المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوّة بأس الذين كفروا يومذاك، - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوّة بأس الذين كفروا يومذاك،

وإيحاء هذه الكلمات واضح عن قوّة بأس الذين كفروا يومذاك، والمخاوف المبثوثة في الصفّ المسلم .. وربما كان هذا بين (أُحُد) و (الخندق) عن قوّة بأس الذين كفروا -كما سيأتي- وأحرج الأوقات التي مرّت بها الجماعة المسلمة في (المدينة)، بين المنافقين، وكيد اليهود (1)، وتحفّز المشركين، وعدم اكتمال التصوّر الإِسلامي ووضوحه وتناسقه بين المسلمين!

‌المعلم الثالث:

كذلك تبرز لنا حاجة النفس البشريّة، وهي تدفع إلى التكاليف التي تشقّ عليها، إلى شدّة الارتباط بالله وشدّة الطمأنينة إليه، وشدّة الاستعانة به، وشدّة الثقة بقدرته وقوّته .. فكل وسائل التقوية غير هذه لا تجدي، حين يبلغ الخطر قمته .. وهذه كلها حقائق نبصرها في المنهج الرباني .. والله هو الذي خلق هذه النفوس، وهو الذي يعلم كيف تربّى، وكيف تقوّى، وكيف تستجيب!

‌زلزال شديد:

ومعلوم أن الشخصيّة المسلمة تصاغ في معترك الحياة ومصطرع الأحداث (2)، ويوماً بعد يوم، وحدثاً بعد حدث تنضج وتنمو، وتتضح سماتها .. و (الجماعة المسلمة) تبرز إلى الوجود بمقوّماتها الخاصّة، وقيمها الخاصّة، وطابعها المميّز بين سائر الجماعات!

وكانت الأحداث تشتدّ على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً درجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب -كما أسلفنا- تفصل بين الجوهر الأصيل

(1) انظر كتابنا: "الرسول صلى الله عليه وسلم واليهود وجهاً لوجه" أربعة أجزاء.

(2)

السابق: 5: 2831 وما بعدها بتصرف.

ص: 1232

والزَبَد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تعود خليطاً مجهول القيم!

وكان القرآن الكريم يتنزّل في إبان الابتلاء أو بعد انقضائه، يصوّر الأحداث، ويلقي الأضواء على منحنياته وزواياه، فتنكشف المواقف والمشاعر، والنوايا والضمائر .. ثم يخاطب القلوب وهي مكشوفة في النور، عارية من كل رداء وستار .. ويلمس فيها مواضع التأثّر والاستجابة، ويربيّها يوماً بعد يوم، وحادثاً بعد حادث، ويرتّب تأتّراتها واستجاباتها وفق منهجه الرباني!

ولم يترك المسلمون لهذا القرآن، يتنزّل بالأوامر والنواهي وبالتشريعات والتوجيهات جملة واحدة، إنما أخذهم الله بالتجارب والابتلاءات، والفتن والامتحانات، فقد علم الله أن هذه الخليقة البشريّة لا تصاغ صياغةً سليمةً، ولا تنضج نضجاً صحيحاً، ولا تصح وتستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبيّة الواقعيّة، التي تحفر في القلوب، وتنقش في الأعصاب. وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث!

إنه يتنزّل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته، وليوجه تلك القلوب وهي منصهرةٌ بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة!

ولقد كانت فترة عجيبة حقًّا، تلك التي قضاها المسلمون في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم .. فترة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً، مبلوراً في أحداث وكلمات .. ذلك حين كان يبيت كل مسلم وهو يشعر أن عين الله عليه، وأن سمع الله إليه، وأن كلّ كلمة منه وكلّ حركة، بل كلّ خاطر وكلّ نيّة، قد

ص: 1233

يصبح مكشوفاً للناس، يتنزّل في شأنه قرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وحينئذ كان كل مسلم يحسن الصلة المباشرة بينه وبين ربّه، فإذا حزبه أمر، أو واجهته معضلة، انتظر أن تفتح أبواب السماء غداً أو بعد غد ليتنزّل منها حلّ لمعضلته، وفتوى في أمره، وقضاء في شأنه .. وحينئذ كان الله بذاته العلية يقول: أنت يا فلان بذاتك قلت كذا، وعملت كذا، وأضمرت كذا، وأعلنت كذا، وكن كذا، ولا تكن كذا .. ويا له من آمر هائل عجيب! .. يا له من أمر هائل عجيب أن يوجّه الله خطابه المعيّن إلى شخص معين .. هو وكل من على هذه الأرض وكل ما في هذه الأرض، وكل هذه الأرض ذرّة صغيرة في ملك الله الكبير!

