الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت أساساً لدعائم تكوين المجتمع المسلم، وتحديد خصائصه، وتحصين كيانه، وحماية وجوده! وقد كان هذا التوجيه منفذاً من منافذ سريان الدعوة إلى العقول والقلوب، اتخذ فيه سَيْرُ الرسالة سَمْته إلى تبيث أقدامها راسخةً هادئة، في صبر لا ينفد، وعزائم لا تفتر!
40 - إسلام الطفيل الدوسي:
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما يرى من قومه، يبذل لهم النصيحة، ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه، وجعلت قريش، حين منعه الله منهم، يحذّرونه الناس، ومن قدم عليهم من العرب!
وكان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدّث: أنه قدم مكّة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فقالوا له: يا طفيل، إنك قَدمْتَ بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا، قد أعضل (1) بنا، وقد فرّق جمَاعتنا، وشتّت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرّق بين الرجل وأبيه، وبين الرجل وأخيه، وبين الرجل وزوجته، وإنما نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، فلا تكلمنّه ولا تسمعن منه شيئاً!
قال: فوالله ما زالوا بي، حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئاً، ولا أكلمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسفاً (2)، فَرقاً من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه!
قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول صلى الله عليه وسلم قائمٌ يصلّي عند الكعبة،
(1) أي: اشتد أمره، يقال: أعضل الأمر إذا اشتد ولم يوجد له وجه، ومنه الداء المعضل.
(2)
أي قطناً.
قال: فقمت منه قريباً، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاماً حسناً، قال: فقلت في نفسي وا ثُكْلَ أمّي، والله إني لرجل شاعر ما يخفى عليّ الحسنُ من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته!
قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمَّد، إن قومك قد قالوا لي كذا، وكذا، للذي قالوا، فوالله ما برحوا يخوّفونني أمرك حتى سددت أذني بكُرْسف، لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولاً حسناً، فأعرض عليّ أمرك، قال: فعرض عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا عليّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قطّ أحسن منه، ولا أمراً أعدل منه، قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا نبيّ الله، إنّي امرؤٌ مُطاعُ في قومي، وأنا راجع إليهم، وداعيهم إلى الإِسلام، فادْع الله أن يجعل لي آيةً تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه، فقال:"اللهم اجعل له آية" قال: فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنيّة (1)، تطلعني على الحاضر (2)، وقع نورٌ بين عينيَّ مثل الصباح، فقلت: اللهم في غير وجهي، إني أخشى أن يظنوا أنها مُثْلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم، قال: فتحوّل فوقع في رأس سوطي، قال: فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنيّة، قال: حتى جئتهم فأصبحت فيهم!
قال: فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخاً كبيراً، قال: فقلت: إليك
(1) الثنية: الفرجة بين الجبلين.
(2)
الحاضر: القوم النازلون على الماء.
عني يا أبت، فلستُ منك ولستَ منّي، قال: ولمَ يا بنيّ؟ قلت: أسلمت وتابعت دين محمَّد، قال: أي بنيّ، فديني دينك، قال: فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلّمك ما عُلِّمت، قال: فذهب فاغتسل، وطهرّ ثيابه، قال: ثم جاء فعرضت عليه الإِسلام فأسلم، قال: ثم أتتني صاحبتي فقلت: إليك عنّي، فلستُ منك ولست منّي، قالت: لم؟ بأبي أنت وأميّ، قال: قلت قد فرق بيني وبينك الإسلام، وتابعت دين محمَّد صلى الله عليه وسلم، قالت: فديني دونك، قال: قلت: فاذهبي إلى حنا ذي الشَّرى -قال ابن هشام: ويقال: حمى ذي الشّرى- فتطهري منه! قَال: وكان ذو الشّرى صَنَماً لدوس، وكان الحمَى حمَى حَمَوْهُ له، وبه وشل (1) من ماء يهبط من جبل! قال: فقلت بأبِي أنتَ وأمي، أتخشى على الصبيّة من ذي الشّرى شيئاً، قال: قلت: لا، أنا ضامن لذلك، فذهبت فاغتسلت، ثم جاءت فعرضت عليها الإِسلام، فأسلمت! (2)
ويروي الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! إِن دوساً عَصَتْ وأبتْ فادْع الله، فقيل: هلكت دوس، قال:"اللهم! اهد دوساً وائْتِ بهم"(3).
(1) الوشل: الماء القليل.
(2)
السيرة النبوية: ابن هشام: 2: 25 - 28 رواه ابن إسحاق معلقاً، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 238 - 240 من طريق ابن إسحاق، والبيهقي: الدلائل: 5: 365 - 363، وابن سعد: 4: 237 - 239، وفيه الواقدي!
(3)
البخاري: 56 - الجهاد (2937)، وانظر (4292، 6397)، والأدب المفرد (611)، ورفع اليدين (89)، ومسلم (2524)، وأحمد: 2: 243، 448، 502، والشافعي: 2: 199 - 200، والحميدي (1050)، والبيهقي: الدلائل: 5: 359، والبغوي (1352)، والطبراني:(8218، 8219، 8220، 8221، 8222، 8223، 8224).