المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - إنذار الأقربين: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: ‌1 - إنذار الأقربين:

رسالة ورسول

‌1 - إنذار الأقربين:

سبق أن عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا وهتف داعياً إلى الله تعالى، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بما جاء به هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبيّة القرابة التي يقوم عليها المجتمع العربي ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله عز وجل!

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم -كما أسلفنا- كبير المنزلة في بلده، مرموقاً بالثقة والمحبّة (1)، وها هو ذا يواجه مكّة بما تكره، ويتعرّض لخصام السفهاء، والكبراء .. وأول قوم يغامر بخسران مودّتهم عشيرته الأقربون!

بيد أن هذه الآلام تهون في سبيل الحق الذي شرح الله به صدره، وأمره بتبليغه .. ولا عليه أن تموج مكّة بالغرابة والاستنكار، وتستعدّ لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتةً، وتخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها!

وبدأت قريش تسير في طريقها .. طريق اللدد، ومجانبة الصواب .. ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم في طريقه، يدعو إلى الله تعالى، ويتلطّف في عرض الإسلام، ويكشف النقاب عن مخازي الوثنيَّة، ويسمع ويجيب، ويبيّن ويدافع!

غير أن حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الأقربين جعله يجدّد مسعاه، محاولاً عرض الإسلام عليهم مرّة من بعد مرّة، فإن منزلتهم الكبيرة في العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج!

(1) فقه السيرة: الغزالي: 97 وما بعدها بتصرف.

ص: 879

وهم قبل ذلك أهله الذين يودّلهم الخير، ويكره لهم الوقوع في مساخط الله!

وكانت هذه الصيحة غاية البلاغ، فقد فاصل الرسول صلى الله عليه وسلم قومه على دعوته!

وكان هذا الطريق الحكيم المحكم هو الاتجاه بالدعوة في علانيتها والجهر بها إلى عشيرة النبي الأقربين!

وهنا يطالعنا مرّة من بعد مرّة قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)} (الشعراء)!

ونبصر التوجيه بالدعوة إلى الأقربين، وإنذارهم بطش الله وتخويفهم بأسه ونقمته إذا لم يستجيبوا إلى هدى الله والإيمان به (1)، وإخلاص العبوديّة له تعالى، بخلع الأنداد والشركاء، والتطهّر من أدران الوثنيّة!

وفي هذا حسم لأطماع الأبعدين؛ لأن الناس بمقتضى طبائعهم البشريّة إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ أوّل ما يبدأ معلناً دعوته بإنذار أقرب الناس إليه، وتخويفهم، والتبرّي من أعمالهم، إذا لم يستجيبوا إلى داعي الإيمان والهداية، كان ذلك أدعى لغيرهم من الأبعدين ألا يطمع أحد في مهادنته، فضلاً عن المداهنة!

وهذا بلا شك أقوى وأوكد للدعوة في بيان إصرارها وعمومها، وأبلغ في النفوس أثراً؛ لأن الإنذار والتخويف قد يدفع الإشفاق، وقد يدفع إليهما

(1) محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 159 وما بعدها بتصرف.

ص: 880

الإشفاق، وقد يدفع إليهما الحرص على تنبيه المشاعر والإحساسات الوجدانيّة في مداخل النفس الإنسانيّة، لتوكيد أواصر القربى .. وقد يدفع إليهما تحريك الحميّة القوميّة، وروابط القربى العصبيّة، نفوراً من قبيل الضيم في الصبر على أذى القريب، ولا سيما في البيئات العربيّة التي تتعزّز بنصرة القربى!

وسبق أن ذكرنا قصة إسلام حمزة رضي الله عنه!

ومعلوم ما وقع في جميع مواقف أبي طالب، وحَدَ به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمايته له، أن تمتدّ إليه يدٌ بأذى، وقد جعل نحوه دون نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فداءً لابن أخيه، بدائع العصبيّة القوميّة، والحميّة القبليّة .. وظل على ذلك إلى آخر لحظة من حياته، وهو على دين قومه، وكانت قريش كلها تهاب أبا طالب وتحترمه، وتحسب لوجوده إلى جانب ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم حساباً منعها أن تقتحم حمايته ومنعته!

