الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بشرى للمؤمنين:
ويؤكد هذه النهاية ويبشر بقرب وقوعها قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ} فإن العطف بالفاء يقتضي الترتيب مع التعقيب، فالوعد واقع بعد هذه الكرّة!
والتعبير بـ (إذا) يدل على تحقيق المجيء لا محالة!
وبشائر النصر التي تحدونا أولاً وأخيراً في هذه السورة!
وقال تعالى بعد هذه الآيات:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء: 9)!
وقال تعالى في آخر السورة:
تعليق على المقال:
والذي يقرأ هذا المقال يتبيّن له أن كاتبه يرى أن المراد من الكتاب في قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ} ! هو القرآن الكريم لا التوراة!
وهذا الفهم لا يمكن أن ينساق إلى ذهن من يقرأ الآيات القرآنيّة بتدبّر، لأن الله يقول:
{وَآتَيْنَا مُوسى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} !
ثم يقول بعد ذلك: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} !
فالكتاب في الآية الثانية يقصد به عين الكتاب في الآية الأولى، وهو التوراة التي أنزلها الله تعالى على موسى عليه السلام وجعلها هدى لبني إسرائيل!
وسبق أن بيّنا ذلك، وأنه المعنى المتبادر من الآيات، والذي لا يمكن أن يفهم المتأمل في كتاب الله غيره، وقد أجمع عليه جمهور المفسّرين، وقليل منهم أضاف إلى ذلك أنه يجوز أن يراد به اللوح المحفوظ، ومنهم القاسمي! (1)
وقد سبق بيان فائدة إخبار الله بني إسرائيل في التوراة أنهم يفسدون في الأرض مرتّين!
وبإثباتنا أن المراد بالكتاب في الآية الثانية هو التوراة، نكون قد رددنا أساس رأيه من أن المراد به هو القرآن (2)، ورددنا ما بناه على هذا الرأي من أن مرّتي الإفساد في الإِسلام، وأن ذلك من الإنباء بالغيب الذي يكون في المستقبل بالنسبة لنزول الآية الكريمة على النبي صلى الله عليه وسلم!
هذا، ولنا تعليقات يسيرة على بعض ما جاء في هذا المقال، منها:
أولاً: يقول: ما السرّ في أن يخبر الله عن إسرائه برسوله صلى الله عليه وسلم في آية واحدة أوّل السورة، ينقطع بعدها الحديث عن الإسراء جملة إلى آخر السورة، ويبدأ الحديث عن بني إسرائيل، وما أنعم الله عليهم، وعهد إليهم، وعن دور خير يكون لهم، وما وجه المناسبة بين هذه الآيات والأحداث
…
؟ إلخ!
ونقول: إن الله تعالى ما ذكر الإسراء إلا يكون آية من الآيات من أول الإسراء مثاراً لتشكيك من في قلوبهم مرض في رسال النبيّ صلى الله عليه وسلم وصدق نبوّته،
(1) انظر: تفسير القاسمي: 10: 3902.
(2)
انظر: بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 381 وما بعدها بتصرف.
كما اتّخذها ذريعة للسخرية برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن آمن به، فالله تعالى يقول لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض، ويصدّون عن سبيل الله من آمن، ويهزؤون برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: إن لم تنتهوا عن إثارة الفساد في الأرض، ووضع العراقيل أمام الدعوة، ليصيبنّكم ما أصاب بني إسرائيل قبلكم، حين عاثوا فساداً في الأرض مرّتين، وعلو علوًّا كبيراً، فقد سلّط الله عليهم بعد كل من المرّتين من يسومهم سوء العذاب، ومن يجوس خلال ديارهم بالقتل والتّخريب!
وتبدأ السورة بتسبيح الله تعالى (1)، وتضمّ موضوعات شتّى، معظمها عن العقيدة، وبعضها عن قواعد السلوك الفردي والجماعي وآدابه القائمة على العقيدة
…
إلى شيء من القصص عن بين إسرائيل يتعلّق بالمسجد الأقصى الذي كان إليه الإسراء!
ولكن العنصر البارز في كيان هذه السورة ومحور موضوعاتها الأصيل هو شخص الرسول صلى الله عليه وسلم .. وموقف القوم منه في مكة .. والقرآن الذي نزل عليه .. وطبيعة هذا القرآن وما يهدي إليه، واستقبال القوم له!
واستطرد بهذه المناسبة إلى طبيعة الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم .. وإلى امتياز الرسالة الإِسلاميّة بطابع غير طابع الخوارق الحسيّة وما يتبعها من هلاك المكذّبين بها .. وإلى تقرير التبعة الفرديّة في الهدى والضلال الاعتقادي، والتبعة الجماعيّة في السلوك العملي في محيط المجتمع!
ويتكرر في سياق السورة تنزيه الله وتسبيحه وحمده وشكر آلائه .. ففي مطلعها:
(1) في ظلال القرآن: 4: 2208 بتصرف.
وفي أمر بني إسرائيل بتوحيد الله يذكرهم بأنهم من ذرّيّة المؤمن مع نوح: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)} !
وعند دعاوى المشركين عن الآلهة يعقب بقوله:
وفي حكايته قول بعض أهل الكتاب حين يتلى عليهم القرآن:
{وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)} !
وتنتهي السورة بالحمد:
وفي تلك الموضوعات المنوّعة حول ذلك المحور الواحد الذي بيّنا يمضي سياق السورة في مواقف متتابعة:
يبدأ الموقف الأول بالإشارة إلى الإسراء:
مع الكشف عن حكمة الإسراء: {لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا} !
وبمناسبة المسجد الأقصى يذكر كتاب موسى، وما قضى الله لبني إسرائيل من نكبة وهلاك وتشريد مرّتين، بسبب طغيانهم وإفسادهم، مع إنذارهم بثالثة ورابعة:{وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} !
