الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التحدّي بالقرآن:
وهذه الآيات المعجزة، والعجائب الخارقة للعادة، على كثرتها وتنوّعها، وصحة وقوع حوادثها، لم يقع بها التحدّي العام لإثبات دعوى الرسالة، كما وقع بالقرآن الكريم، الذي تحدّى العالمين، فكان هو بذاته ونصّه موطن الدعوة والشاهد على صدقها شهادة بلغت مبلغ اليقين (1)، فقد أهاب القرآن الكريم بغطارفة المشركين الوثنيين، وكانوا أرفع البشر فصاحة، وأبلغهم بياناً، وأروعهم بلاغة، وأبرعهم منطقاً، وأذربهم ألسنة، وأهداهم إلى طريق البراعة البيانيّة سبيلاً، وكانوا يدلّون على الناس بصفاء قرائحهم وحدّة مداركهم، فتحدّاهم أن يأتوا بحديث مثله، آية فما فوقها، وقد تدرّج معهم التحدّي بعشر سور من مثله، ثم إلى سورة واحدة، ولم يتركهم بعد هذه المراتب المتدرّجة حتى غمز قناتهم، وأذلّ استكبارهم، وسخر بغرورهم، وهزأ بتنفّجهم وغطرستهم، فأنبأهم وهو يتحدّاهم بأنهم عاجزون عن معارضته عجزاً لا تواتيهم فيه قدرة على هذه المعارضة، في أي صور التحدّي المتدرجّ، فقال لهم:
(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 341 وما بعدها بتصرف.
ثم أيأسهم بما وخز عنجهيّتهم وخزاً موجعاً، لا أمل من ورائه قطّ في المعارضة، فقال الله عز وجل لرسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم:
وذكر الجنّ في هذه الآية بيان لبلوغ التحدّي والتعجيز غاية يقف عندها غرور التفاصح الأجوف ذليلاً خزيان لا يبين!
فالآيات الحسّيّة المادّيّة التي أعطيها نبيّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم كانت تشريفاً وتكريماً له، وإشارةً بمنزلته عند ربّه، وتنبيهاً للغافلين الذين لم تتبوأ عقولهم مكانتها من الرشد في الإدراك، حتى تتكامل له صلى الله عليه وسلم دعائم تبليغ رسالته في عمومها وخلودها، ليجد فيها وفي وسائل عرضها كل عقل إنسانيّ طلبته المصاحبة لاستعداده، حتى إذا نهض من كبوة جهله، واستشرف آفاق العلم والمعرفة وجد أمامه القرآن العظيم كتاباً محكماً حكيماً، صدوق الدّلالة، عميق البرهنة، سيّال الفكرة، منطلق الحقائق، غزير المعاني، لطيف المأخذ، خالد التحدّي، أَبَديّ الإعجاز بهدايته، مهيمناً على ما جاء به الأنبياء والمرسلون من آيات قاهرة، على مثلها يؤمن البشر:
قال الدكتور دراز (1) رحمه الله: إن التاريخ سجّل على أهل اللغة أنفسهم في عصر نزول القرآن، وما أدراك ما عصر نزول القرآن؟
هو أزهى عصور البيان العربي، وأرقى أدوار التهذيب اللغوي، وهل بلغت المجامع اللغويّة في أمّة من الأمم ما بلغته العربيّة في ذلك العصر من العناية بلغتها، حتّى أدركت هذه اللغة أشدّها، وتمّ لها بقدر الطاقة البشريّة تهذيب كلماتها وأساليبها؟!
ما هذه المجموع المحتشدة في الصحراء؟! وما هذه المنابر المرفوعة هنا وهناك؟!
إنها أسواق العرب تعرض فيها أنفس بضائعهم، وأجود صناعتهم، وما هي إلا بضاعة الكلام، وصناعة الشعر والخطابة، يتبارون في عرضها، واختيار أحسنها، والمفاخرة بها، ويتنافسون فيها أشدّ التنافس، يستوي في ذلك رجالهم ونساؤهم، وما أمْرُ حسَّان والخنساء وغيرهما بخاف على متأدّب!
