الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصلابته، وكان هذا على يد ذي القرنين قبل أن يعرف العلم البشري ذلك بقرون لا يعلم عددها إلا الله تعالى، وحيث يتمثّل النموذج الطيب للحاكم الصالح، الذي سار في الأرض شرقاً وغرباً، دون أن يتكبّر أو يتجبّر، ودون أن يطغى أو يتبطّر، ودون أن يتخذ من الفتوح وسيلة للغنم المادي، واستغلال الأفراد والشعوب، ودون أن يعامل الشعوب معاملة الرقيق، كما يفعل المستعمرون في عالمنا المعاصر شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً .. وإنما قام هذا الرجل الصالح، الخبير في بناء السدّ، ينشر العدل، ودرء العدوان، والدعوة إلى التخطيط العلميّ الفذ، والعمل المتقن، والإنتاج والإبداع!
ولسنا في حاجة إلى بيان مكانة التخطيط في الدعوة، والهجرة، والجهاد .. فذلك ما سنعرض له في حينه بعون الله تعالى وتوفيقه!
8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم
-:
وإذا كانت تلك الآيات قد حملت إلينا الإجابة على تلك الأسئلة -كما عرفنا- فلماذا لم يؤمن اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وهنا يطالعنا إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله ابن إسحاق (1): حدثني عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا:
(إن مما دعانا إلى الإسلام، مع رحمة الله تعالى وهداه لنا، لمَا كنا نسمع من رجال يهود، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون
(1) ابن هشام: 1: 270.
قالوا لنا: إنه قد تقارب زمان نبيّ يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيراً ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم أجبناه، حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعّدوننا به، فبادرناهم إليه، فآمنَّا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزّل هؤلاء الآيات من البقرة:
وقال: وحدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود ابن لبيده أخي بني عبد الأشهل، عن سلمة بن سلامة بن وقش، وكان سلمة من أصحاب بدر، قال:
كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوماً من بيته، حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ من أحدث من فيه سنًّا، عليّ بردة لي، مضطجع فيها بفناء أهلي -فذكر القيامة والبعث، والحساب والميزان، والجنّة والنّار، قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان، لا يَرَوْن بعثاً كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان! أوَ ترى هذا كائناً، أن الناس يُبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنّة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يُحلف به، ولَوَدّ أن له بحظّه من تلك النّار أعظم تَنُّور في الدّار، يُحمونه ثم يُدخلونه إيّاه فَيُطَيِّنُونَهُ عليه، بأن يَنْجُو من تلك النّار غداً، فقالوا له: وَيْحَكَ يا فلان! فما آية ذلك؟ قال: نبيٌّ مبعوث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده إلى مكّة واليمن، فقالوا: ومتَى تراه؟ قال: فنظر إليّ، وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يَسْتَنْفِد هذا الغلام عمره يُدركه، قال سلمة: فوالله ما
ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمداً رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو حَيٌّ بين أظهرنا، فآمنّا به وكفر به بغياً وحسَداً، قال: فقلنا له: ويْحك يا فلان! ألَسْتَ الذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به! (1)
وقال: وحدثني عاصم بن عُمر بن قتادة عن شيخ من بني قريظة، قال لي: هل تدري عَمَّ كان إسلام ثَعْلَبَة بن سَعْيَة، وأسيد بن سَعْيَة، وأسدُ ابن عُبَيْد، نفرٍ من بني هَدْل، إخوة بني قريظة، كانوا معهم في جاهليّتهم، ثم كانوا سادتهم في الإسلام، قال: قلت: لا والله، قال: فإن رجلاً من يهود من أهل الشام يقال له: ابن الهَيّبان، قدم علينا قُبيل الإسلام بسنين، فَحَلّ بين أظهُرنا، لا والله ما رأينا رجلاً قطّ لا يُصلّي الخمس أفضل منه، فأقام عندنا، فكنّا إذا قَحطَ عنّا المطر قلنا له: اخرج يا بن الهَيَّبان فاستسْق لنا، فيقول: لا والله، حتى تَقدِّموا بين يدي مَخْرَجكم صدقة، فنقول له: كم، فيقول: صاعاً من تَمْر، أو مُدَّيْن من شعير، قال: فنخرجها، ثم يَخْرج بنا إلى ظاهرة حَرَّتنا فيستسقي الله لنا. فوالله ما يبرح مجلسه حتى يمرّ السحاب ونُسقى، قَد فعلَ ذلك غير مرّة ولا مرّتين ولا ثلاث، قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلمّا عرف أنه مَيّتٌ قال: يا معشر يهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: قلنا: إنك أعلم، قال: فإنّي إنما قدمت هذه البلدة أَتوكّفُ خروج نبيّ قد أظلّ زمانه، وهذه البلدة مُهَاجره، فكنت أرجو أن يُبعث فأتبعه، وقد أظلّكُم زمانه، فلا تُسْبَقَنَّ إليه يا معشر يهود، فإنه يُبعث بسفك الدماء،
(1) السابق: 271، وصرح ابن إسحاق بالسماع، وسنده متصل ورجاله ثقات، وأحمد: 3: 467، وأبو نعيم: الدلائل: 1: 74 - 75، والبيهقي: الدلائل: 2: 78 - 79، والطبراني الكبير: 7: 41 - 42، وقال الهيثمي: رجاله ثقات: المجمع: 8: 24، والحاكم: 3: 417 - 418 وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي!
