المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌44 - آيات من العبر: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: ‌44 - آيات من العبر:

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذان الصريان؟ " فقال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول، وأما كان من مياه العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ألا نحدث حديثاً، ولا نؤوي محدثاً، وإني أرى أن هذا الأمر الذي تدعونا إليه أنت، هو مما يكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤوبك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أسأتم في الرد، إذ أفصحتم في الصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من أحاط من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً، حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدّسونه؟ ".

فقال النعمان بن شريك، اللهم لك ذا، فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} (الأحزاب).

ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي، فقال: يا أبا بكر، يا أبا حسن، أيّة أخلاق في الجاهليّة؟ ما أشرفها، بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض، وبها يتجاوزون فيما بينهم

(1)

‌44 - آيات من العبر:

هذه القصة من غرر أحداث السيرة النبويّة في مرحلة الكفاح الصبور (1)، والصبر المكافح؛ لأنها في إطارها الواقعي تصوّر خطوات من سير الرسالة،

(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 278 وما بعدها بتصرف.

ص: 1076

وهي في طريقها إلى الإعلان عن نفسها وأهدافها بين وفود العرب القادمين على مكة لحضور الموسم، بعد أن سبقها ذكرها إلى الناس بما أتته قريش من طيش أحمق، ورعونة بلهاء في ترصدها القادمين أفراداً وجماعات، تحذّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمعوا منه أو يكلموه، خشية أن يجذبهم حديثه إلى متابعته والإيمان بدعوته، وتصديق رسالته!

وكأنما كان ذلك الطيش الأرعن الذي تورّط فيه ملأ قريش بشؤم مشورة طاغيتهم الوليد بن المغيرة، وشيطانهم اللعين: النضر بن الحارث، وغميز الرجولة، فرعون هذه الأمة أبي جهل بن هشام، إيذاناً من الله تعالى أن تنطلق دعوة محمَّد صلى الله عليه وسلم من حصار قريش، فتطرق أبواب العقول والقلوب، على رغم أنف العتوّ العنيد الذي سيطر على عقليّة ملأ قريش وطغاتها من أحلاس الماديّة الوثنيّة، وقد حاولوا بكل ما يملكون من قوى ماديّة شرّيرة، وفجور دعائي عات عنيد، أن يعوقوا سير الرسالة، ويوقفوا مدّ انسياح الدعوة إلى الله تعالى، وسلكوا في سبيل ذلك كل طريق استطاعوا أن يسلكوه، ولم يتركوا أمراً تخيّلوه عائقاً يمكن أن يصدّ دعوة محمَّد صلى الله عليه وسلم ويردّ تيّارها عن زحفه مزمجراً بقوة الحق وقهره إلا أتَوه وفعلوه! ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم وقد حمّله الله تعالى مصباح الهداية مضيئاً، ينير له الطريق، ويكشف له مسالك السير برسالته قدماً، لم يزل دؤوباً وهو منفرد وحيد، يجول في ميدان الكفاح وحده، في قلّة صابرة محتسبة من أصحابه، آمنوا به وبدعوته على خوف من بطش قومهم وجبروتهم، على نشر دعوته إلى توحيد الله ودينه القويم، يدعو إليه كل من لقيه ويلقاه من الناس في أي مكان وزمان ومجتمع!

ولما استيأس رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه، بعد أن بذل في سبيل هدايتهم كل

ص: 1077

جهد، فصبر على أذيّتهم، وصابرهم، وحاسنهم، وأغضى على سفاهة سفهائهم، وفجور طغاتهم، خرج -كما عرفنا- ومعه صاحبه وصدّيقه أبو بكر، وربيبه، رضيع ثدي النبوّة، عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما يعرض نفسه ودعوته إلى التوحيد والعدل على الناس، ويدعوهم إلى الإيمان به وإلى أن يؤووه، وينصروه على ظلم قريش وافترائها الكذب على الله. وتظاهرها على رسوله وهو قائم بأمر الله، ينشر دعوته، ويبلغ رسالته، فأفكت عليه وكذّبته، واستغنت بالباطل من الكفر الفاجر والوثنيّة الماديّة البليدة الظالمة المظلمة، وطرحت الحق وراءها ظهرياً، ولم ترفع له رأساً، وأقامت على عتوّها وعنادها تتربّص برسول الله الدوائر، وتمكر به وبأصحابه، وتؤذيهم أبشع الإيذاء -كما أسلفنا- متفنّنة في الإساءة والتعذيب، وهم صابرون محتسبون!

ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الغرّ البهاليل من شيبان بن ثعلبة، الذين يصفهم الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه، وهو أعرف العرب بأنساب العرب وشمائلهم، فيقول وقد التفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن استخبرهم فانتسبوا له: هؤلاء غرر في قومهم، وهذا التعبير في صدقه ودقته مليء بالصور التي تسترعي الانتباه، فهو لم يقل: غرر قومهم، تحفّظاً أن يوغر صدر من عسى أن يكون في مستواهم أو أرفع قدراً منهم ولم يشهدهم! وهو بهذا الأسلوب البارع قد أدّى حقّ الروعة البيانيّة التي تفتح قلوب هؤلاء الغرّ الميامين؛ لما يرد عليهم من أحاديث الهداية والحق والعدل، ومكارم الأخلاق، ولا توصد باب النظر دون غيرهم! وكان في المقدمة مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وبدأ أبو بكر فأدار الحديث مع مفروق بن عمرو، لغلبته على القوم جمالًا وبياناً، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي

ص: 1078

ويسمع، ولا يتكلم، وقرناء مفروق في زعامة قومهم في تنبّه يقظ يسمعون! وسأل أبو بكر مفروقاً عن عدد قومه، وهو لا يريد بالطبع إحصاءً عدديًّا لهم، ولكنه يريد أن يتعرّف على مصدر القوّة فيهم، وفي حروبهم، ليسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعلم علم ما إليه قصد من منعة وحماية ونصرة وإيواء! ومن البداهة أن مصدر القوّة لتحقيق هذا الهدف إنما هم الرجال الأشدّاء، ذوو البأس والقوّة وصدق اللقاء في معمعان الوغي ومواقع النضال!

وأجاب مفروق بأن عدد المنعة والحميّة فيهم يزيد على الألف -ولن يغلب الألف من قلّة- وكان لعدد الألف عند العرب روعة في التزيد به والتكثر، وهذا ما كانت بيئاتهم تقتضيه؛ فهم لم تكن لهم حروب عامة جامعة، وإنما كانت حروبهم جزئيّة محصورة متكافئة الأعداد، وسأل أبو بكر رضي الله عنه مفروقاً عن المنعة والحميّة فيهم ليعرف مقدار حرصهم على غيرة الجوار وحماية البيضة وحفظ الذمار، فأجاب مفروق جواب الرجل العاقل الذي لا يستفزّه الغرور الأهوج، ولا يتوثبه الطيش الأرعن، ولا تملكه الكبرياء الحمقاء، فلم يندفع إلى التكذّب والإعاء لما ليس هو بكائن عنده وعند قومه، فقال: علينا أن نبذل ما نستطيع من جهد وصبر، وإذا كان لكل قوم جدّ يدّرعونه في مواقفهم، فلنا جدّنا في جهدنا وصبرنا!

وسأل أبو بكر رضي الله عنه مفروقاً عن الحرب بينهم وبين عدوّهم، ليستبين خصيصة قومه في لقائهم عدوّهم، فوصف مفروق قومه وصفاً من أبدع ما يوصف به قوم في ميدان البطولة والشجاعة التي لا تتهوّر، ولا تتقاعس، ولكنها بطولة جدّ ساعة الجدّ، فتربو على أمدها في توجيه رحى الحرب إلى مصافّهم في مصافّ الأبطال، فهم غضاب أشدّ ما يكون الغضب إذا لاقوا عدوّهم،

