المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبّر لهذا الوجود! {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبّر لهذا الوجود! {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ

هو وحده العزيز القادر الحكيم المدبّر لهذا الوجود! {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} .

فلقد اتخذها جماعة من المشركين المغلقي القلوب والعقول مادّة للسخرية والتهكّم، وقالوا: إن ربَّ محمد يتحدّث عن الذباب والعنكبوت، ولم يهزّ مشاعرهمِ هذا التصوير العجيب؛ لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون:{وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} !

‌ضرورة الابتلاء:

ويطالعنا قوله عز وجل:

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} (آل عمران)!

إنها سنّة العقائد والدعوات .. لابدّ من بلاء (1)، ولا بدّ من أذى في الأموال والأنفس، ولا بدّ من صبر ومقاومة واعتزام .. إنه الطريق إلى الجنّة، وقد حفّت الجنّة بالمكاره، وحفّت النَّار بالشهوات .. يروي مسلم وغيره عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النَّار بالشهوات"(2).

(1) السابق: 1: 539 وما بعدها بتصرف.

(2)

مسلم: 51 - الجنة (2822)، وأحمد: 3: 153، 254، 284، والبغوي (4114) والترمذي (2559)، وعبد بن حميد (1311)، وابن حبان (716، 718)، والقضاعي: الشهاب (568)، والدارمي: 2: 339.

ص: 1129

وفي رواية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حُفَّت النار بالشهوات، وحُفَّت الجنَّة بالمكاره". (1)

وفي الآية قبل التي معنا قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)} (آل عمران)!

وهنا نبصر توجيه القرآن إلى الجماعة المسلمة، يحدثّها عن القيم التي ينبغي أن تحرص عليها، وتضحي من أجلها، ويحدثها عن أشواك الطريق ومتاعبها وآلامها، ويهيب بها إلى الصبر والتقوى والعزم والاحتمال!

إنه لا بدّ من استقرار هذه الحقيقة في النفس: حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة، محدودة بأجل، ثم تأتي نهايتها حتماً .. يموت الصالحون، ويموت الطالحون .. يموت المجاهدون، ويموت القاعدون .. يموت المستعلون بالعقيدة، ويموت المستذلون للعبيد .. يموت الشجعان الذين يأبون الضيم، ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن .. لموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية، ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص!

الكل يموت .. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ! كل نفس تذوق هذه الجريمة، وتفارق هذه الحياة، وهنا نذكر ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِن الميّت تحضره الملائكة، فإِذا كان الرجل الصالح،

(1) مسلم (2823)، والبخاري (6487) بلفظ "حُجبت النار بالشهوات، وحُجبت الجنّة بالمكاره"، وابن المبارك: الزهد (650، 925)، والقضاعي: الشهاب (567)، وأحمد: 2: 260، 380، وأبو داود (4744)، والترمذي (2560) من حديث طويل، والنسائي: 7: 3، والبغوي: شرح السنة (4115)، وابن حبان (719).

ص: 1130

قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيّبة، كانت في الجسد الطيّب، اخرجي حميدة، وأبشري بروْح وروْحان وربٍّ غير غضبان. قال: فلا يزال يقال ذلك، حتَّى تخرج، ثم يُعرج بها إِلى السماء، فيُستفتح لها فيُقال: مَنْ هذا؟ فيُقال: فلان، فيقولون: مرحباً بالنّفس الطّيِّبَة كانت في الجسد الطّيّب، ادْخُلي حميدة، وأبشري بروْح وريْحان وربٍّ غير غضبان، قال: فلا يزال يقال لها حتّى يُنتَهَى بها إِلى السماء التي فيها الله عز وجل!

وإِذا كان الرّجُلُ السّوء، قالوا: اخْرجي أيَّتُها النّفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرُجي ذميمةً، وأبشري بحميم وغَسَّاق، وآخر مِنْ شكله أزواج، فلا تزال تخرج ثم يُعرجُ بها إِلى السماء، فَيُسْتفتح لها فيُقال: مَنْ هذا؟ فيُقال: فلان، فيُقال: لَا مَرحباً بالنَّفس الْخَبيثة، كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذَميمةً، فإِنه لا يُفْتح لك أبواب السماء، فَترْسَلُ من السماء، ثم تصير إِلى الْقَبْر فَيُجْلَس الرجل الصالح، فيقال له مثل ما قيل له في الحديث الأول، ويُجلَسُ الرّجلُ السَّوْء، فيُقال له مثل ما قيل في الحديث الأول". (1)

وهنا نبصر خروج النفس الطيّبة، والنفس الخبيثة .. والفارق في المصير الأخير:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} !

هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق .. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه

(1) أحمد: 2: 364 - 365، وابن ماجه (4262، 4268)، والنسائي: الكبرى (11442)، وابن خزيمة: التوحيد: 1: 276 - 277، والطبري: التفسير: 8: 177، والآجري: الشريعة: 392، وابن منده: الإيمان (1068)، وانظر: أحمد: 6: 139، والنسائي: 4: 8 - 9، ومسلم بنحوه مختصراً (2872)، وابن منده: الإيمان (1069)، والحاكم: 1: 353، وابن حبان (3013).

ص: 1131

إنسان عن آخر .. القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد، والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} !