لقد كانت فترة عجيبة حقًّا، يتملاها الإنسان اليوم، ويتصوّر حوادثها ومواقفها، وهو لا يكاد يدرك كيف كان ذلك الواقع أضخم من كل خيال!

ولكن الله لم يدع المسلمين لهذه المشاعر وحدها تربيّهم، وتنضج شخصيّتهم المسلمة، بل أخذهم بالتجارب الواقعيّة، والابتلاءات التي تأخذ منهم وتعطي، وكل ذلك لحكمة يعلمها، وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (الملك)!

هذه الحكمة تستحق أن نقف أمامها طويلاً، ندركها ونتدبّرها، ونتلقّى أحداث الحياة وامتحاناتها على ضوء ذلك الإدراك وهذا التدبير!

ولنا حديث خاص عن (غزوة الأحزاب) نذكر فيه كيف كان الامتحان لـ (الجماعة المسلمة) الناشئة، وتذكير المؤمنين بنعمة الله عليهم في ردّ الجيش الذي همّ أن يستأصلهم، لولا عون الله وتدبيره اللطيف، قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا

ص: 1234

عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)} (الأحزاب)!

وهنا نبصر القيم الثابتة، والسنن الباقية، التي لا تنتهي بانتهاء الحادث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، ولا تنقضي بانقضاء الملابسات .. ومن ثم تبقى قاعدةً ومثلاً لكل جيل ولكل قبيل .. ونبصر ربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص .. ونبصر الكشف عن سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبّات الضمائر، والأسرار والنوايا والخوالج المستكنّة في أعماق الصدور.

ونبصر القرآن مُعدًّا للعمل في كل وسط بعد ذلك، وفي كل تاريخ .. معدًّا للعمل في النفس البشريّة كلّما واجهت مثل ذلك الحادث أو شبهه في الآماد الطويلة، والبيئات المنوّعة عبر التاريخ!

ص: 1235

ونبصر تحوّل النصوص القرآنيّة إلى قوى وطاقات .. تعمل في واقع الحياة، وتدفع إلى حركة حقيقية في عالم الضمير!

إن هذا القرآن ليس كتاباً للتلاوة ولا للثقافة .. وكفى .. إنما هو رصيد من الحيوية الدافعة، وإيحاء متجدّد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيّأة للعمل في كل لحظة، متى وجدت القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السرّ العجيب!

وإن الإنسان ليقرأ النصّ القرآني مئات المرّات، ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النصّ القرآنيّ جديد، يوحي إليه بما لم يودع من قبل قطّ، ويجيب على السؤال الحائر ويفتي في المشكلة المعقّدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه المقاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه، وإلى الاطمئنان العميق!

وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث!

وفي الآيات التي معنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)} ! نبصر بدء المعركة وختامها، والعناصر الحاسمة فيها .. مجيء جنود الأعداء، وإرسال الريح .. والجنود التي لم يرها المؤمنون، ونصر الله المرتبط بعلم الله بهم، وبصره بعملهم .. ثم يأخذ بعد هذا الإجمال في التفصيل والتصوير:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)} !

ص: 1236

إنها صورة الهول الذي روّع المدينة، والكرب الذي شملها، والذي لم ينج منه أحد من أهلها .. وقد أطبق عليها المشركون من قريش وغطفان، واليهود من بني قريظة، من كل جانب، من أعلاها ومن أسفلها، فلم يختلف الشعور بالكرب والهول في قلب عن قلب، وإنما الذي اختلف هو استجابة تلك القلوب، وظنّها بالله، وسلوكها في الشدّة، وتصوّراتها للقيم والأسباب والنتائج .. ومن ثم كان الابتلاء كاملاً، والامتحان دقيقاً، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين حاسماً لا تردّد فيه!