ومن أظهر شواهد ذلك موقف سائر المنافقين عامة وخاصة من بني هاشم والمطلّب إلا ما كان من أبي لهب وكان كثرتهم على جاهليّتهم في عقيدة الشرك والوثنيّة التي جاءت رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم لهدمها وتقويض بنيانها!

ذلك الموقف الذي تجلّى في حادث الحصار والمقاطعة -كما سيأتي- ودخول الشعب، وكتابة صحيفة المقاطعة!

وهنا نبصر الردّ القاطع على من يحاولون تصوير هذا (الدّين القيّم) بأنه ثمرة من ثمار القوميّة العربيّة، ويدعون أن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما كان يمثل بدعوته التي دعا إليها آمال العرب ومطامحهم في ذلك الحين (1)!

(1) السيرة النبويّة في ضوء المصادر الأصلية: 164 وما بعدها بتصرف.

ص: 881

ونبصر في تباطؤ الناس عن الدخول في الإسلام دليلاً على مدى قوّة وتغلغل العادات والتقاليد في المجتمعات التي تعيش ردحاً من الزمان في الجاهليّة وفساد الفطرة .. وهو وضع يواجهه الدعاة في كثير من المجتمعات قديماً وحديثاً .. حتى المجتمعات الإسلامية، عندما يخبو فيها صوت الدعوة المهتدية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجد أثراً كبيراً للعادات والتقاليد في تسيير حركة المجتمع في المجالات المختلفة .. وتجد استنكاراً ممن وقعوا في أسر هذه العادات والتقاليد، لصوت الحق المهتدي بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، في فهم الإسلام!

ونبصر في خصوصيّة الأمر بإنذار العشيرة، إشارة إلى درجات المسؤوليّة التي تتعلّق بكل مسلم عموماً، والدعاة منهم خصوصاً، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتحمّل المسؤوليّة تجاه نفسه، لكونه مكلّفاً .. ويتحمّلها تجاه أسرته وأهله، لكونه مسؤولاً عن أسرته وذا آصرة قربى .. ثم يتحمّل المسؤولية تجاه الناس كلهم بكونه نبياً ورسولاً من الله عز وجل!

ويشترك مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسؤوليّة الأولى كل مكلّف .. وفي الثانية كل صاحب أسرة، أو كل فرد له عشيرة، وفي الثالثة العلماء والحكام (1)!

ونعود إلى الآيات التي معنا: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)} !

نعود لنبصر وراء إنذار الأقربن برًّا بهم (2)، وتحريكاً لدوافع حميّة القربى فيهم!

(1) انظر: البوطي: فقه السيرة: 8182.

(2)

محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 162 وما بعدها بتصرف.

ص: 882

نعود لنبصر الأمر بإلانة الجانب لعموم المؤمنين، سواء منهم من قرب في نسبه وعصبيّته أو بعد!

نعود لنبصر مكانة الخلْق من ربّهم، فهم جميعاً عباده، وليس بين الله وبين أحد من خلْق نسب ولا قرابة وحسب .. وإنما هو الإيمان والعمل!

وفي هذه الدائرة يختلف الناس اختلافاً واسعاً عريضاً في درجاتهم ومراتبهم من رضاء الله وإسعاده!

نعود لنبصر تلطّفاً بالذين يستجيبون إلى دعوة الإيمان، ويتبعون محمداً صلى الله عليه وسلم تقويةً لأواصر القرب الروحي، وأخوّة الإيمان، وأنها هي الأخوة التي اعتبرها الحق تبارك وتعالى صلة -كما سيأتي- بين سائر المؤمنين:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} (الحجرات)!

لأن ذلك يربط قلوبهم بالدعوة، ويملؤها بمحبّة الداعي، ويعدّ نفوسهم للدفاع عن تبليغ الدعوة، وافتداء الداعي والدعوة بكل ما يملكون من قوّة وعمل!

نعود لنبصر إعلان البراءة من عصيان من عصى، ولو كان أقرب القربى، فمن ساء عمله فلن يضرّ إلا نفسه، وأن قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحميه من سخط الله وعذابه!

وفي قوله تعالى: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216)} !