ثم يقرر أن القرآن يهدي للتي هي أقوم، بينما الإنسان عجول مندفع، لا يملك زمام انفعالاته .. ويقرّر قاعدة التبعة الفرديّة في الهدى والضلال، وقاعده التبعة الجماعية في التصرفات والسلوك!
وهكذا نجد السياق ينتقل من سيرة بني إسرائيل وكتابهم الذي آتاه الله موسى عليه السلام، ليهتدوا به فلم يهتدوا، بل ضلّوا فهلكوا
…
ينتقل إلى القرآن الكريم:
هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم، وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقواماً وأجيالاً بلا حدود من زمان أو مكان .. ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج، وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه الشر في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل!
يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة التي لا تعقيد فيها ولا غموض .. والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشريّة الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعيّة ونواميس الفطرة البشريّة في تناسق واتّساق!
ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله .. فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلّعة إلى أعلى وهي مستقرّة على الأرض .. وإذا العمل عبادة متى توجّه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعاً واستمتاعاً بالحياة، فلا مادّية كما نشهد في عالمنا المعاصر .. ولارهبانية أيضاً!
ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشقّ التكاليف على النفس حتى تملّ وتيأس من الوفاء، ولا تترخّص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال!
ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفراداً وأسراً، وحكومات وشعوباً، ودولاً وأجناساً!
ومعلوم أن (الدين القيّم) يقيم العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة، والشنآن، ولا تصرّفها المصالح والأغراض .. الأسس التي أقامها العلم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم، ونظام المال، ونظام الاجتماع، ونظام التعامل الدّولي اللاّئق بعالم الإنسان!
ويهدي للتي هي أقوم في تبنِّي الرسالات السماوية -ومنها رسالة موسى عليه السلام والربط بين هذه الرسالات، وتعظيم مقدّساتها، وفق هدى الحق، وصيانة حرماتها، وفق وحي السماء، فإذا البشريّة بجميع رسالاتها السماويّة في سلام ووئام!
ولكن اليهود -كما عرفنا- هم اليهود!
فأمّا الذين لا يهتدون بهدي القرآن، فهم متروكون لهوى الإنسان .. العجول .. الجاهل بما ينفعه وما يضرّه .. المندفع الذي لا يضبط انفعالاته، ولو كان من ورائها الشرّ كله:
{وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11)} {الإسراء)!
ذلك أنه لا يعرف مصائر الأمور وعواقبها، ولقد يفعل الفعل وهو شرّ، ويعجل به على نفسه وهو لا يدري، أو يدري ولكنه لا يقدر على كبح جماحه وضبط زمامه .. فأين هذا من هدي القرآن الثابت الهادئ الهادي؟!
ألا إنهما طريقان مختلفان: شتان شتان .. هدي القرآن، وهوى الإنسان!
ومن الإشارة إلى الإسراء وما صاحبه من آيات. والإشارة إلى نوح عليه السلام ومن حُملوا معه من المؤمنين .. والإشارة إلى قصّة بني إسرائيل، وما قضاه الله لهم في الكتاب، وما يدل عليه هذا القضاء من سنن الله في العبادة ومن قواعد العمل والجزاء .. والإشارة إلى القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم!
من هذه الإشارات إلى آيات الله التي أعطاها، ينتقل السياق إلى آيات الله الكونيّة في هذا الوجود، يربط بها نشاط البشر وأعمالهم، وجهودهم وجزاءهم، وكسبهم وحسابهم، فإذا نواميس العمل والجزاء والكسب والحساب، مرتبطة أشدّ ارتباط بالنواميس الكونيّة الكبرى، محكومة بالنواميس ذاتها، قائمة على قواعد وسنن لا تتخلّف، دقيقة منظمة دقة النظام الكونيّ الذي يصرف الليل والنهار، مدبرة بإرادة الخالق الذي جعل الليل والنهار آيتين!
ويبدأ الموقف الثاني بقاعدة التوحيد .. وهي قد أصابها التحريف اليهودي والتخريف الصهيوني الجهول -كما يشهد الواقع التاريخي- وذلك ليقيم عليها البناء الاجتماعي كله، وآداب العمل والسلوك فيه. ويشدّها إلى هذا المحور الذي لا يقوم بناء الحياة إلا مستنداً إليه!
ويتحدث في الموقف الثالث عن أوهام الوثنيّة الجاهلية .. وعن استقبالهم للقرآن الكريم، وتقوّلاتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم
…
ويأمر المؤمنين أن يتكلموا بالتي هي أحسن!
وفي الموقف الرابع يبيّن لماذا يرسل الله خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم بالخوارق؛ فقد كذَّب بها الأوّلون، فحقّ عليهم الهلاك اتباعاً لسنة الله .. كما يتناول موقف المشركين من إنذار الله لهم في رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم وطغيانهم!
ويجيء في هذا السياق طرف من قصّة إبليس، وإعلانه أنه سيكون حرباً على ذرّيّة آدم .. يجيء هذا الطرف من القصّة كأنه كشف لعوامل الضلال الديني يبدو من المشركين، والإفساد في الأرض الذي يقوم به اليهود .. ويعقب عليه بالتخويف من عذاب الله، والتذكير بنعم الله في تكريم الإنسان، وما ينتظر الطائعين والعصاة:
وهو مشهد يصوّر الخلائق محشورة .. وكل جماعة تنادي بعنوانها باسم المنهج الذي اتبعته، أو الرسول الذي اقتدت به، أو الإِمام الذي انتمت إليه في الحياة الدنيا!
فهل تبع اليهود موسى عليه السلام؟!
إنهم انحرفوا عن رسالته، وكفروا بالحق الذي آمن به ودعا إليه!
إن موسى عليه السلام من المسلمين، فهل أتباعه -كما يزعمون- كذلك؟!