وسبْي الذراري والنساء ممّن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه، فلما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصر بني قريظة قَال هؤلاء الفتْيَة، وكانوا شباباً، قالوا: ليس به، قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا وأسلموا وأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم!
قال ابن إسحاق: فهذا ما بلغنا عن أخبار يهود! (1)
ويطول بنا الحديث لو حاولنا مزيداً من إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم!
ولقد كانت حجة بني إسرائيل في إعراضهم عن الإسلام (2) وإبائهم الدخول فيه، أن عندهم الكفاية من تعاليم أنبيائهم، وأنهم ماضون على شريعتهم ووصاياهم .. فهنا يفضحهم القرآن، ويكشف عن حقيقة موقفهم من أنبيائهم وشرائعهم ووصاياهم، ويثبت أنهم هم هم كلما واجهوا الحق، الذي لا يخضع لأهوائهم!
وقد واجههم القرآن بالكثير من مواقفهم مع نبيّهم موسى عليه السلام، وقد آتاه الله الكتاب، وقد توالت رسلهم تترى، يقفو بعضهم بعضاً، وكان آخرهم عيسى عليه السلام، وقد آتاه الله المعجزات البينات، وأيّده بروح القدس!
وقد نزل فيهم -كما أسلفنا- قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ
(1) ابن هشام: 1: 272 وصرح ابن إسحاق بالسماع، وفيه جهالة شيخ من بني قريظة، وأبو نعيم:"الدلائل": 23 - 24 باختلاف يسير، والبيهقي: الدلائل: 2: 80 - 81 من طريق ابن إسحاق.
(2)
في ظلال القرآن: 1: 88 وما بعدها بتصرف.
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} (البقرة). وكيف كان استقبالهم لذلك الحشد من الرسل ولآخرهم عيسى عليه السلام؟
كان هذا الذي يستنكره عليهم، والذي لا يملكون هم إنكاره، وكتبهم ذاتها تقرّره وتشهد به:{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)} (البقرة)!
ومحاولهُ إخضاع الهداة والشرائع للهوى الطارئ والنزوة المتقلّبة، وظاهرة تبدو كلما فسدت الفطرة، وانطمست فيها عدالة النطق الإنسانيّ ذاته .. المنطق الذي يقتضي أن ترجع الشريعة إلى مصدر ثابت، غير المصدر الإنسانيّ المتقلّب، مصدر لا يميل مع الهوى، ولا تغلبه النزوة .. وأن يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت الذي لا يتأرجح مع الرضى والغضب، والصحة والمرض، والنزوة والهوى، لا أن يخضعوا الميزان ذاته للنزوة والهوى!
ولقد قصّ الله على المسلمين من أنباء بني إسرائيل في هذا ما يحذّرهم من الوقوع في مثله، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض، والأمانة التي ناطها بهم الله، فلما وقعوا في مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، وطرحوا منهج الله وشريعته، وحكموا أهواءهم وشهواتهم، وقتلوا فريقاً من الهداة، وكذّبوا فريقاً، ضربهم الله بما ضرب به هؤلاء من قبل من الفرقة والضعف، والذلّة والهوان، والشقاء والتعاسة .. إلا أن يستجيبوا لله ورسوله، وإلا أن يخضعوا أهواءهم لشريعته وكتابه، وإلا أن يفوا بعهد الله معهم ومع أسلافهم، وإلا أن
يأخذوه بقوّة، ويذكروا ما فيه لعلهم يهتدون!
