الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسالة ورسول
1 - إنذار الأقربين:
سبق أن عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا وهتف داعياً إلى الله تعالى، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بما جاء به هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبيّة القرابة التي يقوم عليها المجتمع العربي ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله عز وجل!
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم -كما أسلفنا- كبير المنزلة في بلده، مرموقاً بالثقة والمحبّة (1)، وها هو ذا يواجه مكّة بما تكره، ويتعرّض لخصام السفهاء، والكبراء .. وأول قوم يغامر بخسران مودّتهم عشيرته الأقربون!
بيد أن هذه الآلام تهون في سبيل الحق الذي شرح الله به صدره، وأمره بتبليغه .. ولا عليه أن تموج مكّة بالغرابة والاستنكار، وتستعدّ لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتةً، وتخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها!
وبدأت قريش تسير في طريقها .. طريق اللدد، ومجانبة الصواب .. ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه، يدعو إلى الله تعالى، ويتلطّف في عرض الإسلام، ويكشف النقاب عن مخازي الوثنيَّة، ويسمع ويجيب، ويبيّن ويدافع!
غير أن حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الأقربين جعله يجدّد مسعاه، محاولاً عرض الإسلام عليهم مرّة من بعد مرّة، فإن منزلتهم الكبيرة في العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج!
(1) فقه السيرة: الغزالي: 97 وما بعدها بتصرف.
وهم قبل ذلك أهله الذين يودّلهم الخير، ويكره لهم الوقوع في مساخط الله!
وكانت هذه الصيحة غاية البلاغ، فقد فاصل الرسول صلى الله عليه وسلم قومه على دعوته!
وكان هذا الطريق الحكيم المحكم هو الاتجاه بالدعوة في علانيتها والجهر بها إلى عشيرة النبي الأقربين!
وهنا يطالعنا مرّة من بعد مرّة قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)} (الشعراء)!
ونبصر التوجيه بالدعوة إلى الأقربين، وإنذارهم بطش الله وتخويفهم بأسه ونقمته إذا لم يستجيبوا إلى هدى الله والإيمان به (1)، وإخلاص العبوديّة له تعالى، بخلع الأنداد والشركاء، والتطهّر من أدران الوثنيّة!
وفي هذا حسم لأطماع الأبعدين؛ لأن الناس بمقتضى طبائعهم البشريّة إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ أوّل ما يبدأ معلناً دعوته بإنذار أقرب الناس إليه، وتخويفهم، والتبرّي من أعمالهم، إذا لم يستجيبوا إلى داعي الإيمان والهداية، كان ذلك أدعى لغيرهم من الأبعدين ألا يطمع أحد في مهادنته، فضلاً عن المداهنة!
وهذا بلا شك أقوى وأوكد للدعوة في بيان إصرارها وعمومها، وأبلغ في النفوس أثراً؛ لأن الإنذار والتخويف قد يدفع الإشفاق، وقد يدفع إليهما
(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 159 وما بعدها بتصرف.
الإشفاق، وقد يدفع إليهما الحرص على تنبيه المشاعر والإحساسات الوجدانيّة في مداخل النفس الإنسانيّة، لتوكيد أواصر القربى .. وقد يدفع إليهما تحريك الحميّة القوميّة، وروابط القربى العصبيّة، نفوراً من قبيل الضيم في الصبر على أذى القريب، ولا سيما في البيئات العربيّة التي تتعزّز بنصرة القربى!
وسبق أن ذكرنا قصة إسلام حمزة رضي الله عنه!
ومعلوم ما وقع في جميع مواقف أبي طالب، وحَدَ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمايته له، أن تمتدّ إليه يدٌ بأذى، وقد جعل نحوه دون نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فداءً لابن أخيه، بدائع العصبيّة القوميّة، والحميّة القبليّة .. وظل على ذلك إلى آخر لحظة من حياته، وهو على دين قومه، وكانت قريش كلها تهاب أبا طالب وتحترمه، وتحسب لوجوده إلى جانب ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم حساباً منعها أن تقتحم حمايته ومنعته!
