الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونبصر بياناً من الله تعالى يعلن على مسامع الدنيا أن هؤلاء الأخباث من طغاة الماديّة الوثنيّة قد طبع الله على قلوبهم، فلن يهتدوا أبداً، وختم على سمعهم فلن يسمعوا سماع هداية وإرشاد أبداً، وطمس على أبصارهم فلن يبصروا دلائل عظمة الله ووحدانيّته قائمةَ في مظاهر الطبيعة وآياته الكونيّة، وهي تنادي بلسان حالها قويّةَ قاهرةً، فهم عمي، بكمٌ، صمُّ، لا يرجعون عن غيّهم، وعتوّ كفرهم .. وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعرض عنهم، وأن يتركهم إلى ما أقاموا أنفسهم له، وما وقفوا حياتهم عليه من العكوف على إرادة الدنيا وحطامها لا يريدون غيرها، فهم لا يرغبون في هدى، ولا يريدون حقاً، ولا يرضون أن يسود حياة الناس عدل ولا أن تتداركها رحمة؛ لأن الدنيا وجمعها كانت مبلغ علمهم بالحياة، ومنتهى غايتهم منها، فهم في جهالة جاهلة، ووثنيّة بليدة، وماديّة مظلمة، فقال الله عزّ شأنه لنبيّه صلى الله عليه وسلم:{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)} (النجم)، قيل: نزلت في النضر بن الحارث، شيطان الأساطير والخرافات، والوليد بن المغيرة، طاغية السحر المأثور (1)، وهي من باب النماذج الممثلة لصور الشرّ والفساد المركوز في بعض الطبائع البشريّة!
39 - توجيه إلهي:
وكان هذا توجيهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الانتقال بدعوته، وتبليغ رسالته، بعيداً عن عنجهيّة غطارفة قريش، وهم غارقون في وثنيّتهم الفاجرة التي
(1) انظر: تفسير القرطبي: 17: 105.
يتاجرون بها العرب من وراء أسوار التنفّج المستكبر، والتعالي العتي بأنهم سدنة البيت الحرام، ومطعمو الحاج، وكان هذا التوجيه نقطة تحوّل في سير الرسالة، انطلقت منه إلى آفاق أرحب من آفاق مكة وقريشها، إلى جوّ أفسح من جوّ الطغيان الفاجر الذي كانت تعيشه قريش في بلدها، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه ودعوته على الناس في منازلهم، ويبلغهم رسالة ربهم في مجتمعات مواسمهم وأسواقهم، وقد أصبحوا في ذكر منه صلى الله عليه وسلم، وذكر من دعوته بما أحدثه طيش ملأ قريش في ترصّدهم لقبائل العرب، يحذّرونهم منه صلى الله عليه وسلم، ومن سحر كلامه، وفي الناس عقول، وللعقول وزن لما تسمع وما ترى، وقد أبى على كثير من العقلاء كرم إنسانيّتهم أن يلغي عقله، من أجل صيحات حاقدة، تطلقها حناجر بعض الدعاة إلى الشيطان من سفهاء قريش هنا وهناك، يعيبون بها محمداً صلى الله عليه وسلم، ويشوّهون بها دعوته، وما جاء به من الهدى والإصلاح، فليسمع العقلاء من محمَّد صلى الله عليه وسلم، ثم يحكموا .. أما أن يقول الحاقدون من غثاء الماديّة الوثنيّة قولاً، ثم يطلب إلى الناس من غير إعطائهم فرصة النظر الفاحص، والتدبر الباحث، أن يأخذوا هذا القول مقطع الفصل، فهذا ما لا ينبغي للعاقل أن يقبله، وأن يأخذ به نفسه!
وقد كان لهذا التوجيه بالخروج إلى الدعوة إلى مجالها الفسيح، ومواجهة العقول بها مواجهة مباشرة، بعيدةً عن التأثير التقليدي لمواريث الوثنيّة المتحمسة في قريش وملأ طغاتها أثر واسع المدى، عظيم الخطر، وإن كان مختلفاً اختلافاً بعيد الأطراف، ولكنه كان على ما لقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من شدّة ومحن كانت في بعض صورها أشدّ وأعنف مما لقوه من قريش في مكّة -مليئاً بالخير والتقدّم بالدعوة إلى خطواتها القويّة الرصينة التي