ذلك كان موقفهم مع أنبيائهم، يبيّنه ويقرّره، ثم يجابههم بموقفهم من الرسالة الأخيرة والشعبي الخاتم، فإذا هم هم، كأنهم أولئك الذين جابهوا الأنبياء من قبل:{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} !
ويعنف الأسلوب ويشتد، ويتحوّل -في بعض المواضع- إلى صواعق وحمم .. يجبههم جبهاً شديداً بما قالوا وما فعلوا، ويجرّدهم من كل حججهم ومعاذيرهم، التي يسترون بها استكبارهم عن الحق، وأثرتهم البغيضة. وعزلتهم النافرة، وكراهتهم لأن ينال غيرهم الحق، وحسدهم أن يؤتي الله أحداً من فضله، جزاء موقفهم الجحودي المنكر من الإسلام ورسوله الكريم!
قالوا: إن قلوبنا مغلقة، لا تنفد إليها دعوة جديدة، ولا تستمع إلى داعية جديد!
قالوها تيئيساً لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، من دعوتهم إلى الدّين القيّم، أو تعليلاً لعدم استجابتهم لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم!
ويطالعنا الرد على قولهم: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} أي إنه طردهم وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم، فهم قد كفروا ابتداء فجازاهم الله على الكفر بالطرد وبالحيلولة بينهم وبين الانتفاع بالهدى:{فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)} أي قليلاً ما يقع منهم الإيمان بسبب هذا الطرد الذي حقّ عليهم جزاء كفرهم السابق، وضلالهم القديم .. أو هذه حالهم: أنهم كفروا فقلما يقع منهم الإيمان، حالة لاصقة بهم يذكرها تقريراً لحقيقتهم .. وكلا المعنين يتفق مع المناسبة والموضوع!
وقد كان كفرهم قبيحاً، لأنهم كفروا بالنبي الذي ارتقبوه، واستفتحوا به على الكافرين، أي ارتقبوا أن ينتصروا به على من سواهم، وقد جاءهم بكتاب مصدّق لما معهم:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ! وهو تصرّف يستحق الطرد والغضب لقبحه وشناعته .. ومن ثم يصبّ عليهم اللعنة ويصمهم بالكفر: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)} !
ويفضح السبب الخفي لهذا الموقف الشائن الذي وقفوه، بعد أن يقرّر خسارة الصفقة التي اختاروها:{بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)} !
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا .. لكأن هذا الكفر هو الثمن المقابل لأنفسهم! والإنسان يعادل نفسه بثمن ما، يكثر أو يقل، أما أن يعادلها بالكفر فتلك أبأس الصفقات وأخسرها، ولكن هذا هو الواقع، وإن بدا تمثيلاً وتصويراً!
لقد خسروا أنفسهم في الدنيا، فلم ينضموا إلى الموكب الكريم العزيز .. ولقد خسروا أنفسهم في الآخرة، بما ينتظرهم من العذاب المهين .. وبماذا خرجوا في النهاية؟ خرجوا بالكفر، هو وحده الذي كسبوه وأخذوه!
وكان الذي حملهم على هذا كله هو حسدهم لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أن يختاره الله للرسالة التي انتظروها فيهم، وحقدهم لأن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وكان هذا بغياً منهم وظلماً، فعادوا من هذا الظلم بغضب على غضب، وهناك ينتظرهم عذاب مهين، جزاء الاستكبار والحسد والبغي الذميم!
وهذه الطبيعة التي تبدو هنا في يهود هي الطبيعة الكنود، طبيعة الأثرة الضيّقة التي تحيا في نطاق من التعصّب شديد، وتحسّ أن كل خير يصيب سواها كأنما هو مقتطع منها، ولا تشعر بالوشيجة الإنسانيّة الكبرى، التي تربط البشريّة جميعاً!