وهنا في هذا الموقف الرهيب الرعيب تنادي كل جماعة، ليسلّم لها كتاب عملها وجزائها في الدار الآخرة .. فمن أوتي كتابه بيمينه فهو فرح بكتابه يقرؤه ويتملاّه .. ويوفَّى الأجر! ومن عمي في الدنيا عن دلائل الحق -كهؤلاء اليهود ومن على شاكلتهم- فهو في الآخرة أعمى عن طريق النجاة، وأضلّ سبيلاً .. وجزاؤه معروف!
ولكن السياق يرسمه في هذا المشهد المزدحم المهيب، الهائل الرعيب، أعمى ضالاًّ يتخبّط، لا يجد من يهديه ولا من يهتدي به، ويدعه كذلك، لا يقرّر في شأنه أمراً هنا؛ لأن مشهد العمى والضلال في ذلك الموقف العصيب الرهيب هو وحده جزاء مرهوب، يؤثر في القلوب!
ويستعرض في الموقف كيد المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم، ومحاولة فتنته عن بعض ما أُنزل إليه، ومحاولة إخراجه من مكة، ولو أخرجوه قسراً -ولم يخرج هو مهاجراً بأمر الله- لحلّ بهم الهلاك الذي حلّ بالقرى من قبلهم، حين أخرجت رسلها أو قتلتهم، كما عرفنا في تاريخ اليهود!
ويأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمضي في طريقه، يقرأ القرآن، ويقيم الصلاة، ويدعو الله أن يحسن مدخله ومخرجه، ويعلن مجيء الحق وزهوق الباطل، ويعقب بأن هذا القرآن الذي أرادوا فتنته عن بعضه فيه شفاء وهدى للمؤمنين!
بينما الإنسان قليل العلم، وهو يعرض موقفاً من مواقف هؤلاء اليهود -كما
أسلفنا- وهم يسألونه عن الرّوح ما هو؟ .. والمنهج الذي سار عليه القرآن -وهو المنهج الأقوم- أن يجيب الناس عمّا هم في حاجة إليه، وما يستطيع إدراكهم البشري بلوغه ومعرفته، فلا يبددّ الطاقة العقليّة التي وهبهم الله إيّاها فيما لا يفيد ولا يثمر، وفي غير مجالها الذي تملك وسائله وتحيط به، فلما سألوه عن الرّوح أمره الله أن يجيبهم بأن الروح من أمر الله، واختصّ بعلمه دون سواه:
وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل .. ولكنَّ فيه توجيهاً لهذا العقل أن يعمل في حدود مجاله، الذي يدركه .. ولكنها سمات يهود! فلا جدوى من الخبط في التّيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه؛ لأنه لا يملك وسائل إدراكه .. !
والرّوح غيب من غيب الله لا يدركه سواه، وسرّ من أسراره القدسيّة أودعه هذا المخلوق البشري، وبعض الخلائق التي لا نعلم حقيقتها .. وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق .. وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود .. والإنسان لا يدبّر هذا الكون، فطاقته ليست شاملة .. إنما وهب منها بقدر محيطه، وبقدر حاجته ليقوم بالخلافة في الأرض، ويحقّق فيها ما شاء الله أن يحقق، في حدود علمه القليل!
ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع، ولكنه وقف حسيراً أمام ذلك السَّرّ اللطيف -الرّوح- لا يدري ما هو؟ ولا كيف جاء؟ ولا كيف يذهب؟ ولا أين كان؟ ولا أين يكون؟ إلا ما يخبر به العلم الخبير في التنزيل!
ويستمرّ في الحديث عن القرآن وإعجازه، بينما هم يطلبون خوارق مادّيّة،
ويطلبون نزول الملائكة، ويقترحون أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم بيت من زخرف أو جنّة من نخيل وعنب، يفجّر الأنهار خلالها تفجيراً! أو يفجّر لهم في الأرض ينبوعاً!! وأن يرقى هو في السماء، ثم يأتيهم مادّيّ يقرؤونه!
إلى آخر هذه المقترحات التي يصليها العنت والمكابرة -وكما هو شأن اليهود ومن على شاكلتهم- لا طلب الهدى والاقتناع!
ويردّ على هذا كله بأنه خارج عن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وطبيعة الرسالة، وبكل الأمر إلى الله .. ويتهكَّم على أولئك الذين يقترحون هذه الاقتراحات بأنهم لو كانوا يملكون خزائن رحمة الله -على سعتها وعدم نفادها- لأمسكوا خوفاً من الإنفاق! وقد كان حسبهم أن يستشعروا أن الكون وما فيه يسبّح الله!
والآيات الخارقة قد جاء بها موسى من قبل، فلم تؤدِّ إلى إيمان هؤلاء المتعنّتين؛ لأن كثرة الخوارق لا تنشئ الإيمان في القلوب الجامدة:
وهذا المثل من قصّة موسى وبني إسرائيل يذكر لتناسقه مع سياق السورة، وذكر المسجد الأقصى في أوّلها، وطرف من قصّة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام!
وكذلك يعقّب عليه بذكر الآخرة والمجيء بفرعون وقومه لمناسبة مشهد القيامة القريب في سياق السورة، ومصير المكذّبين!
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن والحق الأصيل فيه .. القرآن الذي نزل مفرّقاً ليقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم على القوم زمناً طويلاً بمناسبته ومقتضياته، وليتأثّروا به ويستجيبوا له استجابة حيّةً عمليةً، والذي يتلقاه الذين أوتوا العلم من قبله بالخضوع والتأثر إلى حدّ البكاء والسجود:
وهو مشهد مونع يلمس الوجدان .. ويرسم تأثير هذا القرآن في القلوب المتفتّحة لاستقبال فيضه .. العارفة بطبيعته وقيمته .. بسبب ما أوتيت من العلم قبله .. هذا المشهد الموحي للدَّين أوتوا العلم من قبله يعرضه السياق بعد تخيير القوم في أن يؤمنوا بهذا القرآن أو لا يؤمنوا!
يقول ابن كثير: قوله تعالى: {وإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِه} !
أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه، ولم يبدّلوه! (1)
فهل يفهم اليهود ذلك؟!