ص: 1079

والغضب شعلة من النار، وهم أشدّ ما يكونون اندفاعاً إلى اللقاء حين يغضبون، فلا يقوم لهم عدوّ، ولا يهزمون وهم سالمون، وزاد مفروق في وصف قومه وصفاً يعرف به أنهم يحبون الوغي في حومته، وأنهم يستعذبون الاقتحام فيه وتقبيل السيوف عند اللقاء، نشأة عليها نشؤوا وتربية بها تربّوا يحبّون السلاح والجياد أكثر من حبهم أفلاذ الأكباد، وكان مفروق رجلاً عاقلاً رزيناً، لا تستفزه رعونة الزعامة في قومه، ولا يغرّه شرف محتده، بل يعلن أن النصر من عند الله، لا يجلبه قوة ولا شجاعة، ولا تجربة، وهو إلى أصحاب الجهد الصبور أقرب منه إلى أصحاب القوة الرعناء، والله تعالى يداول بين الناس، فيوم لك ويوم عليك، يديلنا مرّة فينصرنا، ويديل علينا مرّة أخرى، فينصر عدوّنا علينا، سنة الله في خلقه!

ثم التفت مفروق إلى أبي بكر، بعد أن أنهى حديثه معه، وقال له: لعلك أخو قريش؟ -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن مفروق قد سبق له أن عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هذا المجلس، ولكن مفروقاً بدر أبا بكر بهذا التوقّع لما كان قد بلغه من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر دعوته ورسالته، وهنا تتجلّى براعة أبي بكر رضي الله عنه في استرعاء الأنظار إلى التعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرّفاً يمكّن له في القلوب والأبصار، حتى إذا أجرى الحديث معه جرى في واديه وقصده، إذ يتولاه صاحب دعوته، فقال أبو بكر رضي الله عنه ليؤكد هذا التعرّف، ويوجّه الأسماع إلى الهدف الذي كان له هذا اللقاء، فقال: أوقد بلغكم أنه رسول الله؟ فها هو ذا مشيراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم!

فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، وفي هذه الجملة يتجلّى صدق اليقين، وأدب النفس، ورصانة العقل، وامتلاك زمام الأمر؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه إذ

ص: 1080

قال: أو قد بلغكم أنه رسول الله، كان يتكلم بمنطق الإيمان الذي وقر في قلبه برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم، أما مفروق بن عمرو إذ قال: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، فإنما كان يتكلّم بمنطق عقله وأدبه، فهو لم يؤمن على كلام أبي بكر بأنهم بلغهم أن محمداً رسول الله ولم ينف ما بلغهم من رسالته، ولم يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يخدش ذكره أنه رسول الله، ولكنه قارب الصدق مع نفسه، فقال: قد بلغنا أنه يذكر ذلك، وهذا لا يدخل مفروقاً في ساحة الإيمان برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم ولا يخرجه من ساحة صدق الإخبار!

ثم أخذ مفروق في استكشاف حقيقة ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكره أنه رسول الله، أرسله ليدعو الناس إلى توحيده، وخلع الأنداد والشركاء، بعد أن عرف شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إلى أي شيء تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ بزمام الحوار الذي وصل إلى جوهره وغايته، فقال صلى الله عليه وسلم:

"أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله، وأن تؤوونى وتنصروني".

وهذا تصديق وتأكيد لقول مفروق: قد بلغنا أنه يذكر أنه رسول الله، وها هو ذا صلى الله عليه وسلم يذكر على سمع القوم وبصرهم، بل على سمع الدنيا وبصرها أنه رسول الله، ولكن الظالمين جحدوا رسالته، فكذّبوه، وتظاهروا على أمر الله، واستغنوا بالباطل عن الحق، وهذا هو ما دعا إليه قومه، لم يدعهم إلى شيء غيره، وهو ما دعا إليه الناس جميعاً، هي كلمة إذا قالوها سعدوا وأفلحوا، فهو صلى الله عليه وسلم لم يطلب بدعوته مالاً وثراء، ولا شرفاً ولا سيادة ولا ملكاً وسلطاناً، ولكن الظالمين تظاهروا على أمرِ الله، فكذّبوا رسوله إذ دعاهم إلى توحيد خالقهم فقالوا:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} (ص).

ص: 1081

أيهما العجاب، أمركم الذي تعبدون فيه آلهة شتى، أم أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم الذي يدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد:

{أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)} (يوسف).