ومن أظهر شواهد ذلك موقف سائر المنافقين عامة وخاصة من بني هاشم والمطلّب إلا ما كان من أبي لهب وكان كثرتهم على جاهليّتهم في عقيدة الشرك والوثنيّة التي جاءت رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم لهدمها وتقويض بنيانها!
ذلك الموقف الذي تجلّى في حادث الحصار والمقاطعة -كما سيأتي- ودخول الشعب، وكتابة صحيفة المقاطعة!
وهنا نبصر الردّ القاطع على من يحاولون تصوير هذا (الدّين القيّم) بأنه ثمرة من ثمار القوميّة العربيّة، ويدعون أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما كان يمثل بدعوته التي دعا إليها آمال العرب ومطامحهم في ذلك الحين (1)!
(1) السيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية: 164 وما بعدها بتصرف.
ونبصر في تباطؤ الناس عن الدخول في الإسلام دليلاً على مدى قوّة وتغلغل العادات والتقاليد في المجتمعات التي تعيش ردحاً من الزمان في الجاهليّة وفساد الفطرة .. وهو وضع يواجهه الدعاة في كثير من المجتمعات قديماً وحديثاً .. حتى المجتمعات الإسلامية، عندما يخبو فيها صوت الدعوة المهتدية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجد أثراً كبيراً للعادات والتقاليد في تسيير حركة المجتمع في المجالات المختلفة .. وتجد استنكاراً ممن وقعوا في أسر هذه العادات والتقاليد، لصوت الحق المهتدي بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، في فهم الإسلام!
ونبصر في خصوصيّة الأمر بإنذار العشيرة، إشارة إلى درجات المسؤوليّة التي تتعلّق بكل مسلم عموماً، والدعاة منهم خصوصاً، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحمّل المسؤوليّة تجاه نفسه، لكونه مكلّفاً .. ويتحمّلها تجاه أسرته وأهله، لكونه مسؤولاً عن أسرته وذا آصرة قربى .. ثم يتحمّل المسؤولية تجاه الناس كلهم بكونه نبياً ورسولاً من الله عز وجل!
ويشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسؤوليّة الأولى كل مكلّف .. وفي الثانية كل صاحب أسرة، أو كل فرد له عشيرة، وفي الثالثة العلماء والحكام (1)!
ونعود إلى الآيات التي معنا: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)} !
نعود لنبصر وراء إنذار الأقربن برًّا بهم (2)، وتحريكاً لدوافع حميّة القربى فيهم!
(1) انظر: البوطي: فقه السيرة: 8182.
(2)
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 162 وما بعدها بتصرف.
نعود لنبصر الأمر بإلانة الجانب لعموم المؤمنين، سواء منهم من قرب في نسبه وعصبيّته أو بعد!
نعود لنبصر مكانة الخلْق من ربّهم، فهم جميعاً عباده، وليس بين الله وبين أحد من خلْق نسب ولا قرابة وحسب .. وإنما هو الإيمان والعمل!
وفي هذه الدائرة يختلف الناس اختلافاً واسعاً عريضاً في درجاتهم ومراتبهم من رضاء الله وإسعاده!
نعود لنبصر تلطّفاً بالذين يستجيبون إلى دعوة الإيمان، ويتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم تقويةً لأواصر القرب الروحي، وأخوّة الإيمان، وأنها هي الأخوة التي اعتبرها الحق تبارك وتعالى صلة -كما سيأتي- بين سائر المؤمنين:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات)!
لأن ذلك يربط قلوبهم بالدعوة، ويملؤها بمحبّة الداعي، ويعدّ نفوسهم للدفاع عن تبليغ الدعوة، وافتداء الداعي والدعوة بكل ما يملكون من قوّة وعمل!
نعود لنبصر إعلان البراءة من عصيان من عصى، ولو كان أقرب القربى، فمن ساء عمله فلن يضرّ إلا نفسه، وأن قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحميه من سخط الله وعذابه!
وفي قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216)} !
