الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللون والتفرقة العنصريّة .. تلك التي مازالت تعاني منها المجتمعات التي قطعت مراحل ومراحل من التقدّم المادّيّ، بينما ظلّت في طفولة عقليّة إزاء الألوان والأجناس!
بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:
وحدّث الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بما حدث.
فقد روى أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما كان ليلة أسري بي، وأصبحت بمكّة، فظعت (1) بأمري، وعرفت أن الناس مكذِّبِيّ"!
فقعد معتزلاً حزيناً، قال: فمرّ عدوّ الله أبو جهل، فجاء فجلس عليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" قال: ما هو؟: "إِنه أُسري بي الليلة" قال: إِلى أين؟ قال: "إِلى بيت المقدس" قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ (2) قال: "نعم" قال:
(1) أي اشتدّ عليّ وتعبت: الفتح الرباني: 20: 262، وفي المجمع: 1: 64 (فضعت) قال: وفي زوائد البزار (ففظعت)، وفي النهاية (فظعت بأمري)، وفي إيراده بالضاد نظر!
(2)
بفتح النون، قال ابن فارس: ولا تكسر، وقال جماعة: الألف والنون زائدتان للتأكيد، وبين ظهرانيهم وبين أظهرهم كلها بمعنى بينهم، وفائدة إدخاله في الكلام أن إقامته بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، وكأن المعنى أن ظهراً منهم قدامه وظهراً وراءه، فكأنه مكنوف من جانبيه، هذا أصله، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم، وإن كان غير مكنوف بينهم: الفتح الرباني: 20: 263، وانظر: أحمد: 5: 29، هامش الرسالة.
فلم يُرِه أنه يكذّبه مخافة أن يجحد الحديث إِن دعا قومه إِليه، قال: أرأيت إِن دعوتُ قومك تحدّثهم ما حدّثتني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم" فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي، حتى قال: فانتفضَتْ إِليه المجالس، وجاؤوا حتى جلسوا إِليهما، قال: حدِّث قومك بما حدثتني!
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنّي أُسريَ بي الليلة" قالوا: إِلى أين؟ قال: "إِلى بيت المقدس" قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: "نعم"، قال: فمن بين مُصَفِّقٍ، ومن بين واضعٍ يده على رأسه، مُتَعَجِّباً للكذب زَعَم!! قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد، وفي القوم من قد سافر إِلى ذلك البلد، ورأى المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فذهبت أنعتُ، فما زلت أنعتُ حتى التبس عليَّ بعض النّعت" قال: "فجيء بالمسجد وأنا أنظر، حتى وُضع دون دار عِقال -أو عقيل- فنعتّه وأنا أنظر إِليه" قال: "وكان مع هذا نعتٌ لم أحفظه" قال: فقال القوم: أمّا النعت فوالله لقد أصاب! (1)
وفي رواية للشيخين وغيرهما عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(1) أحمد: 1: 309، والبزار: 56 كشف الأستار، وابن أبي شيبة: 11: 461 - 462، والنسائي: الكبرى (11285)، والطبراني (12782)، والبيهقي: الدلائل: 2: 363 - 364، وأورده السيوطي: الدر المنثور: 5: 222، وزاد نسبته إلى ابن مردويه وأبي نعيم: الدلائل، والضياء: المختارة، وابن عساكر، وصحح إسناده.