وننظر اليوم فنرى الموقف بكل سماته، وكل انفعالاته، وكل خلجاته. وكل حركاته، ماثلاً أمامنا، كأننا نراه من خلال هذا النصّ القصير!

ننظر فنرى الوقف من خارجه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} !

ثم ننظر فنرى أثر الوقف في النفوس: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} !

وهو تعبير مصوّر لحالة الخوف والكربة والضّيق، يرسمها بملامح الوجوه وحركات القلوب:{وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)} !

ولا يفصّل هذه الظنون، ويدعها مجملة ترسم حالة الاضطراب في المشاعر والخوالج، وذهابها كل مذهب، واختلاف التصوّرات في شتّى القلوب!

ثم تزيد سمات الوقف بروزاً، وتزيد خصائص الهول فيه وضوحاً:{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} !

والهول الذي يزلزل المؤمنين لابدّ أن يكون هولاً مروّعاً رعيباً!

ص: 1237

ولقد كان أشدّ الكرب على المسلمين، وهم محصورون بالمشركين داخل الخندق، ذلك الذي كان يجيئهم من انتقاض بني قريظة عليهم من خلفهم، فلم يكونوا يأمنون في أيّة لحظة أن ينقض عليهم المشركون من الخندق، وأن تميل عليهم يهود، وهم قلّة بين هذه المجموع، التي جاءت بنيّة استئصالهم في معركة حاسمة أخيرة!

ذلك كله إلى ما كان من كيد المنافقين والمرجفين في المدينة وبين الصفوف: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)} !

فقد وجد هؤلاء في الكرب المزلزل، والشدّة الآخذة بالخناق فرصةً للكشف عن خبيئة نفوسهم وهم آمنون من أن يلومهم أحد، وفرصة للتوهن والتخذيل وبثّ الشكّ والرّيبة في وعد الله ووعد رسوله، وهم مطمئنون أن يأخذهم أحد بما يقولون، فالواقع بظاهره يصدّقهم في التوهن والتشكيك .. وهم مع هذا منطقيّون مع أنفسهم ومشاعرهم، فالهول قد أزاح عنهم ذلك الستار الرقيق من التجمّل، وروع نفوسهم ترويعاً لا يثبت له إيمانهم المهلهل! فجهروا بحقيقة ما يشعرون غير مبقين ولا متجمّلين!

ومثل هؤلاء المنافقين والمرجفين قائمون في كل جماعة، وموقفهم في الشدّة هو موقف إخوانهم هؤلاء، فهو نموذج مكرّر في الأجيال والجماعات على مدار الزمان:{وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)} !

ونبصر صورة نفسيّة لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض .. صورة

ص: 1238

نفسيّة داخليّة لوهن العقيدة، وخور القلب، والاستعداد للانسلاخ من الصفّ بمجرّد مصادفة، غير مبقين على شيء، ولا متجمّلين لشيء:{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)} !

هكذا يكشفهم القرآن، ويقف نفوسهم عارية من كل ستار .. ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد، وخلف الوعد، ومع من؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا، ثم لم يراعوا معِ الله عهداً:{وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15)} !

ويقرّر القرآن إحدى القيم التي يقرّرها في أداتها، ويصحح التصوّر الذيِ يدعوهم إلى نقض العهد والفرار:{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)} !

إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر، يدفعها في الطريق المرسوم، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة، والموت أو القتل قدر لا مفرّ من لقائه، في موعده، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر .. ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فارّ، فإذا فرّوا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب، في موعده القريب، وكل موعد في الدنيا قريب، وكل متاع فيها قليل، ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته، سواء أراد بهم سوءاً أم أراد بهم رحمة، ولا مولى لهم ولا نصير، من دون الله، يحميهم ويمنعهم من قدر الله!

فالاستسلام الاستسلام، والطّاعةَ الطّاعةَ، والوفاءَ الوفاء بالعهد مع الله، في السرّاء والضرّاء، ورجع الأمر إليه، والتوكّل الكامل عليه!!!

ص: 1239