(1) تفسير ابن كثير: 3: 68، وانظر القرطبي: 10: 340، والكشاف: 2: 378، والماوردي: 2: 462.
من هذا العرض الموجز لمقاصد السورة يتبيّن لنا أن الحديث فيها -كما سبق- مسوق لإثبات رسالة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وحقيقة ما أنزل عليه .. وأن الذين يقترحون غيره من الآيات ما تأمّلوه وما عرفوه حقّ المعرفة، وأنهم إذا استمرّوا في هذا الإعراض سيصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم، وكذلك ما أصاب بني إسرائيل بعد فسادهم وإفسادهم في الأرض!
ثانياً: ما قاله من أن الآيات مكيّة، وأن المسلمين بمكة كانوا مستضعفين، فلم يكن لبني إسرائيل يومئذ صلة، ولا شأن مع المسلمين، ولم يكن لهم أثر بمكة يقتضي أن يتحدّث الله عنهم في سورة مكيّة بمثل هذا التفصيل
…
إلخ!
هذا القول نوافقه عليه في جملته، إلا أننا -كما يقول الدكتور طنطاوي (1) - نخالفه فيما ذهب إليه من أنه لم يكن لبني إسرائيل صلة بالمسلمين، تقتضي أن يتحدّث القرآن عنهم بمثل هذا التفصيل!
ومن أسباب مخالفتنا له، أن عدم وجود الصلة التجاريّة أو السكنيّة بين مسلمي مكّة واليهود، وعدم وجود الأثر أو الخطر، لا يقتضي أن يترك القرآن الكريم الحديث عن بني إسرائيل بالتفصيل، إذ هناك ما هو أهمّ من كل ذلك، وهو تشابه موقف أهل مكة واليهود من الدين الحق، فكلاهما قد وقف من الرسالات السماوية موقف الجاحد العاصي، فبيّن القرآن الكريم لأهل مكّة أن الله تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام لهداية بني إسرائيل، ولكنهم لم يعملوا بها، بل أفسدوا في الأرض، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً:
(1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 374 وما بعدها بتصرف.
فبنو إسرائيل حمّلو التوراة، وكلّفوا أمانة العقيدة والشريعة:
لأن حملها يبدأ بالإدارك والفهم والفقه، وينتهي بالعمل لتحقيق مدلولها في عالم الضمير، وعالم الواقع .. ولكن سيرة بني إسرائيل كما عرضها القرآن الكريم لا تدل على أنهم قدروا هذه الأمانة، ولا أنهم فقهوا حقيقتها، ولا أنهم عملوا بها -كما يشهد بذلك واقعهم قديماً وحديثاً- ومن ثم كانوا كالحمار يحمل الكتب الضخام، وليس له منها إلا الثقل، فهو ليس صاحبها، وليس شريكاً في الغاية منها!
وهي صورة رزيّة بائسة، ومثل سيّء شائن، ولكنها صورة معبِّرة عن حقيقة صادقة!
ومثل هؤلاء اليهود، هؤلاء الذين غبرت بهم أجيال كثيرة، والذين يعيشون في هذا الزمان، وهم يحملون أسماء، ويرفعون رايات، ولا يعملون عمل المسلمين .. وبخاصة أولئك الذين يقرؤون الكتب، ويقومون بدور العلّم والموجّه والمفكر والأستاذ -مهما كانت مناصبهم- وهم لا ينهضون بما تفرضه عليهم العقيدة، وهم كثيرون كثيرون، وهذا خلق يهود!
فليست المسألة مسألة كتب تحمل وتدرس، إنما هي مسألة فقه وعمل في الكتب! وحسبنا أن نذكر مثلاً للانحراف عن سوء الفطرة، ونقض لعهد الله المأخوذ عليها، ونكوص عن آيات الله بعد رؤيتها والعلم بها!
ذلك الذي آتاه الله آياته، فكانت في متناول نظره، وفكره، ولكنه انسلخ سنها، وتعرّى عنها، ولصق بالأرض، واتبع الهوى، فلم يستمسك بالميثاق
الأول، ولا بالآيات الهادية، فاستوى عليه الشيطان، وأمسى مطروداً من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن إلى قرار!
ولكن البيان القرآنيّ المعجز لا يصوغ المثل هذه الصياغة، إنما يصوّره في مشهد حيّ متحرّك، عنيف الحركة، شاخص السمات، بارز الملامح، واضح الانفعالات، يحمل كل إيقاعات الحياة الواقعة، إلى جانب العبارات الموحية:
روى عبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعام بن باعوراء، رواه شعبة وغير واحد عن منصور به ..
وتعدّدت الروايات وتنوَّعت فيمن هو!
قال ابن كثير: المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة إنما هو رجل من المتقدّمين في زمن بني إسرائيل، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف! (1)
وجاء في النار: والضمير في قوله {عَلَيْهِم} للناس المخاطبين بالدعوة، وأوّلهم كفَّار مكّة، والسورة مكيّة، وقيل: لليهود؛ لأن المثل تابع لقصة موسى في السورة! (2)
(1) تفسير ابن كثير: 2: 264 - 265 بتصرف.
(2)
تفسير المنار: 9: 405.
وعلى كل، فهو مثل ينطبق تمام الانطباق على اليهود ومن على شاكلتهم .. وعلينا أن نأخذ من الخبر ما وراءه (1)، فهو يمثل حالة الذين يكذبون بآيات الله بعد أن تبيّن لهم فيعرفوها، ثم لا يستقيموا عليها!
وما أكثر ما يتكرّر هذا النبأ في حياة البشر -وبخاصة اليهود- ما أكثر الذين يُعطون علم دين الله، ثم لا يهتدون به، إنما يتّخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى به .. هواهم وهوى المتسلّطين الذين يملكون لهم -في وهمهم- عرض الحياة الدنيا .. وهو خلق يهود ومن على شاكلتهم!