"لمَّا كذّبتني قريش قمت في الحجر، فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا انظر إِليه". (1)
وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لقد رأيتني في الحجر، وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت القدس، لم أُثْبِتهَا (2)، فكرِبْتَ كُربةً ما كربت مثله قط (3)، قال: فرفعه الله لي أنظر إِليه، ما يسألوني عن شيء إِلَّا أنبأتُهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإِذا موسى قائمٌ يُصَلِّي، فإِذا رجلٌ ضَربٌ جَعدٌ كأنه من رجال شنوءة، وإِذا عيسى ابن مريم عليه السلام قائم يُصلّي، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثّقفي، وإِذا إِبراهيم عليه السلام قائمٌ يُصلّي، أشبه الناس به صاحبكم (يعني نفسه) فحانت الصلاة فأمَمْتُهم، فلمّا فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمَّد! هذا مالك صاحب النار، فسلِّمْ عليه، فالتفتُّ إِليه فبدأني بالسلام". (4)
(1) البخاري: 63 - مناقب الأنصار (3886)، وانظر (4710)، ومسلم (170)، وأحمد: 3: 377، وعبد الرزاق (9719)، والترمذي (3133)، والنسائي: الكبرى (11282)، وأبو عوانة: 1: 124 - 125، 131، وأبو يعلى (2091)، والطحاوي: شرح المشكل (4852، 4853)، وابن منده (738، 739)، والبيهقي: الدلائل: 2: 359، والبغوي (3762)، والطبري: التفسير: 15: 6، وابن حبان (55).
(2)
أي لم أحفظها.
(3)
الضمير يعود على معنى الكربة، وهو الكرب أو الغم أو الهم أو الشيء. قال الجوهري: الكربة: الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذا الكرب، وكربه الغم: إذا اشتدَّ عليه.
(4)
مسلم: 1 - الإيمان (172).
وفي رواية لأحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
"أُسرِيَ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم إِلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدّثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس، قال حسن (1): نحن نصدّق محمداً صلى الله عليه وسلم، فارتدّوا كفّاراً، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل، وقال أبو جهل: يخوّفنا محمدٌ بشجرة الزّقُّوم! هاتُوا تمرًا وزبْداً، فتزقّموا، ورأى الدجال في صورته رؤيا عَيْن، ليس رؤيا منام، وعيسى، وموسى، وإِبراهيم، صلوات الله عليهم، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدّجَّال؟ فقال: "أقمرُ هِجان -قال حسن: قال: رأيته فَيْلَمانيًّا أقمر هِجاناً- إِحدى عينيه قائمة، كأنّها كوكبٌ دُرِّيٌّ، كأن شعر رأسه أغْصانُ شجرة، ورأيت عيسى شابًّا أبيضَ، جَعْد الرّأس، حديد البصر، مُبَطَّنَ الخَلْق، ورأيت موسى أسحَمَ آدَمَ، كثير الشّعر -قال حسن: الشَّعْرَة- شديدَ الخلْق، ونظرت إِلى إِبراهيم، فلا أنظر إِلى إِربٍ من آرابه، إِلاّ نظرت إِليه منِّي، كأنّه صاحبكم، فقال جبريل عليه السلام: سلِّم على أبيك، "فسلّمت عليه"! (2)
(1) قوله: (قال حسن) ليس في الفتح الرباني: 20: 263.
(2)
أحمد: 1: 374، وصححه ابن كثير: التفسير: 5: 26، وأبو يعلى (2720) باختلاف يسير، وأخرج قول أبي جهل في الزقّوم النسائي (11484). قوله (الأقمر): الشديد البياض، و (الهجان): الأبيض، و (الفيلماني): العظيم الجثة، والعين القائمة: الباقية في مكانها، وفقدت الأبصار، والكوكب الدّرّي: المضيء، وجعد الرأس: أي جعد الشعر، وهو ضدّ الشعر المسترسل، وحديد البصر: قويّه، والمبطّن: الضامر البطن، =
وأخرج البيهقي من طريق عباد بن حنيف، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال (1):
لمّا ذكر الله الزّقوم خوّف به هذا الحيّ من قريش، فقال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزّقوم الذي يخوّفكم به محمَّد؟ قالوا: لا، قال نتزبّد بالزّبدة، أما والله لئن أمكننا لنتزقَمها تزقيماً، فأنزل الله عز وجل فيه:
{وَالشَّجَرَةَ الْملْعُونَةَ في الْقُرآن}
يقول: المذمومة:
{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُم إِلَّا طُغيَانًا كَبِيرًا (60)} (الإسراء)!