ولفظ: {فَازَ} ! بذاته يصوّر معناه بجرسه، ويرسم هيئته ويلقي ظله، وكأنما للنار جاذبيّة تشدّ إليها من يقترب منها، ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلاً قليلاً ليخلصه من جاذبيّتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها، ويستنقذ من جاذبيّتها، ويدخل الجنّة فقد فاز!

صورة قويّة، بل مشهد حيّ، فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته، فللنار جاذبيّة!

أليست للمعصية جاذبيّة؟!

أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها عن جاذبيّة المعصية؟ بلي!

وهذه هي زحزحتها عن النار!

أليس الإنسان -حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة- يظل أبداً مقصّراً في العمل .. إلا أن يدركه فضل الله؟ بلى!

وهذه هي الزحزحة عن النار، حين يدرك الإنسان فضل الله، فيزحزحه عن النار! {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} !

إنها متاع .. ولكنه ليس متاع الحقيقة، ولا متاع الصحوة واليقظة؛ بل متاع الغرور .. المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعاً .. المتاع الذي ينشئه الغرور والخداع!

وعندما تكون هذه الحقيقة قد استقرّت في النفس وتكون النفس قد

ص: 1132

أخرجت من حسابها الحرص على الحياة -إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال- وأخرجت من حسابها متاع الغرور الزائل .. عندما يبيّن الله للمؤمنين ما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس، وقد استعدت نفوسهم للبلاء فمن ثمَّ تتبيّن معالم الطريق كما يصوّرها الكتاب والسنّة، ويثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عوداً، إذ هؤلاء هم الذين يصلحون لحملها والصبر عليها، إذن فهم مؤتمنون!

وذلك لكي تعزّ هذه الدعوة عليهم وتغلو، بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء، وبقدر ما يضحّون في سبيلها من عزيز وغال، فلا يفرطون فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال!

وذلك لكي يصلب عود الدعاة في تبليغ الدعوة؛ فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنمّيها وتجمعها وتوحّدها، وهي في حاجة إلى استثارة هذه القوى، لتتأصّل جذورها وتتعمّق، وتتّصل بالتربة الخصبة الغنيّة في أعماق الفطرة!

وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم، وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عمليّة واقعيّة، ويعرفون حقيقة النفس البشريّة وخباياها ويعرفون حقيقة الجماعات والمجتمعات وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس .. ومداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال!

ثم لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لابدّ فيها من خير، ولابدّ فيها منْ سرٍّ يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون .. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها أفواجاً في نهاية المطاف!

ص: 1133

إنها سنّة الدعوات، وكي يصبر المؤمن على ما فيها من مشقّة، ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله، فلا يشط فيعتدي وهو يردّ الاعتداء، ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد، وما يصبر على هذا كله إلا أولو العزم الأقوياء:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} !

وهكذا علمت الجماعة المسلمة اللأولى ما ينتظرها من تضحيات وآلام، وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال، من أهل الكتاب من حولها، ومن المشركين أعدائها .. ولكنها سارت في الطريق، ولم تتخاذل، ولم تتراجع، ولم تنكص على أعقابها!

لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الوت، وأن توفية الأجور يوم القيامة، وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنّة فقد فاز، وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور .. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف، وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو!

والأرض الصلبة المكشوفة باقية في كل زمان، والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان، وأعداء الدعوة هم أعداؤها .. تتوالى القرون والأجيال، وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال .. والقرآن هو القرآن!

وهبها كانت القاضية .. فهذا هو الأمل والرجاء، وهنا يطالعنا ما رواه أحمد وغيره بسند قويّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما يجد الشهيد من مَسِّ الموت، إِلا كما يجدُ أحدُكم مسَّ الْقَرْصَة". (1)

(1) أحمد: 2: 297، والدارمي (2413)، والترمذي (1668)، والنسائي: 6: 36، وابن ماجه (2802)، وابن أبي عاصم (190، 191)، وأبو نعيم: الحلية: 8: 264، والبيهقي: 9: 164، والبغوي: شرح السنة (2630)، والتفسير: 1: 373، وابن حبان (4655).

ص: 1134

وفي رواية للشيخين وغيرهما عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من عبدٍ يموت له عند الله خير، يسرّه أن يرجع إِلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد، لِمَا يرى من فضل الشهادة، فإِنه يسرّه أن يرجع إِلى الدّنيا مرةً أخرى".

وفي رواية: "ما أحد يدخل الجنّة يحبّ أن يرجع إِلى الدنيا، يتمنّى أن يرجع إِلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء، إِلا الشهيد، يتمنّى أن يرجع إِلى الدّنيا، فيقتَل عشر مرّات، لِمَا يرى من الكرامة". (1)

ولنا حديث عن فضل الجهاد ومكانة الشهيد في حينه بعون الله وتوفيقه!

وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان .. وتختلف وسائل الدعاية ضدّ الجماعة المسلمة، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وفي أغراضها .. ولكن الأصول واحدة:

{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)} (آل عمران)!

ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيداً للجماعة المسلمة، كلما همّت أن تتحرّك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الحياة، تَجَمَّعتْ عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الخبيثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها!!

(1) البخاري: 56 - الجهاد (2795، 2817)، ومسلم (1877)، وأحمد: 3: 103، 173، 276، والترمذي (1643)، والبغوي (2628)، وابن حبان (4661، 4662).

ص: 1135