الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبّر لهذا الوجود! {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} .
فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادّة للسخرية والتهكّم، وقالوا: إن ربَّ محمد يتحدّث عن الذباب والعنكبوت، ولم يهزّ مشاعرهمِ هذا التصوير العجيب؛ لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} !
ضرورة الابتلاء:
ويطالعنا قوله عز وجل:
إنها سنّة العقائد والدعوات .. لابدّ من بلاء (1)، ولا بدّ من أذى في الأموال والأنفس، ولا بدّ من صبر ومقاومة واعتزام .. إنه الطريق إلى الجنّة، وقد حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النَّار بالشهوات .. يروي مسلم وغيره عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النَّار بالشهوات"(2).
(1) السابق: 1: 539 وما بعدها بتصرف.
(2)
مسلم: 51 - الجنة (2822)، وأحمد: 3: 153، 254، 284، والبغوي (4114) والترمذي (2559)، وعبد بن حميد (1311)، وابن حبان (716، 718)، والقضاعي: الشهاب (568)، والدارمي: 2: 339.
وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت النار بالشهوات، وحُفَّت الجنَّة بالمكاره". (1)
وفي الآية قبل التي معنا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} (آل عمران)!
وهنا نبصر توجيه القرآن إلى الجماعة المسلمة، يحدثّها عن القيم التي ينبغي أن تحرص عليها، وتضحي من أجلها، ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال!
إنه لا بدّ من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً .. يموت الصالحون، ويموت الطالحون .. يموت المجاهدون، ويموت القاعدون .. يموت المستعلون بالعقيدة، ويموت المستذلون للعبيد .. يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن .. لموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص!
الكل يموت .. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ! كل نفس تذوق هذه الجريمة، وتفارق هذه الحياة، وهنا نذكر ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الميّت تحضره الملائكة، فإِذا كان الرجل الصالح،
(1) مسلم (2823)، والبخاري (6487) بلفظ "حُجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنّة بالمكاره"، وابن المبارك: الزهد (650، 925)، والقضاعي: الشهاب (567)، وأحمد: 2: 260، 380، وأبو داود (4744)، والترمذي (2560) من حديث طويل، والنسائي: 7: 3، والبغوي: شرح السنة (4115)، وابن حبان (719).
قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيّبة، كانت في الجسد الطيّب، اخرجي حميدة، وأبشري بروْح وروْحان وربٍّ غير غضبان. قال: فلا يزال يقال ذلك، حتَّى تخرج، ثم يُعرج بها إِلى السماء، فيُستفتح لها فيُقال: مَنْ هذا؟ فيُقال: فلان، فيقولون: مرحباً بالنّفس الطّيِّبَة كانت في الجسد الطّيّب، ادْخُلي حميدة، وأبشري بروْح وريْحان وربٍّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها حتّى يُنتَهَى بها إِلى السماء التي فيها الله عز وجل!
وإِذا كان الرّجُلُ السّوء، قالوا: اخْرجي أيَّتُها النّفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرُجي ذميمةً، وأبشري بحميم وغَسَّاق، وآخر مِنْ شكله أزواج، فلا تزال تخرج ثم يُعرجُ بها إِلى السماء، فَيُسْتفتح لها فيُقال: مَنْ هذا؟ فيُقال: فلان، فيُقال: لَا مَرحباً بالنَّفس الْخَبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذَميمةً، فإِنه لا يُفْتح لك أبواب السماء، فَترْسَلُ من السماء، ثم تصير إِلى الْقَبْر فَيُجْلَس الرجل الصالح، فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول، ويُجلَسُ الرّجلُ السَّوْء، فيُقال له مثل ما قيل في الحديث الأول". (1)
وهنا نبصر خروج النفس الطيّبة، والنفس الخبيثة .. والفارق في المصير الأخير:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} !
هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق .. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه
(1) أحمد: 2: 364 - 365، وابن ماجه (4262، 4268)، والنسائي: الكبرى (11442)، وابن خزيمة: التوحيد: 1: 276 - 277، والطبري: التفسير: 8: 177، والآجري: الشريعة: 392، وابن منده: الإيمان (1068)، وانظر: أحمد: 6: 139، والنسائي: 4: 8 - 9، ومسلم بنحوه مختصراً (2872)، وابن منده: الإيمان (1069)، والحاكم: 1: 353، وابن حبان (3013).
إنسان عن آخر .. القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد، والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} !
ولفظ: {فَازَ} ! بذاته يصوّر معناه بجرسه، ويرسم هيئته ويلقي ظله، وكأنما للنار جاذبيّة تشدّ إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيّتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها، ويستنقذ من جاذبيّتها، ويدخل الجنّة فقد فاز!