وأخرج الطبري (2) بسنده عنه رضي الله عنه، قوله:
{وَالشَّجَرَةَ الْملْعُونَةَ في الْقُرآن} ! قال:
هي شجرة الزّقوم، قال أبو جهل: أيخوّفني ابن أبي كبشة بشجرة الزّقوم، ثم دعا بتمر وزبد، فجعل يقول: زقمني، فأنزل الله تعالى:
{طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)} (الصافات)!، وأنزل فيهم:
= والأسحم: الأسود، وهو الآدم أيضاً، والإرب: العضو. الزّقّوم: قال ابن الأثير: من الزَّقْم: اللَّقْم الشديد، والشرب المفرط.
(1)
البيهقي: كتاب البعث والنشور (546)، وأورده السيوطي: وزاد نسبته إلى ابن إسحاق، وابن أبي حاتم: الدر المنثور: 5: 310.
(2)
التفسير: 15: 113، وأورده السيوطي بهذا اللفظ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
{وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)} !
قال ابن حجر (1) في بيان ما رآه صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء: من ذلك ما وقع عند النسائي من رواية يزيد بن أبي مالك أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أُتيت بدابّة فوق الحمار ودون البغل
…
" الحديث، وفيه: "فركبت ومعي جبريل، فسرت، فقال: أنزل فصل، ففعلت، فقال: أتدري أين صلّيت؟ صلّيت بطيبة، وإِليها المهاجَرة" يعني بفتح الجيم!
ودفع في حديث شدّاد بن أوس عند البزّار، والطبراني، أنه:
أول ما أُسري به مرّ بأرض ذات نخل، فقال له جبريل: انزل فصلّ، فنزل فصلّى، فقال: صلّيت بيثرب. ثم قال في رواية، ثم قال: انزل فصلّ مثل الأول، قال: صلّيت بطور سيناء، حيث كلَّم الله موسى، ثم قال: أنزل -فذكرت مثله، قال: صلّيت ببيت لحم، حيث ولد عيسى.
وقال في رواية شدّاد بعد قوله يثرب، ثم مرّ بأرض بيضاء، فقال: انزل فصلّ، فقال: صلّيت بمدين!
وفيه أنه دخل المدينة من بابها اليماني، فصلَّى في المسجد!
وفيه أنه مرّ في رجوعه بعير لقريش فسلّم عليهم، فقال بعضهم: هذا صوت محمَّد!
(1) فتح الباري: 7: 199 - 201 بتصرف.
وفيه أنه أعلمهم بذلك، وأن عيرهم تقدم يوم كذا، فقدمت الظهر، يقدمهم الجمل الذي وصفه!
وزاد في رواية يزيد بن أبي مالك:
"ثم دخلت بيت المقدس، فجمع لي الأنبياء، فقدّمني جبريل حتى أممتهم"!
وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة عن أنس، عند البيهقي في الدلائل:
أنه مرّ بشيء يدعوه متنحّياً عن الطريق، فقال له جبريل: سر، وأنه مر على عجوز فقال:"ما هذه؟ " فقال: سر، وأنه مرّ بجماعة فسلّموا، فقال له جبريل: اردد عليهم!
وفي آخره فقال له:
الذي دعاك إِبليس، والعجوز الدنيا، والذين سلّموا إِبراهيم وموسى وعيسى!
ثم قال بعد أن ذكر بعض المشاهد التي سنتحدث عنها -كما سيأتي: وفي حديث أبي هريرة عند البزار والحاكم:
"أنه صلّى ببيت المقدس مع الملائكة، وأنه أتي هناك بأرواح الأنبياء، فأثنوا على الله، وفيه قول إِبراهيم: "لقد فضلكم محمَّد"!
وفي رواية عبد الرحمن بن هاشم عن أنس:
"ثم بعث له آدم فمن دونه، فأمّهم تلك الليلة" أخرجه الطبراني.