ورسالة الله دعوة إلى الحق، لا تقف إذا نوهضت من أعداء الحق، ولا تستكين إذا حوصرت، بل يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبحث لرسالته عن أرض خصبة التوبة، ليحرثها بدعوته، ومن الله تعالى الإنباث والزرع:

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)} (الواقعة).

وهكذا كان هذا اللقاء بحثاً عن التربة الخصبة التي تؤوي الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنصر الرسالة، إذا آمنت واهتدت .. وسمع مفروق وصحبه من رسول الله صلى الله عليه وسلم الأساس الذي قامت عليه دعائم دعوته، وسمعوا الأساس الذي له خرج من بلده، وعن قومه، ليلقى الناس به في منازلهم، ليجد من يؤويه وينصره على من ظلمه وكذبه وتظاهر على أمر الله! ولكن مفروقاً انطلق يسأل ويستكشف ما وراء هذه الدعوة التوحيديّة التي تخلعهم من وثنيّتهم، فقال: وإلى أي شيء تدعو يا أخا قريش؟ فانتقل به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديث والحوار، وبمن يسمع من الشاهدين إلى أمر جامع بين دعوة التوحيد، والأمر بعليا الفضائل، ومواطن الإحسان، وإلى النهي عن أصول الرذائل والشرور في المجتمع، فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ولا

ص: 1082

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} (الأنعام)!

وظل مفروق وصحبه على موقفهم مع وثنيتّهم وتقاليدهم الجاهليّة جامدين، لا تهتزّ مشاعرهم، ولا تتحرّك عواطفهم، وانتقل مفروق يستزيد من أمور دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يسأل: وإلى أيّ شيء -أيضاً- تدعو يا أخا قريش؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)} (النحل)!

وهنا فقط اهتزّت أريحيّة كرم النحيزة في الرجل، وثارت عواطفه، وتحرّك وجدانه، وتأثّرت مشاعره لمعاني الآية الكريمة، وتذوّقاً لمكارمها وآدابها، فقال وهو منفعل بأثر ما مسّ قلبه: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد كذب قوم كذبوك وظاهروا عليك، ولكن هذا الانفعال بمعنى الآية شيء والإيمان بالرسالة شيء آخر؛ لأن الإيمان بالرسالة يعتمد على إسلام الوجه لله تعالى، والإذعان المطلق لأمره ونهيه، والدخول في ساحة طاعته دخولاً لا يخالجه شك، ولا تردّد، ولا يحتاج إلى مشورة أحد، ولا إلى استئذان أحد، وموقف مفروق بن عمرو إلى هنا موقف تكرّم مع نفسه، وأدب خلقي مع حياته، بيد أنه لا يرقى إلى آفاق الإيمان بالله ورسوله، ولذلك التفت إلى صحبه وقرنائه في زعامته، وبدأ بصاحب دينهم وسادن وثنيّتهم: هانئ بن قبيصة، لأن الأمر في هذا الحوار كان أمر دين ودعوة إلى رسالة إلهيّة جاءت إلى الناس بدين جديد، يقتضيهم إذا آمنوا به أن يتركوا دينهم الذي هم عليه، والذي تقلّدوه وراثةً عن آبائهم، فكان لابدّ مشاركة صاحب دينهم في الحوار والحديث، ليعرف رأيه فيما سمع من صاحب الدعوة الجديدة الذي سمعوا أنه

ص: 1083

يذكر عن نفسه أنه رسول الله، وأنهم سمعوا في هذا المجلس دعوة إلى جانب توحيد الله تعالى أنه رسول الله، وها هم أولاء يرون رأي العين والقلب فيه، وفي سمْته، وفيما يدعو إليه جديداً كل الجدة على ما اعتنقوه من وثنيّة بليدة مظلمة، وعلى ما ألفوه وعرفوه في الناس من أخلاق وشيم، فما عسى أن يكون رأي صاحب دينهم فيما رأى وفيما سمع؟!

