الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنما يطلبونه هزيمةً للكفر، وعقوبةً للكفار .. إنه الأدب اللاّئق بالمؤمنين في حق الله الكريم!
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئاً، أعطاهم الله من عنده كل شيء .. أعطاهم من عنده كل ما يتمنّاه طلاّب الدنيا وزيادة .. وأعطاهم كذلك كل ما يتمنّاه طلاّب الآخرة ويرجونه:{فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} (آل عمران)!
تربية إيمانيّة:
والحماسة الجماعيّة قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها، فيجب أن يضعوها على محكّ التجربة، قبل أن يخوضوا بها المعركة الحاسمة (1) .. لأن هذه الحماسة البالغة ما تلبث أن تنطفئ شعلتها وتتهاوى على مراحل الطريق .. والتفرق في منتصف الطريق ظاهرة بشرية في الجماعات التي لم تبلغ تربيتها الإيمانيّة مبلغاً عالياً من التدريب .. وهي خليقة بأن تصادف قيادة الجماعة المسلمة في أيّ جيل .. فيحسن الانتفاع فيها بتجربة بني إسرائيل:
ومن ذلك أن اختبار الحماسة الظاهرة، والاندفاع الغائر في نفوس الجماعات
(1) السابق: 262 وما بعدها بتصرف.
ينبغي ألا يقف عند الابتلاء الأول .. فإن كثرة بني إسرائيل هؤلاء قد تولّوا بمجرّد أن كتب عليهم القتال استجابة لطلبهم، ولم تبق إلا قلّة مستمسكة بعهدها مع نبيّها، وهم الجنود الذين خرجوا مع (طالوت) بعد الحجاج والجدال حول جدارته بالملك والقيادة، ووقوع علامة الله باختياره لهم، ورجعة تابوتهم وفيه مخلفات أنبيائهم تحمله الملائكة
…
! ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلاء الجنود في المرحلة الأولى، وضعفوا أمام الامتحان الأوّل الذي أقامه لهم قائدهم:
وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية، فأمام الهول الحيّ، أمام كثرة الأعداء وقوّتهم، تهاوت العزائم، وزلزلت القلوب:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} !
وأمام هذا التخاذل ثبتت الفئة القليلة المختارة .. اعتصمت بالله ووثقت، وقالت:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} !
وهذه هي التي رجحت الكفّة، وتلقّت النصر، واستحقّت العزّ والتمكين!
وفي ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الحازمة المؤمنة .. وكلها واضحة في قيادة طالوت، تبرز منها خبرته بالنفوس، وعدم اغتراره بالحماسة الظاهرة، وعدم اكتفائه بالتجربة الأولى، ومحاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس
جنوده قبل المعركة، وفصله للذين ضعفوا وتركهم وراءه .. ثم -وهذا هو الأهم - عدم تخاذله، وقد تضاءل جنوده تجربة بعد تجربة، ولم يثبت معه في النهاية إلا تلك الفئة المختارة، فخاض بها المعركة ثقة منه بقوّة الإيمان الخالص، ووعد الله الصادق للمؤمنين!
والعبرة الأخيرة التي تكمن في مصير المعركة .. أن القلب الذي يتّصل بالله تتغيّر موازينه وتصوّراته؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتدّ وراءه إلى الواقع الكبير الممتدّ الواصل، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود، فبهذه الفئة المؤمنة الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقّت النصر، كانت ترى من قلّتها وكثرة عدوّها ما يراه الآخرون الذين قالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} ! ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف، إنما حكمت حكماً آخر، فقالت:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)} !
هكذا .. {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} ! بهذا التكثير، فهذه هي القاعدة في حسّ الذين يوقنون أنهم ملاقو الله .. القاعدة: أن تكون الفئة المؤمنة قليلة؛ لأنها هي التي ترتقي الدرج الشاقّ، حتى تنتهي إلى مرتبة الاصطفاء، والاختيار .. ولكنها تكون الغالبة .. لأنها تتّصل بمصدر القوى، ولأنها تمثّل القوَّة الغالبة، قوة الله الغالب على أمره، القاهر فوق عباده. محطّم الجبّارين، ومخزي الظالمين، وقاهر التكبّرين!
وهمِ يكون هذا النصر لله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} ! ويعلّلون بعلّته الحقيقية: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ! .. فيدلون بهذا كله على أنهم المختارون من الله لمعركة الحق الفاصلة بين الحق والباطل!
وإذا الفئة القليلة الواثقة بلقاء الله، التي تستمدّ صبرها كله من اليقين بهذا اللقاء، وتستمدّ قوتها كلها من الله، وتستمدّ يقينها كله من الثقة في الله {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} !