ثم قال: وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في الأوسط:
"ثم أقيمت الصلاة، فتدافعوا، حتى قدموا محمداً"، ثم قال: وفي حديث ابن عباس:
"فجيء بالمسجد وأنا أنظر إِليه حتى وضع عند دار عقيل، وأنا أنظر إِليه"
وهذا أبلغ في المعجزة، ولا استحالة فيه، فقد أحضر عرش بلقيس في طرفة عين لسليمان، وهو يقتضي أنه أزيل من مكانه، حتى أحضر إِليه، وما ذاك في قدرة الله بعزيز!
ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد:
"فخيّل لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، فإِن لم يكن مغيراً من قوله "فجلى" وكان ثابتاً احتمل أن يكون المراد أنه مثل قريب منه، وأشار إِلى حديث "أريت الجنة والنار" وتأوّل قوله: "جيء بالمسجد" أي جيء بمثاله، والله أعلم!
ووقع في حديث شدّاد بن أوس عند البزّار والطبراني ما يؤيد الاحتمال الأول، ففيه:
"ثم مررت بعير قريش -فذكر القصة- ثم أتيت أصحابي بمكّة قبل الصبح، فأتاني أبو بكر، فقال: أين كنت الليلة؟ " فقال:
"إِني أتيت بيت المقدس"، فقال: إِنه مسيرة شهر، فصفه لي، قال:"ففتح الله لي شراكاً كأنّي أنظر إِليه، لا يسألني عن شيء إِلا أنبأته عنه".
وفي حديث أم هانئ أيضاً أنهم قالوا له: كم للمسجد من باب؟
قال:
"ولم أكن عددتها، فجعلت أنظر إِليه وأعدها باباً باباً"!
وفيه عند أبي يعلى أن الذي سأله عن صفة بيت المقدس هو المطعم بن عدي، والد جبير بن مطعم، وفيه من الزيادة:
فقال رجلٌ من القوم: هل مررتَ بإِبل لنا في مكان كذا وكذا؟ قال: "نعم، لهم ناقة حمراء" قالوا: فأخبرنا عن عدتها، وما فيها من الرعاة، قال: كنت عن عدّتها مشغولاً"، فقام فأتى الإِبل فعدّها وعلم ما فيها من الرعاء، ثم أتى قريشاً فقال: "هي كذا وكذا، وفيها من الرعاء فلان وفلان، فكان كما قال"!
قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي جمرة:
الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس قبل العروج إلى السماء، إرادة
إظهار الحق، لمعاندة من يريد إخماده؛ لأنه لو عرج به من مكّة إلى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلاً إلى البيان والإيضاح، فإنه لمّا ذكر أنه أسري به إلى بيت المقدس سألوه عن تعريفات جزئيّات من بيت المقدس، كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلمَّا أخبرهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الإسراء في ليلة، وإذا صحّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقيّة ما ذكره، فكان ذلك زيادةً في إيمان المؤمن، وزيادة في شقاء الجاحد المعاند!
وقال ابن حجر (1):
اختلف في حال الأنبياء عندما لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهم ليلة الإسراء، هل أُسري بأجسادهم لملاقاة النبيّ صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، أو أن أرواحهم مستقرّة في الأماكن التي لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأرواحهم مشكلة بحسب أجسادهم، كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل، واختار الأوّل بعض شيوخنا، واحتجّ بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"رأيت موسى ليلة أسري بي قائماً يصلّي في قبره" فدلّ على أنه أسري به لا مرّ به!
قال ابن حجر:
وليس ذلك بلازم، بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسد الأرض، فلذلك يتمكّن من الصلاة وروحه مستقرّة في السماء ..
(1) السابق: 212 وما بعدها بتصرف.