فما هو إلا أن جاء القرآن .. وإذا الأسواق قد انفضّت، إلا منه، وإذا الأندية قد صفرت، إلا عنه، فما قدر أحد منهم أن يباريه أو يجاريه، أو يقترح فيه إبدال كلمة بكلمة، أو حذف كلمة أو زيادة كلمة، أو تقديم واحدة وتأخير أخرى!
ذلك على أنه لم يسدّ عليهم باب المعارضة، بل فتحه على مصراعيه، بل دعاهم إليه أفراداً أو جماعات، بل تحدّاهم وكرّر عليهم ذلك التحدّي في صور شتّى، متهكّماً بهم، متنزّلأَ معهم إلى الأخفّ فالأخفّ:
فدعاهم أول مرة أن يجيئوا بمثله!
ثم دعاهم أن يأتوا بعشر سور مثله!
(1) النبأ العظيم: نظرات جديدة في القرآن: 83 وما بعدها بتصرف.
ثم بسورة واحدة من مثله!
انظر كيف تنزّل معهم في هذه المرتبة من طلب المماثل إلى طلب شيء مما يماثل، كأنه يقول:
لا أكلفكم بالمماثلة العامة، بل حسبكم أن تأتوا بشيء فيه جنس المماثلة ومطلقها، وبما يكون مثلاً على التقريب لا التحديد!
وهذا أقصى ما يمكن من التنزّل، ولذا كان هو آخر صنيع التحدّي نزولاً، فلم يجيء التحدّي بلفظ (من مثل) إلا في سورة البقرة المدنيّة، وسائر المراتب بلفظ (مثله) في السور التي نزلت قبل ذلك بمكّة!
فتأمّل هذا الفرق فإنه طريف، وأسأل الله أن يوفقنا وإيّاك لفهم أسرار كتابه والانتفاع بهدايته وآدابه!
وأباح لهم في كل مرّة أن يستعينوا بمن شاؤوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة، فقال تعالى:
وقال:
فانظر أيّ إلهاب!
وأيّ استفزاز!
لقد أجهز عليهم بالحكم الباب المؤبد في قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} !
ثم هدّدهم بالنار!
ثم سوّاهم بالأحجار!
فلعمري لو كان فيهم لسان يتحرّك لما صمتوا عند منافسته، وهم الأعداء الألدّاء، وأباة الضيم الأعزّاء، وقد أصاب منهم موضع عزتهم وفخارهم، ولكنهم لم يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى معارضته، ولا سلماً يصعدون به إلى مزاحمته، بل وجدوا أنفسهم منه أمام طود شامخ، فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً .. حتى إذا استيأسوا من قدرتهم واستيقنوا عجزهم ما كان جوابهم إلا أن ركبوا متن الحتوف، واستنطقوا السيف بدل الحروف، وتلك هي الحيلة التي يلجأ إليها كلّ مغلوب!
الحجّة والبرهان، وكل من لا يستطيع دفعاً عن نفسه بالقلم واللسان!
ومضى عصر نزول القرآن، والتحدّي قائم، ليجرّب كل امرئ نفسه .. وجاء العصر الذي بعده، وفي البادية وأطرافها أقوام لم تختلط أنسابهم، ولم تنحرف ألسنتهم، ولم تتغيّر سليقتهم، وفيهم من لو استطاعوا أن يأتوا هذا الدّين من أساسه، ويثبتوا أنهم قادرون من أمر القرآن، على ما عجز عنه أوائلهم لفعلوا، ولكنهم ذلت أعناقهم له خاضعين، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل!
ثم مضت تلك القرون، وورث هذه اللغة عن أهلها الوارثون .. غير أن هؤلاء الذين جاؤوا من بعد، كانوا أشدّ عجزاً، وأقلّ طمعاً، في هذا المطلب العزيز، فكانت شهادتهم على أنفسهم مضافة إلى شهادة التاريخ على أسلافهم، وكان برهان هذا الإعجاز قائماً أمامهم من طريقين: