الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو مشهد متحرّك لغيظ النفس، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ يجسّم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه .. عندما ينزل بها الضرّ وهي على غير اتصال بالله!
والذي ييأس في الضرّ من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخيّة، وكل رجاء في الفرج .. ويستبدّ به الضّيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء!
فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلّق به أو يختنق، ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق .. ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذلك مما يغيظه!
ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجّه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضرّ، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله .. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب، ومضاعفة الشعور به، والعجز عن دفعه بغير عون الله .. فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله!
حقيقة الابتلاء:
ويطالعنا قول الله تبارك وتعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)} (الأنعام)!
وهنا نبصر حقيقة قدر الله أن يكون لكل نبيّ عدوّهم شياطين الإنس والجن، وأن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول، ليخدعوهم به، ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهُدى، وأن تصغى إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق، ومن الضلال والفساد في الأرض (1) .. كل ذلك إنما جرى بقدر الله، وفق مشيئته، ولو شاء ربك ما فعلوه، ولمضت مشيئته بغير هذا كله، ولجرى قدره بغير هذا الذي كان، فليس شيء من هذا بالمصادفة، وليس شيء من هذا بسلطان من البشر كذلك أو قدرة!
فإذا تقرّر أن هذا الذي في الأرض من المعركة الناشبة التي لا تهدأ بين الرسل والحق الذي معهم، وشياطين الإنس والجنّ وباطلهم وزخرفهم وغرورهم .. إذا تقرّر أن هذا الذي يجري في الأرض إنما يجري بمشيئة الله، ويتحقق بقدر الله، فإن المسلم ينبغي أن يتّجه إذن إلى تدبّر حكمة الله من وراء ما يجري في الأرض، بعد أن يدرك طبيعة هذا الذي يجري والقدرة التي وراءه:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} ! بإرادتنا وتقديرنا، جعلنا لكل نبي عدوًّا .. هذا العدوّ هو شياطين الإنس والجن .. والشيطنة وهي التمرّد والغواية والتمحّض للشرّ صفة
(1) السابق: 3: 1188 وما بعدها بتصرف.
تلحق الإنس كما تلحق الجنّ .. وكما أن الذي يتمرّد من الجنّ ويتمحّضُ للشرِّ والغواية يسمّى شيطاناً، فكذلك الذي يتمرّد من الإنس ويتمحّض للشر والغواية .. وقد يوسف بهذه الصفة الحيوان إذا شرس واستشرى أذاه، وقد روى مسلم وغيره مرفوعاً من حديث طويل عن أبي ذر:"الكلب الأسود شيطان". (1)
هؤلاء الشياطن -من الإنس والجن- الذين قدّر الله أن يكونوا أعداء لكل نبيّ، يخدع بعضهم بعضاً بالقول المزخرف، الذي يوحيه بعضهم إلى بعض -ومن معاني الوحي التأثير الداخلي الذي ينتقل به الأثر من كائن إلى كائن آخر- ويغر بعضهم بعضاً، ويحرّض بعضهم بعضاً على التمرّد والغواية والشرّ والمعصية .. وشياطين الإنس أمرهم معروف ومشهود لنا في هذه الأرض، ونماذجهم ونماذج عدائهم لكل نبيّ، وللحق الذي معه، وللمؤمنين به معروفة يمكن أن يراها الناس في كل زمان!
فأمّا الجن فهم غيب من غيب الله، لا نعرف عنه إلا ما يخبرنا به مَن عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو .. ومن ناحية مبدأ وجود خلائق أخرى في هذا الكون غير الإنسان وغير الأنواع والأجناس المعروفة في الأرض من الأحياء .. نقول من ناحية المبدأ نحن نؤمن بقول الله عنها، ونصدق بخبره في الحدود التي
(1) مسلم: 4 - الصلاة (510)، والطيالسي (453)، وأحمد: 5: 149، 151، 155، 158، 160، 161، 164، والدرامي (1421)، وأبو داود (702)، والترمذي (338)، والنسائي: 2: 163، والكبرى (737)، وابن خزيمة (806، 830، 831)، وأبو عوانة: 2: 47، والطحاوي: 1: 458، وابن حبان (2385)، والطبراني: الكبير (1635، 1636)، والصغير (195، 505)، وابن ماجه (952، 3210).
قرَّرها .. فأمّا أولئك الذين يتترسون بـ (العلم) لينكروا ما يقرّره الله في هذا الشأن، فلا ندري علامَ يرتكنون؟
إن عليهم البشريّ لا يزعم أنه أحاط بكل أجناس الأحياء في هذا الكوكب الأرضي! كما أن علمهم هذا لا (يعلم) ماذا في الأجرام الأخرى! وكل ما يمكن أن (يفترضه) أن نوع الحياة الموجود في الأرض يمكن أو لا يمكن أن يوجد في بعض الكواكب والنجوم .. وهذا لا يمكن أن ينفي -حتى لو تأكّدت الفروض- أن أنواعاً أخرى من الحياة وأجناساً أخرى من الأحياء يمكن أن تعمر جوانب أخرى في الكون، لا يعلم هذا (العلم) عنها شيئاً! فمن التحكّم والتبجّح أن ينفي أحد باسم (العلم) وجود هذه العوالم الحيّة الأخرى!
وأمّا من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمّى بـ (الجن)، والذي يتشيطن بعضه ويتمخّض للشرّ والغواية -كإبليس وذرّيّته-كما يتشيطن بعض الإنس .. من ناحية طبيعة هذا الخلق المسمَّى بـ (الجن)، فنحن لا نعلم عنه إلا ما جاءنا الخبر الصادق به عن الله سبحانه، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ونحن نعرف أن هذا الخلق مخلوق من مارج من نار، وأنه مزوّد بالقدرة على الحياة في الأرض وغيرها، وأنه يملك الحركة في هذه المجالات بأسرع مما يملك البشر، وأن منه ما هو مؤمن، وما هو متمرّد، وأنه يرى بني آدم، وبنو آدم لا يرونه -في هيئته الأصليّة- وكم من خلائق ترى الإنسان ولا يراها الإنسان! وأن الشياطين منه مسلّطون علي بني الإنسان يغرونهم ويضلّونهم، وهم قادرون على الوسوسة لهم، والإيحاء بطريقة لا نعلمها، وأن هؤلاء الشياطين لا سلطان لهم على المؤمنين الذاكرين، وأن الشيطان مع المؤمن إذا ذكر الله خنس وتوارى، وإذا غفل برز فوسوس له! وأن المؤمن أقوى بالذكر