صورة قويّة، بل مشهد حيّ، فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته، فللنار جاذبيّة!
أليست للمعصية جاذبيّة؟!
أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها عن جاذبيّة المعصية؟ بلي!
وهذه هي زحزحتها عن النار!
أليس الإنسان -حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة- يظل أبداً مقصّراً في العمل .. إلا أن يدركه فضل الله؟ بلى!
وهذه هي الزحزحة عن النار، حين يدرك الإنسان فضل الله، فيزحزحه عن النار! {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} !
إنها متاع .. ولكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحوة واليقظة؛ بل متاع الغرور .. المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعاً .. المتاع الذي ينشئه الغرور والخداع!
وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرّت في النفس وتكون النفس قد
أخرجت من حسابها الحرص على الحياة -إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال- وأخرجت من حسابها متاع الغرور الزائل .. عندما يبيّن الله للمؤمنين ما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس، وقد استعدت نفوسهم للبلاء فمن ثمَّ تتبيّن معالم الطريق كما يصوّرها الكتاب والسنّة، ويثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً، إذ هؤلاء هم الذين يصلحون لحملها والصبر عليها، إذن فهم مؤتمنون!
وذلك لكي تعزّ هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحّون في سبيلها من عزيز وغال، فلا يفرطون فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال!
وذلك لكي يصلب عود الدعاة في تبليغ الدعوة؛ فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنمّيها وتجمعها وتوحّدها، وهي في حاجة إلى استثارة هذه القوى، لتتأصّل جذورها وتتعمّق، وتتّصل بالتربة الخصبة الغنيّة في أعماق الفطرة!
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عمليّة واقعيّة، ويعرفون حقيقة النفس البشريّة وخباياها ويعرفون حقيقة الجماعات والمجتمعات وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس .. ومداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال!
ثم لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لابدّ فيها من خير، ولابدّ فيها منْ سرٍّ يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون .. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها أفواجاً في نهاية المطاف!
إنها سنّة الدعوات، وكي يصبر المؤمن على ما فيها من مشقّة، ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله، فلا يشط فيعتدي وهو يردّ الاعتداء، ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد، وما يصبر على هذا كله إلا أولو العزم الأقوياء:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} !
وهكذا علمت الجماعة المسلمة اللأولى ما ينتظرها من تضحيات وآلام، وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال، من أهل الكتاب من حولها، ومن المشركين أعدائها .. ولكنها سارت في الطريق، ولم تتخاذل، ولم تتراجع، ولم تنكص على أعقابها!
لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الوت، وأن توفية الأجور يوم القيامة، وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز، وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور .. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف، وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو!
والأرض الصلبة المكشوفة باقية في كل زمان، والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان، وأعداء الدعوة هم أعداؤها .. تتوالى القرون والأجيال، وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال .. والقرآن هو القرآن!
وهبها كانت القاضية .. فهذا هو الأمل والرجاء، وهنا يطالعنا ما رواه أحمد وغيره بسند قويّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما يجد الشهيد من مَسِّ الموت، إِلا كما يجدُ أحدُكم مسَّ الْقَرْصَة". (1)
(1) أحمد: 2: 297، والدارمي (2413)، والترمذي (1668)، والنسائي: 6: 36، وابن ماجه (2802)، وابن أبي عاصم (190، 191)، وأبو نعيم: الحلية: 8: 264، والبيهقي: 9: 164، والبغوي: شرح السنة (2630)، والتفسير: 1: 373، وابن حبان (4655).
وفي رواية للشيخين وغيرهما عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبدٍ يموت له عند الله خير، يسرّه أن يرجع إِلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، لِمَا يرى من فضل الشهادة، فإِنه يسرّه أن يرجع إِلى الدّنيا مرةً أخرى".
وفي رواية: "ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إِلى الدنيا، يتمنّى أن يرجع إِلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء، إِلا الشهيد، يتمنّى أن يرجع إِلى الدّنيا، فيقتَل عشر مرّات، لِمَا يرى من الكرامة". (1)
ولنا حديث عن فضل الجهاد ومكانة الشهيد في حينه بعون الله وتوفيقه!
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان .. وتختلف وسائل الدعاية ضدّ الجماعة المسلمة، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وفي أغراضها .. ولكن الأصول واحدة:
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيداً للجماعة المسلمة، كلما همّت أن تتحرّك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الحياة، تَجَمَّعتْ عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الخبيثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها!!
(1) البخاري: 56 - الجهاد (2795، 2817)، ومسلم (1877)، وأحمد: 3: 103، 173، 276، والترمذي (1643)، والبغوي (2628)، وابن حبان (4661، 4662).