وهكذا عاش اليهود في عزلة يحسّون أنهم فرع مقطوع من شجرة الحياة، ويتربّصون بالبشريّة الدوائر، ويكنّون للناس البغضاء، ويعانون عذاب الأحقاد والضغائن، ويذيقون البشريّة رجع هذه الأحقاد فتناً يوقدونها بين بعض الشعوب وبعض، وحروباً يثيرونها ليأخذوا من ورائها الغنائم، ويرووا بها أحقادهم التي لا تنطفئ، وهلاكاً يسلطونه على الناس .. وهذا الشرِّ كله إنما نشأ من تلك الأثرة البغيضة:{بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} !
وكان هذا هو الذي يقولونه إذا دعوا إلى الإيمان بالقرآن والإسلام .. كانوا يقولون: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا} وهو وحده الحق، ثم يكفرون بما وراءه، سواء ما جاءهم به عيسى عليه السلام، وما جاءهم به محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم!
والقرآن الكريِم يعجب من موقفهم هذا، ومن كفرهم بما وراء الذي معهم {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ} !
وما لهم وللحق؟ وما لهم أن يكون مصدّقاً لما معهم! ماداموا لم يستأثروا هم به؟
إنهم يعبدون أنفسهم، ويتعتدون لعصيبّتهم .. لا بل إنهم ليعبدون هواهم، فلقد كفروا من قبل بما جاءهم أنبياؤهم به .. ويلقن الله خاتم النبييِّن صلى الله عليه وسلم أن يجبههم بهذه الحقيقة، كشفاً لموقفهم وفضحاً لدعواهم:{قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)} !
ونقف هنا لحظة أمام التعبيرين المصوّرين العجيبين: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} ! إنهم قالوا: {سَمِعْنَا} ولم يقولوا {عَصَيْنَا} ، ففيم إذن حكايته هذا القول عنهم هنا؟
إنه التصوير الحيّ للواقع الصامت كأنه واقع ناطق .. لقد قالوا بأفواههم {سَمِعْنَا} ، وقالوا بأعمالهم {عَصَيْنَا} ، والواقع العملي هو الذي يمنح القول الشفوي دلالته، وهذه الدلالة أقوى من القول المنطوق .. وهذا التصوير الحيّ للواقع يومئ إلى مبدأ كلي من مبادئ الإسلام: إنه لا قيمة لقول بلا عمل .. إن العمل هو المعتبر، أو الوحدة بين الكلمة المنطوقة والحركة الواقعة، ومناط الحكم والتقدير!
فأما الصورة الغليظة التي يرسمها: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} ! فيظل الخيال يتمثل تلك المحاولة العنيفة الغليظة، وتلك الصورة المجسمة لتؤديه، وهو حبّهم الشديد لعبادة العجل، حتى لكأنهم أشربوه إشراباً في القلوب!
هنا تبدو قيمة التعبير القرآنيّ المصوّر، بالقياس إلى التعبير الذهني المفسّر .. إنه التصوير .. السمة البارزة في التعبير القرآني الجميل!
لقد كانوا يطلقونها دعوى عريضة .. (إنهم شعب الله المختار) .. إنهم
وحدهم المهتدون .. إنهم وحدهم الفائزون في الآخرة .. إنه ليس لغيرهم من الأمم في الآخرة نصيب!
وهذه الدعوى تتضمن أن المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم لا نصيب لهم في الآخرة .. والهدف الأول هو زعزعة ثقتهم بدينهم وبوعود رسولهم ووِعود القرآن لهم! وهنا يطالعنا قوله جلّ شأنه: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة).
ويعقب على هذا التحدّي بتقرير أنهم لن يطلبو الموت، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون، ويخشون أن يستجيب الله لهم فيأخذهم .. ويعلمون أن ما قدّموه من عمل لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة، وعندئذ يكونون قد خسرو الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيئ الذي قدّموه .. ومن ثم فإنهم لن يقبلوا التحدّي، فهم أحرص الناس على حياة، وهم والمشركون في هذا سواء:
لن يتمنّوه؛ لأن ما قدّمته أيديهم للآخرة لا يطمعهم في ثواب، ولا يؤمنهم من عقاب .. إنه مدّخر لهم هناك، والله عليم بالظالمين وما كانوا يعملون!
وليس هذا فحسب .. ولكنها خصلة أخرى في يهود، خصلة يصوّرها القرآن صورة تفيض بالزراية، وتنضح بالتحقير والمهانة:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} أيّة حياة، لا يهم أن تكون حياة كريمة ولا حياة مميّزة على الإطلاق! حياة فقط! حياة بهذا التنكير والتحقير حياة ديدان أو حشرات! حياة والسلام!
إنها يهود، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها سواء، وما ترفع رأسها إلا حين تغيب المطرقة، فإذا وجدت المطرقة نكست الرؤوس .. وعنت الجباه جبناً وحرصاً على حياة .. أيّ حياة! {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} !
يودّ أحدهم لو يعمرّ ألف سنة، ذلك لأنهم لا يرجون لقاء الله، ولا يحسّون أن لهم حياة غير هذه الحياة .. وما أقصر الحياة الدنيا وما أضيقها حين تحسّ النفس الإنسانيّة أنها لا تتّصل بحياة سواها، ولا تطمع في غير أنفاس وساعات على الأرض معدودة .. إن الإيمان بالحياة الآخرة نعمة .. نعمة يفيضها الإيمان على القلب .. نعمة يهبها الله للفرد الفاني العاني، المحدود الأجل الواسع الأمل، وما يغلق أحد على نفسه هذا المنفذ إلى الخلوة، إلا وحقيقة الحياة في روحه قاصرة أو مطموسة .. فالإيمان بالآخرة -فوق أنه إيمان بعدل الله المطلق، وجزائه الأوفى، هو ذاته دلالة على فيض النفس بالحيويّة، وعلى امتلاء بالحياة لا يقف عند حدود الأرض، إنما يتجاوزها إلى البقاء الطليق، الذي لا يعلم إلا الله مداه، وإلى المرتقى السامي الذي يِتجه صعداً إلى جوار الله!
ويمضي السياق بتلقين جديد من الله لخاتم رسله صلى الله عليه وسلم يتحدّاهم به، ويعلن الحقيقة التي يتضمنها على رؤوس الأشهاد:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة).
وفي قصة هذا التحدّي نطلع على سمة أخرى من سمات يهود .. سمة
عجيبة حقًّا .. لقد بلغ هؤلاء القوم من الحنق والغيظ من أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده مبلغاً يتجاوز كل حدّ، وقادهم هذا إلى تناقض لا يستقيم في عقل .. لقد سمعوا أن جبريل عليه السلام ينزل بالوحي من عند الله على خاتم النبيين محمَّد صلى الله عليه وسلم .. ولمّا كان عداؤهم لمحمد صلى الله عليه وسلم قد بلغ مرتبة الحقد والحنق فقد لجّ بهم الضغن أن يخترعوا قصّةً واهيةً، وحجّةً فارغةً، فيزعموا أن جبريل عدوّهم؛ لأنه ينزل بالهلاك والدمار والعذاب، وأن هذا هو الذي يمنعهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من جراء صاحبه جبريل! ولو كان الذي ينزل إليه بالوحي هو ميكائيل لآمنوا، فميكائيل ينزل بالرخاء والمطر والخصب!
إنها الحماقة المضحكة، ولكن الغيظ والحقد يسوقان إلى كل حماقة، وإلا فما بالهم يعادون جبريل؟ وجبريل لم يكن بشراً يعمل معهم أو ضدّهم، ولم يكن يعمل بتصميم من عنده وتدبير؟ إنما هو عبد الله يفعل ما يأمره ولا يعصي الله ما أمره!
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ} .
فما كان له من هوى شخصي، ولا إرادة ذاتيّة في أن ينزل على قلبك .. إنما هو منفذ لإرادة الله وإذنه في تنزيل هذا القرآن على قلبك .. والقلب هو موضع التلقّي، وهو الذي يفقه بعد التلقّي، ويستقر هذا الكتاب فيه ويحفظ .. والقلب يعبر به في القرآن عن قوّة الإدراك جملة، وليس هو العضلة المعروفة بطبيعة الحال:{نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} !
والقرآن يصدّق في عمومه ما سبقه من الكتب السماويّة، فأساس دين الله
واحد في جميع الكتب السماوية وجميع الرسالات الإلهيّة .. وهو هدى وبشرى للقلوب المؤمنة، التي تتفتح له وتستجيب .. وهذه حقيقة ينبغي إبرازها!