وكم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله، ثم يزيغ عنها، ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المطلوبة لسلطان الأرض الزائل! يحاول أن يثبّت بها هذا السلطان المعنوي على سلطان الحق وحرماته في الأرض جميعاً!
لقد رأينا من هؤلاء من يدعو للطواغيت الذين يدّعون حق التشريع ويبارك الجاهليّة .. ويخلع على هذا الفجور رداء الدّين وشاراته وعناوينه!
فماذا يكون هذا إلا أن يكون مصداقاً لنبأ الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين؟!
وماذا يكون هذا إلا أن يكون المسخ الذي يسجّله القرآن على صاحب هذا النبأ:
(1) في ظلال القرآن: 3: 1397 بتصرف.
ولو شاء الله لرفعه بما آتاه من العلم بآياته .. ولكنه سبحانه لم يشأ؛ لأن ذلك الذي علم الآيات أخلد إلى الأرض واتبع هواه ولم يتبع الآيات!
إنه مثل كل من آتاه الله من العلم، فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعاً ذليلاً ذيلاً للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان، وهو خلق يهود، ومن على شاكلتهم!
ثم ما هذا اللهاث الذي لا ينقطع؟!
إنه -في حسّنا كما توجيه إيقاعات هذا النبأ وتصوبر مشاهده في القرآن- ذلك اللهاث وراء أعراض هذه الحياة الدنيا التي من أجلها ينسلخ الذين يؤتيهم الله آياته فينسلخون منها .. وذلك اللهاث القلق الذي لا يطمئن أبداً .. والذي لا يترك صاحبه، سواء وعظته أم لم تعظه، فهو منطلق فيه أبداً، وهو خلق يهود، ومن على شاكلتهم!
والحياة البشريّة ما تني تطلع علينا بهذا الله في كل زمان وفي كل مكان، وفي كل جيل وفي كل قبيل .. حتى إنه لتمرّ فترات كثيرة وما تكاد العين تقع إلا على هذا المثل .. فيما عدا الندرة ممن عصم الله ممن لا ينسلخون من آيات الله، ولا يخلدون إلى الأرض، ولا يتبعون الهوى، ولا يستذلهّم الشيطان، ولا يلهثون وراء الحطام الذي يملكه أصحاب السلطان!
فهذا مثل لا ينقطع وروده ووجوده، وما هو بمحصور في قصّة وقعت، في جيل من الزمان، فهو خلق يهود، ومن على شاكلتهم!
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتلو هذا النبأ على قومه الذين كانت تتنزّل عليهم آيات الله، كي لا ينسلخوا منها وقد أوتوها .. ثم ليبقى من بعده ومن
بعدهم يتلى، ليحذر الذين يعلمون من علم الله شيئاً أن ينتهوا إلى هذه النهاية البائسة، وأن يصيروا إلى هذا اللهاث الذي لا ينقطع أبداً، وأن يظلموا أنفسهم ذلك الظلم الذي لا يظلمه عدوّ لعدو، فإنهم لا يظلمون إلا أنفسهم بهذه النهاية النكدة!
إنه مشهد من المشاهد العجيبة، الجديدة كل الجدة على ذخيرة هذه اللغة من التصوّرات والتصويرات .. إنسان يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والاتصال والارتفاع .. ولكن ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً .. ينسلخ كأنما الآيات أديم له متلتس بلحمه، فهو ينسلخ منها بعنف وجهد ومشقّة، انسلاخ الحيّ من أديمه اللاصق به .. لأنه يهوديّ الخلق!
أو ليست الكينونة البشريّة متلبّسة بالإيمان بالله تلبّس الجلد بالكيان؟!
ومع هذا، ها هو ذا ينسلخ من آيات الله، ويتجرّد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، وينحرف عن الهُدى ليتبع الهوى، ويهبط من الأفق المشرق فيلتصق بالطّين المعتم، فيصبح غرضاً للشيطان، لا يقيه منه واقع ولا يحميه منه حام، فيتبعه ويلزمه ويستحوذ عليه؛ لأنه يهوديّ الخلق!
ثم إذا نحن أولاء، أمام مشهد مفزع بائس نكد .. إذا نحن بهذا المخلوق لاصقاً بالأرض، ملوّثاً بالطّين! ثم إذا هو مسخ في هيئة الكلب، يلهث إن طورد، ويلهث إن لم يطارد!
كل هذه المشاهد المتحرّكة تتتابع وتتوالى، والخيال شاخص يتبعها في انفعال وانبهار وتأثّر .. فإذا انتهى المشهد الأخير منها .. مشهد اللهاث الذي لا ينقطع .. مع التعليق المرهوب الموحي على المشهد كله:
ذلك مثلهم! فلقد كانت آيات الهدى وموحيات الإيمان متلبّسة بفطرتهم وكيانهم وبالوجود كله من حولهم .. ثم إذا هم ينسلخون منها انسلاخاً .. ثم إذا هم أمساخ شائهو الكيان، هابطون عن مكان الإنسان، إلى مكان الحيوان .. مكان الكلب الذي يتمرَّغ في الطّين .. وكان لهم من الإيمان جناح يرفون به إلى علّيّين .. وكانوا من فطرتهم الأولى في أحسن تقويم، فإذا هم ينحطون إلى أسفل سافلين:
{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)} !
وهل أسوأ من هذا المثل؟!
وهل أسوأ من الانسلاخ والتعرّي من الهدى؟!
وهل أسوأ من اللصوق بالأرض واتباع الهوى؟!
وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟!
من يعرّيها من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، ويدعها غرضاً للشيطان يلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاصق بالأرض، الحائر القلق اللاهث لهاث الكلب أبداً!
حقاً، إنه خلق يهود، ومن على شاكلتهم!
وقد ترتَّب على ذلك أن سلّط الله عليهم من يذلهّم بسبب فسوقهم عن أمر
الله (1)، فإذا ما سار أهل مكة على هذا الطريق المعوج الذي سار عليه بنو إسرائيل بعد أن جاءهم خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم بالهُدى ودين الحق، فسيصيبهم من العقاب ما أصابهم!
