادّيّة ما يقتضي أعواماً وشهوراً، لو كان حصوله حصولاً ماديًّا؟
وهل كان ملأ قريش حين استمعوا إليه صلى الله عليه وسلم، وهو يحدثّهم عن رحلته، وعجائب ما رأى فيها من آيات الله في ملكوته في طريقه ذهاباً وجيئةً يفهمون أنها رحلة روح انسلخت عن جسدها، وتركته حيًا، حتى عادت إليه، وامتزجت به، كما كان حالها قبل الرحلة؟
وإذن ففيم كان الإنكار والتكذيب والاستسخار؟! وهم يعلمون أن الأرواح لا ينكر عليها قطع المسافات البعيدة جدًا في زمن يسير، وقد قالوا في إنكارهم:
إننا نضرب لها أكباد الإبل شهراً مصعدةً وشهراً آيبةً، وأنت تقول: إنك ذهبت إليها في لحظة من ليل، ثم عدت إلينا تحدّثنا؟
وهل لهذا الطراز من التخيّلات سند من أمثاله وشواهده في آثار الأنبياء ومعجزاتهم مثل ما وجد من الشواهد لنقل جسم عظيم من مكان قصيّ البعد في لحظة من ارتداد طرف العين، كنقل عرش ملكة سبأ، وهو ثابت بنصّ القرآن الكريم؟
وانسلاخ الروح عن الجسم وبقاؤه حيًّا ينتظرها هوس إشراقي متفلسف، انتقل إلى بعض الفارغين من أدعياء التصوّف الإشراقي الفلسفي، وقد جاء في بعض شروح عينيّة ابن سينا أن بعض متقدّمي متفلسفة الإشراق الوثنييّن قال: انسلخت عن بدني فعرفت من أنا، فهل هذا الهوس المأفون يتفق في شيء مع منهج الإِسلام وشريعته؟!
ومن العجيب أن الإِمام ابن القيّم افتتح حديثه عن الإسراء -كما أسلفنا- بقوله: ثم أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكباً على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام!
ففي قوله على الصحيح دليل على أن مقابله ليس صحيحاً، وإذا كان ذلك كذلك ففي أيّ شيء كانت الحماسة لتشييد قول غير صحيح، وإهمال القول الصحيح لمجرد السرد، وقصص الروايات؟