لطيفة بيانيّة من لطائف الأسلوب القرآني، فقد عُلِّقت البراءة في الآية بعمل من عصى، ولم تُعَلَّق بشخصه وذاته .. لأن ارتباط البراءة بالعمل دون

ص: 883

ذوات العصاة وأشخاصهم لا يقطع أواصر القربى والبرّ في الدنيا، والعود إليها بالإحسان إذا عادت إلى الإيمان والطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان هو الموجب للموالاة!

وفي ذلك تقرير لمبدأ اجتماعي عظيم، تقوم عليه دعائم الحياة الاجتماعيّة في الإسلام؛ لأن ربط الموالاة والنفرة بالعمل دون الأشخاص والذوات يفتح باب الأمل أمام الشاردين من دعوة الإيمان والطاعة لله ورسوله!

فالإنكار في الآية، والأمر بالبراءة، إنما توجّه إلى العمل السيئ، لا إلى العامل المسيء، وإن كان عمله السيئ مرتبطاً به، ما دام مقيماً عليه، لكن هذا الارتباط بين العامل وعمله ليس ارتباط تلازم؛ ولكنه ارتباط بأمر عارض يمكن الانفكاك عنه وتركه!

فإذا ترك العمل الموجب للنفرة، وحل محله عمل يوجب الموالاة، عادت الموالاة وعاد معها ما توجبه من التلطّف، وخفض الجناح، وإلانة الجانب، وصفاء المودّة!

وفي قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} !

إشعار بما في هذا الجهر والإنذار من مشقة التبليغ، وأثقال المواجهة، وإيذان بما سيلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى وصدّ عن سبيل دعوته ومقاومة له صلى الله عليه وسلم، ومناهضة لرسالته، من هؤلاء المنذَرين على قرابتهم، وتشابك أنسابهم بنسبه، وامتزاج عصبيّتهم بحسبه .. حتى لا يعتمد في تحمّل أثقال دعوته إلى الله، وفي صبره على ما يلقى من المعاندين الشاردين عن حظيرة الإيمان والهداية، ولو كانوا أقرب القربى، على غير الله القويّ القهّار، العزيز الذي لا يغالب، الرحيم الذي لا يقطع إمداده عنه، وعن جميع حملة رسالاته،

ص: 884

ووارثي عبء تبليغها، من الدعاة الصادقين، والعلماء العاملين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!

وهذا درس إلهيّ من أبلغ وأعمق دروس تربية الداعي إلى الله تعالى في تجرده تجرداً كاملاً، من خطرات الاعتماد على قرابة أو عصبيّة .. لأن روابط القرابة وحميّة العصبيّة، قد يعرض لها من ظواهر البيئة، واهتزازات المجتمع ما يفكها، ويزيل وصائلها .. ولأن حميّة العصبيّة قد يعرض لها من أسباب تنازعها ما يطفئ شعلتها، ويُظلم قبسها، ويذيب وشائج تماسكها، ويحيلها أداة إزعاج، وذلك كما وقع من أبي لهب، عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان دون سائر بني عبد المطلب أعدى أعداء الدعوة الإسلاميّة، وأشدّ أعدائها أذى للرسول صلى الله عليه وسلم!

وقد نشر هذا المتبوب لواء العداوة للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم منذ اللحظة التي اصطفاه الله تعالى نبيًّا ورسولاً!

وتجلّى ذلك -كما أسلفنا- في أول موقف وقفه النبي صلى الله عليه وسلم لتنفيذ أمر الله تعالى له بالجهر بالدعوة، وكان المتبوب أبو لهب شرّ خلق الله موقفاً من الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم .. كان يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يمشي إلى منازل الناس ومحافلهم في المواسم، يدعوهم إلى الله تعالى، تبليغاً لرسالته، ليصدّهم عن الاستماع إليه، ولو لم يكن لهذا الخبيث المتبوب من مواقف الخزي والعار، سوى موقفه الذي يدل على فقدانه الشعور بالنخوة الهاشميّة، والحميّة العصبيّة، والغيرة النسبيّة، والعزّة البيتيّة، بانحيازه إلى بطون قريش، تركه إخوته، وبني عمومته، يحصرون في شعب أبي طالب، حصاراً اقتصادياً قاتلاً، لكان حسبه هواناً وذلّةً في دنيا الأعزّة الأكرمين!

ص: 885