وقال القرطبي في المفهم:
ظاهر حديث أنس أنها -أي سدرة المنتهى- في السابعة، لقوله بعد ذكر السماء السابعة:"ثم ذهب بي إلى السدرة"، وفي حديث ابن مسعود، أنها في السادسة، وهذا تعارض لا شك فيه، وحديث أنس هو قول الأكثر، وهو الذي يقتضيه وصفها بأنها التي ينتهي إليها علم كل نبيّ مرسل، وكل ملك مقرّب على ما قال كعب، قال: وما خلفها فغيب لا يعلمه إلا الله أو من أعلمه، وبهذا جزم إسماعيل بن أحمد، وقال غيره: إليها منتهى أرواح الشهداء، قال: ويترجّح حديث أنس بأنّه مرفوع، وحدث ابن مسعود موقوف، كذا قال، ولم يعرج على الجمع، بل جزم بالتعارض!
قال ابن حجر:
ولا يعارض قوله إنها في السادسة ما دلّت عليه بقيّة الأخبار أنه وصل إليها بعد أن دخل السماء السادسة؛ لأنه يحمل على أن أصلها في السماء السادسة، وأغصانها وفروعها في السابعة، وليس في السادسة منها إلا أصل ساقها!
وأشار إلى حديث أبي ذر أوّل الصلاة "فغشيها ألوان لا أدري ما هي" وبقيّة حديث ابن مسعود المذكور، قال تعالى:
قال: فراش من ذهب، كذا فسر المبهم في قوله:{مَا يَغْشَى} بالفراش!
ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس "جراد من ذهب" قال البيضاوي: وذكر الفراش وقع على سبيل التمثيل، لأن من شأن الشجر أن يسقط عليها الجراد وشبهه، وجعلها من الذهب لصفاء لونها وإضاءتها في نفسها اهـ.
ويجوز أن يكون من الذهب حقيقة، ويخلق فيه الطيران، والقدرة صالحة لذلك!
وفي حديث أبي سعيد وابن عباس: "يغشاها الملائكة"!
وفي حديث أبي سعيد عند البيهقي: "على كل ورقة منها ملك"!
ووقع في رواية ثابت عن أنس عند مسلم: "فلمّا غشيها من أمر الله ما غشيها تغيّرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها"!
وفي رواية حميد عن أنس عند ابن مردويه نحوه، لكن قال: تحوّلت قوتاً، ونحو ذلك!
وقوله: "فإذا نبقها" بفتح النون وكسر الموحدة وسكونها أيضاً، قال ابن دحية: والأوّل هو الذي ثبت في الرواية، أي التحريك، والنبق معروف، وهو تمر السدر!
وقوله: "مثل قلال هجر" قال الخطابي: القلال بالكسر جمع قُلّة. بالضم -هي الجرار، يريد أن ثمرها في الكبر مثل القلال، وكانت معروفة عند المخاطبين، فلذلك وقع التمثيل بها، قال: وهي التي وقع تحديد الماء الكثير بها في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الماء قلّتين
…
" (1).
قال محمَّد بن إسحاق (2):
القلّة هي الجرار، والقلّة التي يستقى فيها، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا:(إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء، ما لم يتغيّر ريحه أو طعمه، وقالوا: يكون نحواً من خمس قرب)!
قال ابن حجر:
قال ابن دحية: واختيرت السدرة دون غيرها؛ لأن فيها ثلاثة أوصاف: ظلّ ممدود، وطعام لذيذ، ورائحة ذكيّة، فكانت بمنزلة الإيمان الذي يجمع القول والعمل والنيّة، والظلّ بمنزلة العمل، والطعم بمنزلة النيّة، والرائحة بمنزلة القول!
(1) يشير إلى ما رواه أحمد وغيره عن ابن عُمر رضي الله عنهما بعدة روايات قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يسأل عن الماء، يكون بأرض الفلاة، وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا كَان الماء قدر قلّتين لم يحمل الخبث" أحمد: 2: 12، 23، 26، 38، 107، وابن أبي شيبة: 1: 144، عبد بن حميد (818)، والدارمي (737، 738)،؛ أبو داود (64، 65)، والترمذي (67)، وابن ماجه (317)، والدارقطني: 1: 19 وغيرهم، وفيه ابن إسحاق، وقد صرّح بالسماع عند الدارقطني، ورواه الجم الغفير من الثقات عنه.
(2)
الترمذي (67) عقب الحديث.