إذا هذه الفئة القليلة الواثقة الصابرة، الثابتة التي لم تزلزلها كثرة العدوّ وقوّته، مع ضعفها وقلّتها .. هذه الفئة هي التي تقرّر مصير المعركة، بعد أن تجدّد عهدها مع الله، وتتّجه بقلوبها إليه، وتطلب النصر منه وحده وهي تواجه الهول الرهيب:
هكذا .. {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا} .. وهو تعبير يصوّر مشهد الصبر فيضاً من الله يفرغه عليهم فيغمرهم، وينسكب عليهم سكينة وطمأنينةً، واحتمالاً للهول والشقّة .. {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} ! فهي في يده سبحانه يثبتها فلا تزحزح، ولا تتزلزل ولا تحيد .. {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ! فقد وضح الموقف .. إيمان تجاه كفر، وحقّ إزاء باطل، ودعوة إلى الله لينصر أولياءه المؤمنين على أعدائه الكافرين، فلا تلجلج في الضمير، ولا غبش في التصوّر، ولا شكّ في سلامة القصد، ووضوح الطريق!
وكانت النتيجة التي ترقبوها واستيقنوها:
ويؤكد النص هذه الحقيقة: {بِإِذْنِ اللَّهِ} ! ليعلمها المؤمنون أو ليزدادوا بها علماً، وليتضح التصوّر الكامل لحقيقة ما يجرى في هذا الكون ولطبيعة القوّة التي تجريه!
إن المؤمنين ستار القدرة، يفعل الله بهم ما يريد، وينفذ بهم ما يختار .. بإذنه .. ليس لهم من الأمر شيء، ولا حول لهم ولا قوة، ولكن الله يختارهم لتنفيذ مشيئته، فيكون منهم ما يريده بإذنه .. وهي حقيقة خليقة بأن تملأ قلب المؤمن بالسلام والطمأنينة واليقين .. إنه عبد الله، اختاره الله لدوره، وهذه منّة من الله وفضل .. وهو يؤدي هذا الدور المختار، ويحقّق قدر الله النافذ، ثم يكرمه الله -بعد كرامة الاختيار- بفضل الثواب .. ولولا فضل الله ما فعل، ولولا فضل الله ما أثيب .. ثم إنه يستيقن من نبل الغاية. وطهارة القصد، ونظافة الطريق .. فليس له في شيء من هذا كله أرب ذاتي .. إنما هو منفذ لمشيئة الله الخيرة، قائم بما يريد .. استحق هذا كله بالنيّة الطيّبة، والعزم على الطاعة، والتوجّه إلى الله في خلوته!
ويبرز السياق دور داود: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} !
وداود كان فتى صغيراً من بني إسرائيل، وجالوت كان ملكاً قويًّا وقائداً مخوفاً .. ولكن شاء الله أن يرى القوم وقتذاك أن الأمور لا تجري بظواهرها، إنما تجري بحقائقها، وحقائقها يعلمها هو، ومقاديرها في يده وحده، فليس عليهم إلا أن ينهضوا هم بواجبهم، ويفوا الله بعهدهم .. ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده. وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبّار الغشوم على يد هذا الفتى الصغير، ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف ضعاف يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم!
وكانت هنالك حكمة أخرى مغيّبة يريدها الله. فلقد قرر أن يكون داود هو الذي يتسلّم الملك بعد طالوت، ويرثه ابنه سليمان، فيكون عهده هو العهد الذهبي لبني إسرائيل في تاريخهم الطويل، جزاء انتفاضة العقيدة في نفوسهم بعد الضلال والانتكاس والشرود:{وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} !
وكان داود ملكاً نبيًّا، وعلّمه الله صناعة الزرد وعدّة الحرب، مما يفصله القرآن في مواضعه في سور أخرى!
ويتجّه السياق إلى هدف آخر من وراء القصة جميعاً .. وحين ينتهي إلى هذه الخاتمة، ويعلن النصر الأخير للعقيدة الواثقة، لا للقوة الماديّة، وللإرادة المستعلية، لا للكثرة العدديّة .. حينئذ يعلن عن الغاية العليا من اصطراع تلك القوى .. إنها ليست المغانم والأسلاب، وليست الأمجاد والهالات .. إنما هو الصلاح في الأرض، وإنما هو التمكين للخير باندحار الشر:
وهنا تتوارى الأشخاص والأحداث، لتبرز من خلال النص القصير حكمة الله العليا في الأرض، من اصطراع القوى، وتنافس الطاقات، وانطلاق السعي في تيّار الحياة المتدفّق الصاخب الموّار .. وتتكشف على مدّ البصر ساحة الحياة المترامية لأطراف تموج بالناس، في تداقع وتسابق وزحام إلى الغايات .. ومن ورائها جميعاً تلك اليد الحكيمة المدبّرة تمسك بالخيوط جميعاً، وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق، إلى الخير والصلاح والنماء، في نهاية المطاف!
لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفّن، لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض .. ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهريّة القريبة، لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع، فتنفض عنها الكسل والخمول، وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة، وتظل أبداً يقظة عاملة مستنبطة لذخائر الأرض، مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة .. وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء .. يكون بقيام الجماعة الخيّرة المتجرّدة، تعرف الحق الذي بيّنه الله لها. وتعرف طريقها إليه واضحاً، وتعرف أنها مكلّفة بدفع الباطل، وإقرار الحق في الأرض، وتعرف أن لا نجاة لها من عذاب الله إلا أن تنهض بهذا الدور النبيل، وإلا أن تحتمل في سبيله ما تحتمل في الأرض طاعةً لله وابتغاءً لرضاه .. !
وهنا يمضي الله أمره، وينفذ قدره، ويجعل كلمة الحق والخير والصلاح في العليا، ويجعل حصيلة الصراع والتنافس والتدافع في يد القوّة الخيّرة البانية، التي استجاش الصراع أنبل ما فيها وأكرمه، وأبلغها أقصى درجات الكمال المقدّر لها في الحياة!
ومن هنا كانت الفئة القليلة المؤمنة الواثقة بالله تغلب في النهاية وتنتصر؛ ذلك أنها تمثّل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض، وتمكين الصلاح في الحياة .. إنها تنتصر؛ لأنها تمثل غاية عليا تستحق الانتصار!
ويطالعنا خطاب الله للجماعة المسلمة الأولى، يوجهها إلى تجارب الجماعات المؤمنة قبلها، وإلى سنته سبحانه في تربية عباده المختارين، الذين يكل إليهم رايته، وينوط بهم أمانته في الأرض ومنهجه وشريعته، وهو خطاب مطرد لكل من يجتاز هذا الدور العظيم:
وإنها لتجربة عميقة جليلة مرهوبة (1) .. إن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه .. من الرسول الموصول بالله، والمؤمنين الذين آمنوا بالله .. إن سؤالهم:{مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} ! ليصوّر مدى المحنة التي تزلزل مثل هذه القلوب الموصولة، ولن تكون إلا محنة فوق الوصف، تلقي ظلالها على مثل هاتيك القلوب، فتبعث منها ذلك السؤال الكروب:{مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} !
وعندما تثبت القلوب على مثل هذه المحنة المزلزلة .. عندئذ تتمّ كلمة الله، ويجيء النصر من الله:{أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} !
إنه مدّخر لمن يستحقّونه، ولن يستحقّه إلا الذين يثبتون حتى النهاية .. الذين يثبتون على البأساء والضرّاء .. الذين يصمدون للزلزلة .. الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة .. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله .. وحتّى حين تبلغ المحنة ذروتها، فهم يتطلعون فحسب إلى {نَصْرَ اللَّهِ} !، لا إلى شيء آخر، ولا إلى نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله!
بهذا يدخل المؤمنون الجنّة، مستحقّين لها، جديرين بها، بعد الجهاد والامتحان، والصبر والثبات، والتجرّد لله وحده، والانقياد له وحده، وإغفال كل ما سواه وكل من سواه!
(1) السابق: 218 وما بعدها بتصرف.
إن الصراع والصبر عليه يهب النفوس قوّةً، ويرفعها عند ذواتها، ويطهرها في بوتقة الألم، فيصفو عنصرها ويضيء، ويهب العقيدة عمقاً وقوّة وحيويّة، فتتلألأ حتى في أعين أعدائها وخصومها، وعندئذ يدخلون في دين الله أفواجاً كما وقع، وكما يقع في كل قضيّة حق، يلقى أصحابها ما يلقون في أوّل الطريق، حتى إذا ثبتوا للمحنة انحاز إليهم من كانوا يحاربونهم، وناصرهم أشدّ المناوئين وأكثر المعاندين!
على أنه -حتى إذا لم يقع هذا- يقع ما هو أعظم منه في حقيقته .. يقع أن ترتفع أرواح الدعوة على كل قوى الأرض وشرورها وفتنتها، وأن تنطلق من إسار الحرص على الدعة والراحة، والحرص على الحياة نفسها في النهاية .. وهذا الانطلاق كسب للبشريّة كلها، وكسب للأرواح التي تصل إليه عن طريق الاستعلاء .. كسبٌ يرجح جميع الآلام، وجميع البأساء والضرّاء التي يعانيها المؤمنون، المؤتمنون على راية الله وأمانته ودينه وشريعته!
وهذا الانطلاق هو المؤهّل لحياة الجنّة في نهاية المطاف، وهذا هو الطريق .. هذا هو الطريق كما يصفه الله للجماعة المسلمة الأولى، وللجماعة المسلمة في كل جيل!
هذا هو الطريق: إيمان وجهاد .. ومحنة وابتلاء .. وصبر وثبات .. وتوجّه إلى الله وحده .. ثم يجيء النصر، ويجيء النعيم!
ولنا مزيد بيان عمليّ للتربية الإيمانيّة في واقع الحياة، في ضوء الكتاب والسنة، بعون الله وتوفيقه!