وهذا التفصيل الذي تحدّث القرآن به هنا عن بني إسرائيل، قد جاء ما هو أطول منه بكثير في سور مكّية، كسور: الشعراء، والأعراف، وطه، والقصص، وغير ذلك من السور المكّية التي تحدّثت عنهم باستفاضة!
وإذن فهناك مقتضى لهذا الحديث المفصّل عن بني إسرائيلَ في سورة الإسراء المكّيّة، وهو تماثل موقف أهل مكّة وبني إسرائيل من الدّين الحق، ومخالفة الفريقين لشريعة سماويّة خالدة، هي شريعة الإِسلام، لا لقانون وضعي أو لعرق دنيوي، وتبشير المسلمين بحسن العقبى، لاستجابتهم لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: قال في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} !
لا تنطبق هذه المرّة تمام الانطباق الأعلى الذين قاموا به على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وما عاقبهم الله به، وسلّط عليهم فيه
…
إلخ!
ونحن لا نوافقه فيما ذهب إليه، للأسباب التالية:
1 -
الذي عليه المفسّرون أن المراد بالأرض في قوله تعالى: {وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ في الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} !
أرض الشام التي كان يسكنها اليهود وقت نزول التوراة، وليس المراد بها أرض الجزيرة العربية؛ لأنها -كما سبق- لم تكن سكناً لهم عند نزول التوراة!
2 -
نحن نعرف أنه قد حصل منهم إفساد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف
(1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 3: 385 وما بعدها بتصرف.
-ولكن هذا الإفساد-رغم ضراوته- كان دون ما قاموا به من إفساد قبل ذلك، بدليل أن الحق تبارك وتعالى قد نعى عليهم في القرآن الكريم، رذائل كثيرة اقترفوها!
منها أنهم قتلوا قبل بعثة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم بعض أنبياء الله، وحاولوا قتل عيسى عليه السلام، واتخذوا لذلك كل الطرق والوسائل، إلا أنهم لم يفلحوا في مسعاهم لأسباب خارجة عن إرادتهم!
وإذن فإفسادهم في الأرض قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كان أشدّ وأفحش من إفسادهم بعد بعثته صلى الله عليه وسلم!
3 -
إفسادهم في الأرض في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، كان يأخذ في غالبه طابع النفاق والمخادعة، وعدم المجاهرة، خوفاً من المسلمين، عدا ما حدث من معارك خيبر، أما إفسادهم قبل ذلك فكان يأخذ طابع الظلم الصريح، والعصيان الواضح، والطغيان المعتمّد، كما يفيده قوله تعالى:{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)} !
وهذا يدل على أن المقصود بإفسادهم في الأرض مرّتين ما كان منهم قبل بعثة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم!
4 -
قوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)} ! هذا العلوّ الكبير الذي وصفتهم به الآية الكريمة لا ينطبق على حالهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد أصحابه رضي الله عنهم؛ لأن اليهود في هذه الفترة كانوا يمثّلون جزءاً من اليهود المنتشرين في الأرض، وبلغ بهم ضعف الحال أن بعضهم انضمَّ إلى طائفة الخزرج، وبعضهم انضم إلى طائفة الأوس -كما سيأتي- فإذا ما حصل قتال بين
الطائفتين قاتل حلفاء الخزرج من اليهود إخوانهم المنضميّن إلى الأوس، وقاتل حلفاء الأوس من اليهود إخوانهم أبناء عمومتهم حلفاء الخزرج، وقد بيّن القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى:
وإذن فقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا} ! عقب قوله تعالى: {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)} ! ينطق على أدوار الفساد الكبيرة التي قاموا بها قبل الإِسلام أيّام أن طغوا وبغوا وعلوا علوًّا كبيراً في الأرض!
5 -
ما أصابهم من عقوبات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أصحابه رضي الله عنهم، جزاء غدرهم شيء هيّن بالنسبة لما أصابهم من عقوبات قبل ذلك، على أيدي البابليّين والرومان وغيرهم؛ لأن ما أصابهم في العهد النبويّ كان عدلاً، وكان يختلف من موقف إلى آخر، وكان في الوقت ذاته ينطبق على الجزء الخاص الذي يستحق ذلك ممن يسكن الجزيرة من اليهود -كما سيأتي- بينما العقوبات التي نزلت بهم قبل ذلك، على أيدي البابليّن والرّومان -مثلاً- كانت لليهود الذين كانوا متجمّعين في منطقة واحدة، هي أرض الشام!
ثم إن العقوبات التي أنزلها المسلمون بهم في صدر الإِسلام، كانت في أوقات متفرّقة، وكانت على قدر إساءة المسيء منهم!
ومن هذا ترى أن ما قام به اليهود من إفساد وفي المرّة الأولى ينطبق على الدور الذي قاموا به قبل الإِسلام، وأن العباد الذين سلّطهم الله عليهم لإذلالهم بسبب فسادهم وإفسادهم كانوا أيضاً قبل الإِسلام!
رابعاً: جزم بأن المعاقبين لليهود في المرّة الأولى لا تنطبق أوصافهم إلا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم الذين يستحقون شرف هذه النسبة .. وهم الذين لم يكلفهم تأديب اليهود إلا أن جاسوا خلال الديار، أما أتباع (بخت نصر) فقد ذكروا أنه قتل على دم زكريّا وحده سبعين ألفاً .. فهو اجتياح وليس جوساً!
ونحن نخالفه في ذلك لأمور، أهمها:
أ- أن الناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم عباد الله تعالى، والذين سلّطهم الله على بني إسرائيل لإذلالهم بعد إفسادهم الأوّل هم عباد لله مع كفرهم!