فليتكلّم هانئ بن قبيصة شيخ شيبان في سنه، وصاحب دينهم في معرفته وعلمه بتقاليد جاهليّتهم، وشدّة حرصهم على التمسّك بوثنيّتهم، وقد قدّمه مفروق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا، ولعل مفروق بن عمرو أراد مع ذلك أن يستبين أثر ما جرى من الحوار بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنفس قرنائه في زعامة قومه، ولعله كان يطوي بين جوانحه شيئاً من الرضا بالدعوة الجديدة والدّين الجديد، ولم يكن وهو مغلل بسلاسل الوثنيّة والزعامة يستطيع أن يبوح جهرةً بمكنون سرّه، فأراد أن يعرف ما اختلج في أنفس أصحابه دون أن ينفرد بخلافهم!

وتكلم هانئ بن قبيصة، وكان عاقلاً متأنّياً، متّزناً حكيماً، أحكمته التجارب، فقال: إن تركهم دينهم الذي نهدوا في ظلّه، وشبّوا على تقاليده، وشابوا عليه، إلى دين جديد، مهما يكن شأن ما جاء به من مكارم الأخلاق، ومحاسن العمل، لمجرّد مجلس جلسه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرض عليهم دعوته، وأبان عن شمائلها، وفضائل أصولها، ومحا من آدابها لم تكن له مقدّمات ممهّدات، ولا كانت له نهاية ينتهي إليها، وإنما كان أشبه بمجلس تعارف وتلاق، جمعتهم فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم المصادقة التي لم يكونوا هم يقصدونها، وقد سمعوا عنه وسمع منهم، وقالوا وقيل لهم، وعرفوا منه وعرف منهم، ولم

ص: 1084

يكن ذلك بكاف في نظرهم، لبتِّ الحكم في أمر قد يكون من أخطر أمور حياتهم، وحياة قومهم، يرونه زلة في الرأي، وقلّة نظر في العاقبة، والأمر أكبر من أن يؤخذ بالسرعة، لاحتياجه إلى أناة وتريّث ونظر، تقلّب فيه وجوه الرأي، ويجول في أنحائه العقل جولات توزن فيها الأمور بأشباهها، وتقاس المنافع بالمضارّ، وإنما تكون الزلّة مع العجلة!

ثم بيّن هانئ أن هذا الأمر لعظم خطره لا يعنيهم وحدهم، ولا يخصّهم من بين قومهم، بل هو أمرهم وأمر قومهم من ورائهم، والزعامة العادلة هي التي لا تغتاب على الجمهرة فيما يعنيها من الأحداث في حياتها، ولا تستبد في تقرير مصير من قلّدوهم قلائد زعامتهم! ولعل هانئ بن قبيصة أراد أن يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة تمثّل زعامتهم لقومهم، ولذلك قال: ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقداً، لم يشهدوه ولم يبدوا فيه رأياً؛ لأن ذلك من المفاسد الاجتماعيّة التي تشتّت جمع الجماعة، وتفرّق شملها، وتبدّد وحدتها، وتمزّق روابط الزعامة، وتحلّ عقدتها، وكان هانئ -كما كان صاحبه مفروق- وقّافاً مع وثنيّة لم يقارب الإيمان بالدّين الجديد، ولم يشرد منه، وسكت عن (لا)، و (نعم)، ولكنه أخذ لنفسه الحيطة، وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم النَّصَف في عرف تقاليدهم الجاهليّة، وهو في هذا العرف لا تثريب عليه؛ لأنه رجل ما يزال سابحاً في غمرة زعامته الوثنيّة، فقال: ولكنّا نرجع إلى مستقرّنا بين قومنا، ومستودع أسرارنا في ديارنا، وننظر فيما سمعنا منذ اليوم، وينظر معنا قومنا، ويرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رأيه في عرض دعوته، وتبليغ رسالته، إلى كل من يلقاه من الناس، أداء لموجبات القيام بحق التبليغ، وينظر فيما سمع منّا، فلعلّ الله يجعل له منا ردْءًا يصدقه، ويجمع

ص: 1085

بيننا وبينه في ظلّ رأي قد غبَّ واستوى، والله من وراء ذلك بحكمته وعلمه وتدبيره!