لطيفة بيانيّة من لطائف الأسلوب القرآني، فقد عُلِّقت البراءة في الآية بعمل من عصى، ولم تُعَلَّق بشخصه وذاته .. لأن ارتباط البراءة بالعمل دون
ذوات العصاة وأشخاصهم لا يقطع أواصر القربى والبرّ في الدنيا، والعود إليها بالإحسان إذا عادت إلى الإيمان والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان هو الموجب للموالاة!
وفي ذلك تقرير لمبدأ اجتماعي عظيم، تقوم عليه دعائم الحياة الاجتماعيّة في الإسلام؛ لأن ربط الموالاة والنفرة بالعمل دون الأشخاص والذوات يفتح باب الأمل أمام الشاردين من دعوة الإيمان والطاعة لله ورسوله!
فالإنكار في الآية، والأمر بالبراءة، إنما توجّه إلى العمل السيئ، لا إلى العامل المسيء، وإن كان عمله السيئ مرتبطاً به، ما دام مقيماً عليه، لكن هذا الارتباط بين العامل وعمله ليس ارتباط تلازم؛ ولكنه ارتباط بأمر عارض يمكن الانفكاك عنه وتركه!
فإذا ترك العمل الموجب للنفرة، وحل محله عمل يوجب الموالاة، عادت الموالاة وعاد معها ما توجبه من التلطّف، وخفض الجناح، وإلانة الجانب، وصفاء المودّة!
وفي قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} !
إشعار بما في هذا الجهر والإنذار من مشقة التبليغ، وأثقال المواجهة، وإيذان بما سيلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى وصدّ عن سبيل دعوته ومقاومة له صلى الله عليه وسلم، ومناهضة لرسالته، من هؤلاء المنذَرين على قرابتهم، وتشابك أنسابهم بنسبه، وامتزاج عصبيّتهم بحسبه .. حتى لا يعتمد في تحمّل أثقال دعوته إلى الله، وفي صبره على ما يلقى من المعاندين الشاردين عن حظيرة الإيمان والهداية، ولو كانوا أقرب القربى، على غير الله القويّ القهّار، العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يقطع إمداده عنه، وعن جميع حملة رسالاته،
ووارثي عبء تبليغها، من الدعاة الصادقين، والعلماء العاملين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
وهذا درس إلهيّ من أبلغ وأعمق دروس تربية الداعي إلى الله تعالى في تجرده تجرداً كاملاً، من خطرات الاعتماد على قرابة أو عصبيّة .. لأن روابط القرابة وحميّة العصبيّة، قد يعرض لها من ظواهر البيئة، واهتزازات المجتمع ما يفكها، ويزيل وصائلها .. ولأن حميّة العصبيّة قد يعرض لها من أسباب تنازعها ما يطفئ شعلتها، ويُظلم قبسها، ويذيب وشائج تماسكها، ويحيلها أداة إزعاج، وذلك كما وقع من أبي لهب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان دون سائر بني عبد المطلب أعدى أعداء الدعوة الإسلاميّة، وأشدّ أعدائها أذى للرسول صلى الله عليه وسلم!
وقد نشر هذا المتبوب لواء العداوة للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة التي اصطفاه الله تعالى نبيًّا ورسولاً!
وتجلّى ذلك -كما أسلفنا- في أول موقف وقفه النبي صلى الله عليه وسلم لتنفيذ أمر الله تعالى له بالجهر بالدعوة، وكان المتبوب أبو لهب شرّ خلق الله موقفاً من الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم .. كان يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يمشي إلى منازل الناس ومحافلهم في المواسم، يدعوهم إلى الله تعالى، تبليغاً لرسالته، ليصدّهم عن الاستماع إليه، ولو لم يكن لهذا الخبيث المتبوب من مواقف الخزي والعار، سوى موقفه الذي يدل على فقدانه الشعور بالنخوة الهاشميّة، والحميّة العصبيّة، والغيرة النسبيّة، والعزّة البيتيّة، بانحيازه إلى بطون قريش، تركه إخوته، وبني عمومته، يحصرون في شعب أبي طالب، حصاراً اقتصادياً قاتلاً، لكان حسبه هواناً وذلّةً في دنيا الأعزّة الأكرمين!