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى:
ففي هذه الآية نسب الله تعالى العباد إلى نفسه بصيغة العموم التي تشمل مؤمنهم وكافرهم، وهناك آيات أخرى نسب الله فيها العباد جميعاً إلى ذاته، سواء أكانوا مؤمنين أم كافرين! (1)
ب- يقول: وهم الذين لم يكلّفهم تأديب اليهود إلا أن جاسوا خلال الديار .. ولم يبيّن لنا معنى الجوس عنده، إلا أن الذي يفهم من كلامه أن الجوس -في رأيه- معناه التردّد بين الدور والمساكن بدون قتال يُذكر!
وهذا التفسير للجوس -في رأينا- يأباه سياق الآيات، ومخالف للمشهور عن أئمّة التفسير واللغة!
(1) انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (عبد).
أمّا أنه يأباه سياق الآيات، فلأن الآية تذكر أن فساداً كبيراً، وطغياناً عظيماً يقع من بني إسرائيل في المرّة الأولى من مرّتي إفسادهم، وأنهم بعد ذلك يؤدّبون على إفسادهم، بأن يبعث الله عليهم عباداً له أقوياء، وقد بيّن الله تعالى مهمّة هؤلاء العباد فقال:{فَجَاسوا خِلالَ الدّيَارِ} !
أي فتردّدوا بين مساكنكم يا بني إسرائيل، لقتلكم ولسلب أموالكم، ولتخريب دياركم، وهذا ينطبق على ما نزل باليهود من عقوبات عامّة مدمّرة قبل الإِسلام، على يد البابليّين، والرومان وغيرهم، ولا ينطبق على العقوبات التي أنزلها المسلمون بهم في العهد النبويّ؛ لأنها كانت عقوبات تتّسم بالعدالة -كما هو معلوم- إذ لم تتناول إلا مَن يستحقّها منهم!
وأمّا أنه مخالف للمشهور عن أئمّة التفسير واللغة في معنى الجوس، فإليك الدليل:
1 -
قال ابن جرير: وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معنى جاسوا: قتلوا، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان:
ومنّا الذي لاقى بسيف محمَّد
…
فجاس به الأعداء عُرض العسكر
قال: وجائز أن يكون معناه: فجاسوا خلال الدّيار، فقتلوهم ذاهبين وجائيين! (1)
قال القرطبي: فجمع بين قول أهل اللغة! (2)
(1) تفسير الطبري: 15: 27 - 28.
(2)
تفسير القرطبي: 10: 216.
2 -
وقال صاحب الكشاف: وأسند الجوس -وهو التردّد خلال الدّيار بالفساد- إليهم، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم! (1)
3 -
وقال البيضاوي: {فَجَاسُوا} ! تردّدوا لطلبكم {خِلالَ الدِّيَارِ} ! وسطها للقتل والغارة، فقتلوا كبارهم، وسبوا صغارهم، وحرقوا التوراة، وخرَّبوا المسجد! (2)
4 -
وقال ابن منظور: الجوس مصدر عباس جوساً وجوَساناً: تردّد، وفي التنزيل العزيز:
أي تردّدوا بينها للغارة، وهو الجوسان!
وقال القراء: قتلوكم بين بيوتكم!
وقال الزجاج: أي فطافوا في خلال الدّيار ينظرون، هل بقي أحد لم يقتلوه؟ (3)
وبهذا يتبيَّن أن الجوس معناه هنا التردّد للقتل والإفساد!
ثم على فرض التسليم برأيه في معنى الجوس، لنا أن نتساءل: هل المسلمون لم يكلفهم تأديب اليهود إلا أن جاسوا خلال الدّيار؟!
الذي يبدو أن المسلمين كلفهم تأديب اليهود أكثر من ذلك؛ لأنهم بالنسبة
(1) تفسير الكشاف: 2: 352.
(2)
تفسير البيضاوي: 371.
(3)
لسان العرب (جوس) وانظر: تاج العروس، والمعجم الوسيط.
لبني قينقاع -كما سيأتي- حاصروهم بضعة عشر يوماً، وأجلوهم عن المدينة بعد مفاوضات ومجادلات!
وبالنسبة لبني النضير حاصرهم المسلمون -كما سيأتي- حتى اضطرّوهم إلى الجلاء عن المدينة!
وبالنسبة لبني قريظة حاصرهم المسلمون -كما سيأتي- ثم قتلوا المقاتلين!
وبالنسبة ليهود خيبر دارت معارك ضارية -كما سيأتي- انتهت بالقضاء عليهم عسكرياً!
فتأديب اليهود كلّف المسلمين أكثر من جوس الديار بالمعنى الذي يراه!
جـ- قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} !
يفيد أن المسجد يؤخذ من أيدي اليهود عنوة، ومن يأخذه يخربه ويهدمه، وهذه الأوصاف والأعمال تنطبق على البابليّين والرّومان وغيرهم؛ لأنهم عندما دخلوا أورشليم قبل الإِسلام دمّروها وهدموا هيكلها!
أما المسلمون فإنهم عندما فتحوا فلسطين -كما سيأتي- في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 15 هـ 636 م، لم يكن لليهود أثر فيها، ولم يأخذوا المسجد الأقصى منهم، وإنما أخذوه من النصارى، وهم الرومان يومئذ، الذين كانوا قد استولوا على بلاد الشام مئات السنين، ثم بعد أن دخلوا أزالوا معالم الوثنيّة والشرك، وطهّروه للعابدين، ولم يحصل من المسلمين تخريب أو تدمير لمسجد أو غيره من بلاد الله كما يفيده قوله تعالى:{وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} !
وإذن فالعباد الذين سلّطهم الله علي بني إسرائيل بعد إفسادهم الأوّل في
الأرض، تنطبق أوصافهم وأعمالهم وعقوباتهم المدمّرة لبني إسرائيل على العباد الذين أذلوهم قبل الإِسلام، كالبابليّن والرّومان، ولا تنطبق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما قال!
خامساً: تحدّث تحت عنوان: (ردّ الكرة)!، فقال: قال تعالى:
ردّت ليهود الكرّة علينا بعد ألف وثلائمائة ونيّف وسبعين من تأديب الله لهم، منذ بعث عليهم عباده المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاسوا خلال الديار
…
إلخ!