إن نصوص القرآن لتسكب في قلب المؤمن من الإيناس، وتفتح له من أبواب المعرفة، وتفيض فيه من الإيحاءات والمشاعر ما لا يكون بغير الإيمان، ومن ثم يجد الهدى، كما يستروح فيه البشرى، وكذلك نجد القرآن يكرّر هذه الحقيقة في مناسبات شتى:{هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} (البقرة){وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)} (يونس){وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)} [النحل: 89].
وبنو إسرائيل لم يكونوا يؤمنون أو يتقون أو يوقنون .. وكانوا -كعادتهم في تفريق الدّين وتفريق الرسل- قد فرّقوا بين ملائكة الله الذين يسمعون أسماءهم وأعمالهم، فقالوا: إنهم على صداقة مع ميكائيل، أما جبريل فلا! لذلك جمعت الآية التالية جبريل وميكائيل وملائكة الله ورسله، لبيان وحدة الجميع، ولإعلان أن من عادى أحداً منهم فقد عاداهم جميعاً، وعادى الله سبحانه، فعاداه الله، فهو من الكافرين:{مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)} (البقرة).
ثم يتجه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يثبته على ما أنزل عليه من الحق، وما آتاه من الآيات البيّنات، مقرّراً أنه لا يكفر بهذه الآيات إلا الفاسقون المنحرفون، ويندّد ببني إسرائيل الذين لا يستقيمون على عهد .. سواء عهودهم مع ربهم وأنبيائهم من قبل، أو عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يندّد بنبذهم لكتاب الله الذي جاء مصدّقاً لما معهم:
لقد كشف القرآن هنا عن علّة كفر بني إسرائيل بتلك الآيات البيّنات التي أنزلها الله .. إنه الفسوق وانحراف الفطرة، فالطبيعة المستقيمة لا يسعها إلا الإيمان بتلك الآيات، وهي تفرض نفسها فرضاً على القلب المستقيم .. فإذا كفر بها اليهود أو غيرهم فليس هذا لأنه لا مقنع فيها ولا حجة، ولكنهم لأنهم هم فاسدو الفطرة فاسقون!
ثم يلتفت إلى المسلمين، وإلى الناس عامة، مندّداً بهؤلاء اليهود، كاشفاً عن سمة من سماتهم الوبيئة .. إنهم جماعة مفكّكة الأهواء -رغم تعصّبها الذميم- فهم لا يجتمعون على رأي، ولا يثبتون على عهد، ولا يستمسكون بعروة، ومع أنهم متعصّبون لأنفسهم وجنسهم، يكرهون أن يمنح الله شيئاً من فضله لسواهم، إلا أنهم مع هذا لا يستمسكون بوحدة، ولا يحفظ بعضهم عهد بعض، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تندّ منهم فرقة فتنقض ما أبرموا، وتخرج على ما أجمعوا:{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)} .
وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد، وأخيراً نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم أول مقدمه إلى المدينة -كما سيأتي- وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معيّنة .. بينما
كانوا هم أوّل من أعان عليه أعداءه، وأوّل من عاب الإِسلام، وحاولوا بثّ الفرقة والفتنة في الصفّ المسلم، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه!
وبئس هي خلّة من اليهود! تقابلها في المسلمين خلّة أخرى على النقيض!
وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث طويل عن إبراهيم التّيْمي عن أبيه قال:
قال علي رضي الله عنه: .. وفيه: "وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفٌ ولا عدلاٌ"(1).
وهكذا نبصر المسلمين تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم، فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد، ولا ينقص أحد عقده إذا أبرم، ولقد كتب أبو عبيدة رضي الله عنه، وهو قائد لجيش عمر رضي الله عنه، وهو الخليفة يقول: إن عبداً من أهل بلد بالعراق، وسأله رأيه، فكتب إليه عمر: إن الله عظم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا .. فوالهم وانصرفوا عنهم.!
وتلك سمة الجماعة الكريمة المتماسكة المستقيمة .. وذلك فرق ما بين اليهود الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)} [البقرة: 101]!
(1) البخاري: 85 - الفرائض (6755)، وانظر (3172)، ومسلم (1370)، وأحمد: 1: 81، والترمذي (2127)، وأبو داود (2034)، وأبو يعلى (263، 296)، والبيهقي: 5: 196، والبغوي (2009)، وابن حبان (3716، 3717).