وتكلّم المثنى -وقادة الحرب من أقلّ الناس كلاماً في غير اختصاصهم- ولذلك أمّن المثنى على كلام هانئ، ولكنه زاد على كلام هانئ ما يخصّه في معرفته تقدير القوة الحربيّة التي يخشونها إذا أجابوا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤووه وينصروه، وبيّن المثنى أن منازل قومه تقع بين أنهار كسرى ومياه العرب، وأن أنهار كسرى لا سبيل إلى اقتحامها، والاعتداء على حرمتها وكسر حدودها، فلذلك إذا وقع كان ذنباً لا يغفر، ولا يقبل فيه عذر لمعتذر، وأما مياه العرب فأمرها سهل، وذنبها مغفور، وعذرها مقبول. والقوّة عليها مقدورة، ثم بيّن المثنى السبب في صعوبة أمر أنهار كسرى، وأنها جاءت من قبل الوفاء بالعهد، والمحافظة على زمام العقد، فهم قد نزلوا منازلهم على عهد أخذه عليهم كسرى: ألّا يحدثوا حدثاً، وألًا يؤوا محدثاً، والعرب -كما أسلفنا- من أوفى الأمم بالعهد، وأحفظهم لحرمة عقد، وأبعدهم عن الخيانة والغدر، ثم بيَّن المثنى أن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قامت عليه من توحيد الله تعالى، وإخلاص العبادة .. وخلع الشرك والوثنيّة بكافة ضروبها، وسائر ألوانهما، وإقامة موازين العدل والمساواة بين أبناء البشر في أرجاء الأرض وأقطارها، أمر يكرهه الملوك، وخاصة الأكاسرة الذين كانوا -كما عرفنا- يستعبدون شعوبهم استعباد عبوديّة، يتألهون بها عليهم، فكسرى كان في قومه معبوداً من دون الله تعالى، وكان ملكه قائماً على الاستعباد المطلق، والعرب ولا سيما المصاقبون للفرس يعلمون ذلك، ويعلمون شدّة حرص الأكاسرة على ملكهم في صورته الاجتماعيّة القائمة التي خضع لها

ص: 1086

شعبهم، وارتضاها حياةً لهم، حتى أخرجهم الإِسلام من ضيقها إلى سعة عدل الله ورحمته!

وقد حفظ تاريخ الدعوة الإِسلاميّة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما سيأتي- صورة من هذا الفجور الاستعبادي، وذلك حينما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى يدعوه إلى الإِسلام فيمن كتب إليهم من ملوك الأرض، فكبر على كسرى أن يقوم لله تعالى قائم من العرب يدعو إلى توحيده، ويأتي بدين جديد، يجعل هذا المستكبر على أسوة مع سائر البشر في المساواة والعدالة، فمزّق كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتغضب وثار وانتفخت أوداج الكبرياء فيه، وزمجر، وهدر وأرعد وأزبد، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم موقفه هذا فدعا عليه أن يمزّق الله ملكه، فمزّق الله ملك كسرى، وصارت فارس ملكاً إسلاميًّا، يحمل راية العالم الإِسلامي والمعرفة الإِسلامية، والدعوة إلى الله تعالى! وسيأتي بيان ذلك .. (1)

هذا، والكلام الذي ذكره المثنى في صدد أنهار كسرى وتهيبهم لها يقصد به في صراحة لا تعرف الالتواء والمواربة، وهي خلق يغلب على القادة الحربيّن، بعد أن مهّد له بوجوب المحافظة على العهد أن قوّتهم لا تستطيع أن تقف أمام قوّة كسرى في جبروته، والعهد الذي بينه وبين جيرانه العرب، يعطيه حق أخذ من تحدّثه نفسه بالاعتداء على أنهاره وما وراءها من أرض كسرويه!، كأن هذا جاء اعتذاراً قدّمه المثنى صاحب شيبان وقائدهم عن عدم إمكان إيواء محمَّد صلى الله عليه وسلم وحمايته ونصرته على كسرى وقومه فيما يقع على حدود أنهاره وبلاده! أما إذا

(1) انظر البخاري: 64 - المغازي (4424)، وفتح الباري: 8: 127، وشرح المواهب اللدنية: 3: 341، والطبري: التاريخ: 2: 655، وابن سعد: 1: 260، ومجموعة الوثائق السياسية 53، وسفراء النبي صلى الله عليه وسلم: 1: 94 وما بعدها.

ص: 1087