وفي قوله: "أربعة أنهار
…
"، قال ابن حجر:
يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة في الجنة، تخرج من تحتها، فيصح أنها من الجنة .. قال ابن أبي جمرة: فيه أن الباطن أجل من الظاهر؛ لأن الباطن جعل في دار البقاء، والظاهر جعل في دار الفناء، ومن ثمّ كان الاعتماد على ما في الباطن، كما قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". (1)
قوله: "وأما الظاهران فالنيل والفرات"، ووقع في رواية شريك -كما سيأتي- "أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطردان" فقال له جبريل: هما النيل والفرات عنصرهما، والجمع بينهما أنه رأى هذين النهرين عند سدرة المنتهى، مع نهري الجنة، ورآهما في السماء الدنيا دون نهري الجنّة، وأراد بالعنصر عنصو امتيازهما بسماء الدنيا!
قال ابن دحية:
ووقع في حديث شريك أيضاً: "ومضى به يرقى السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر، فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربّك".
ووقع في رواية يزيد بن أبي مالك عن أنس عند ابن أبي حاتم أنه بعد أن رأى إبراهيم قال:
(1) الحديث رواه مسلم: 45 - البر (2564)، وأحمد: 2: 284، 285، 539، (والزهد: 59)، والبغوي (4150)، وابن ماجه (4143)، وأبو نعيم: الحلية: 4: 98، وابن حبان (394).
"ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، وعليه طير خضر، أنعم طير رأيت، قال جبريل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله، فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري على رضراض من الياقوت والزمرد، ماؤه أشدّ بياضاً من اللبن، قال: فأخذت من آنيته، فاغترفت من ذلك الماء فشربت، فإذا هو أحلى من العسل، وأشد رائحة من المسك"!
وفي حديث أبي سعيد:
"فإذا فيها عين تجري يقال لها السلسبيل، فينشق منها نهران، أحدهما الكوثر، والآخر يقال له نهر الرحمة"، قلت: فيمكن أن يفسّر بهما النهران الباطنان المذكوران في الحديث!
وكذا روي عن مقاتل، قال: الباطنان السلسبيل والكوثر، وأما الحديث الذي رواه مسلم بلفظ: "سيحان وجيحان، والنيل والفرات، من أنهار الجنّة، فلا يغاير هذا؛ لأن المراد به أن في الأرض أربعة أنهار أصلها من الجنّة، وحينئذ لم يثبت لسيحون وجيحون أنهما ينبعان من أصل سدرة المنتهى، فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك، وأمّا الباطنان المذكوران في الحديث فهما غير سيحون وجيحون، والله أعلم!
قال النووي: في هذا الحديث أن أصل النيل والفرات من الجنّة، وأنهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى، ثم يسيران حيث شاء الله، ثم ينزلان إلى
الأرض، ثم يسيران فيها، ثم يخرجان منها، وهذا لا يمنعه العقل، وقد شهد به ظاهر الحديث فليعتمد!
وأما قول عياض:
إن الحديث يدلّ على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض، لكونه قال: إن النّيل والفرات يخرجان من أصلها، وهما بالشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل السدرة في الأرض، وهو متعقّب، فإن المراد بكونهما يخرجان من أصلها غير خروجهما بالنبع من الأرض، والحاصل أن أصلها من الجنّة، وهما يخرجان أوّلاً من أصلها، ثم يسيران إلى أن يستقرّا في الأرض، ثم ينبعان، واستدلّ به على فضيلة ماء النّيل والفرات، لكون منبعهما من الجنّة، وكذا سيحان وجيحان!
قال القرطبي:
لعلّ ترك ذكرهما في حديث الإسراء، لكونهما ليسا أصلاً برأسهما، وإنما يحتمل أن يتفرّعا عن النّيل والفرات، قال: وقيل إنما أطلق على هذه الأنهار أنها من الجنّة تشبيهاً لها بأنهار الجنّة، لما فيها من العذوبة والحسن والبركة، والأول أولى، والله أعلم!