ونحن لا نوافقه لأمور منها:
أ- أن قوله تعالى: {ثمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} ! يفيد أنه حسنت حالهم، وتركوا ما هم عليه من فساد وإفساد، حتى ردّ الله لهم الكرّة على عدوّهم، وتلك سنّة الله في خلقه، ينصر من تاب إليه وأناب، وهذا المعنى الذي تفيده الآية لا يمكن أن يوسف به اليهود في عصرنا؛ إذ هم مازالوا على فسادهم وإفسادهم وكفرهم وطغيانهم، ولكن يمكن أن توصف به القلّة المؤمنة التي أطاعت طالوت وقاتلت معه -كما أسلفنا-، وأيّدت داود عليه السلام وناصرته، وقالت عندما برزت لجالوت وجنوده: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللهِ
…
" (البقرة: 251)!
وإذن فقوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} ! أكثر ما يكون انطباقاً على بني إسرائيل الذين قاتلوا مع طالوت بعزيمة صادقة، وإيمان راسخ، وصبر جميل، ولهذا نصرهم الله على أعدائهم!
ب- ما قاله من أن اليهود ردّت لهم الكرّة علينا، وأمدّوا بثلاث، ما أمدّوا في تاريخهم بمثلها!
بأموال تتدفَّق عليهم من أقطار الأرض!
وبنين مهاجرين ومقاتلين!
وكثرة الناصر لهم
…
إلخ!
ينطبق على حالهم في عهد داود عليه السلام -كما أسلفنا- لأنهم في ذلك العهد أمدّهم الله بالأموال الكثيرة، والبنين، وصاروا أكثر عدداً من أعدائهم، ولعلّنا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا: إن عهد حكم داود وسليمان عليهما السلام لبني إسرائيل هو العهد الذهبي الوحيد لهم طول حياتهم!
أمّا ما جاء بعد ذلك من تاريخ بني إسرائيل إلى وقتنا الحاضر، فما هو إلا سلسلة من المآسي والنكبات -كما عرفنا وكما سيجيء- وسيستمر احتقار العالم لهم، وكرهه إيّاهم، وانتقامه منهم إلى يوم القيامة، وإن بدا في عصرنا هذا أنه متعاطف معهم ومساند لباطلهم، وذلك بسبب أنانيتهم وسعيهم في الأرض فساداً، وقد صرح القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُم سُوءَ الْعَذَابِ} (الأعراف: 167)!
هذا، وإن اليهود مهما أمدّوا وأُعينوا من دول الكفر الكبرى فهم ليسوا أكثر أبناء ولا نفيراً منا نحن المسلمين، وليسوا أيضاً أكثر أموالاً منا إذا وازنا بين ما نملكه
من ثروات فوق الأرض وتحتها، ومن قدرة على العمل الذي يجلب المال بحكم كثرة العدد، لو أحسنا التصرّف فيما نملك!
وعندما يطبق المسلمون تعاليم الإِسلام تطبيقاً كاملاً، ويؤدّون رسالتهم في الحياة كما أمرهم الله، ويحسّون الشعور بالمسؤوليّة، ويراقبون الله في كل تصرّفاتهم، عندما ما يكونون كذلك يفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض!
سادساً: يقول: وقد قرّر سبحانه أنه سيجمعهم ألفافاً لنبيدهم، فقال:{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} !
ويبدو بوضوح أنه يفسر {الآخِرَةِ} هنا بمعنى المرّة الآخرة من مرّتي إفسادهم .. وهو مخالف لأقوال المفسّرين.
قال ابن جرير: (1) فإذا جاءت الساعة، وهي وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً!
يقول: حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة لفيفاً: أي مختلطين، قد التفّ بعضكم ببعض، لا تتعارفون، ولا ينحاز أحد منكم إلى قبيلته وحيّه!
وقال القرطبي: (2){فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} ! أي القيامة: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} !
أي من قبوركم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر لا يتعارفون!
وقال صاحب الكشاف: (3){فإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَة} ! يعني قيام الساعة!
(1) تفسير الطبري: 5: 176 - 177.
(2)
تفسير القرطبي: 10: 338.
(3)
تفسير الكشاف: 2: 377.
{جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} ! جميعاً مختلطين إيّاكم وإيّاهم، ثم يحكم بينكم، ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم!
وقال القاسمي: (1) أي قيام الساعة!
سابعاً: يقول في صدر مقاله: وأبادر فأطمئن الذين يهولهم هذا التخريج فيروله مخالفاً للمأثور والمعروف من أقوال المفسّرين إلى أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، وإلى أن المأثور عن بعض الصحابة مضطرب لا تقوم به حجة، وإلى أن الأمر لا يعدو أن يكون تاريخاً أو تأويلاً، لا يقال في مخالفته إنه تحريف للكلم عن مواضعه!
وهذا القول نردّ عليه -أولاً- بأنه خروج عن ظاهر القرآن، بل عن صريحه الذي لا يمكن للمتأمل أن يفهم غيره، وهو أن المراد من الكتاب في قوله تعالى:{وَقضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ في الْكِتَابِ} !
هو التوراة، لا القرآن الكريم .. وهذا -كما سبق- هو قول جمهور المفسّرين!
والخروج عن النصوص الصريحة يعد مجافاة للحق، ولا ينبغي للمسلم أن يتجاوز مدلول الألفاظ القرآنيّة ويخرج عما تقتضيه معانيها!
ونردّ عليه- ثانياً- بأن ذلك لا يساعد عليه التاريخ الصحيح -كما أسلفنا-، فإذا ضممنا إلى ذلك أن الآيات تفيد أن ردّ الكرة لليهود يكون نتيجة صلاح في الدين، وإحسان في العمل، وتوبة من الآثام .. كان استيلاء اليهود اليوم على فلسطين نتيجة لذلك!
(1) تفسير القاسمي: 10: 4008.