الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمحيص المؤمنين:
والتمحيص عمليّة كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيداً لإخراج ما علق بها من دخل ودغل .. وهو درجة بعد الفرز والتمييز، (1) وعمليّة تتمّ في داخل النفس، وفي مكنون الضمير .. عمليّة كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات، تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقيّةً واضحةً مستقرّةً على الحق، بلا غبش ولا ضباب!
وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودوروبها ومنحنياتها .. وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوّتها، وحقيقة ما استكنّ فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} (آل عمران)!
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيّام بين الناس بين الشدّة والرخاء يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحكّ المرير، محكّ الأحداث والتجارب والمواقف العمليّة الواقعيّة!
ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرّد والخلاص من الشحّ والحرص .. ثم إذا هو يكشف -على ضوء التجربة العمليّة وفي مواجهة الأحداث الواقعيّة- أن في نفسه عقابيل لم تمحص، وأنه لم يتهيّأ لمثل هذا المستوى من الضغوط!
ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد،
(1) السابق: 482 بتصرف.
على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة!
والله سبحانه يربّي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشريّة، ويريد بها أمراً في هذه الأرض، فمحّصها هذا التمحيص، الذي تكشّفت عنه الأحداث في (أُحُد) -كما سيأتي-، لترتفع إلى مستوى الدور المقدّر لها. وليتحقّق على يديها قدر الله الذي ناطه بها:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} !
تحقيقاً لسنّته في دمغ الباطل بالحق، متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب والتمحيص!
وفي سؤال استنكاري يصحح القرآن تصوّرات المسلمين عن سنّة الله في الدعوأت، وفي النصر والهزيمة، وفي العمل والجزاء، ويبيّن لهم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره -كما أسلفنا- وزاده الصبر على مشاقّ الطريق، وليس زاده التمنّي والأماني الطائرة التي لا تثبت على المعاناة والتمحيص:
إن صيغة السؤال الاستنكاريّة يقصد بها إلى التنبيه بشدّة إلى خطأ هذا التصوّر .. تصوّر أنه يكفي الإنسان أن يقولها كلمة باللسان: أسلمت وأنا على استعداد للموت، فيبلغ بهذه الكلمة أن يؤدي تكاليف الإيمان، وأن ينتهي إلى الجنّة والرضوان!
إنما هي التجربة الواقعيّة، والامتحان العملي .. وإنما هو الجهاد وملاقاة
البلاء، ثم الصبر على تكاليف الجهاد، وعلى معاناة البلاء .. ونبصر لفتة ذات مغزى:{وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} !
فلا يكفي أن يجاهد المؤمنون .. بل لا بد لهم من الصبر.
الصبر على تكاليف هذه الدعوة أيضاً، التكاليف المستمرّة المتنوّعة التي لا تقف عند الجهاد في الميدان، فربما كان الجهاد في الميدان أخفّ تكاليف هذه الدعوة التي يطلب لها الصبر، ويختبر بها الإيمان .. إنما هنالك المعاناة اليوميّة التي لا تنتهي: معاناة الاستقامة على أفق الإيمان، والاستقرار على مقتضياته في الشعور والسلوك!
والصبر في أثناء ذلك على الضعف الإنساني: في النفس وفي الغير، ممن يتعامل معهم المؤمن في حياته اليوميّة!
والصبر على الفترات التي يستعلي فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر!
والصبر على طول الطريق وبعد المشقة وكثرة العقبات!
والصبر على وسوسة الراحة وهفوة النفس لها في زحمة الجهد والكرب والنضال!
والصبر على أشياء كثيرة، ليس الجهاد في الميدان إلا واحداً منها في الطريق المحفوف بالمكاره، طريق الجنّة التي لا تنال بالأماني وبكلمات اللسان:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)} !
وهكذا يقفهم السؤال وجهاً لوجه مرّة أخرى أمام الموت الذي واجهوه في المعركة، وقد كانوا من قبل يتمنون لقاءه، ليوازنوا في حسّهم بين وزن الكلمة التي يقولها اللسان، ووزن الحقيقة في العيان، فيعلّمهم بهذا أن يحسبوا حساباً لكل كلمة تطلقها ألسنتهم، ويزنوا حقيقة رصيدها الواقعي في نفوسهم، على ضوء ما واجهوه من حقيقتها حين واجهتهم!
وبذلك يقدرون قيمة الكلمة، وقيمة الأمنية، وقيمة الوعد، في ضوء الواقع الثقيل! ثم يعلمهم أن الكلمات الطائرة، والأمانيّ المرفرفة ليست هي التي تبلغهم الجنّة، إنما هو تحقيق الكلمة، وتحسيم الأمنية، والجهاد الحقيقي، والصبر على المعاناة، حتى يعلم الله منهم ذلك كله واقعاً كائناً في دنيا الناس!
ولقد كان الله سبحانه قادراً على أن يمنح النصر لنبيه صلى الله عليه وسلم ولدعوته ولدينه ولمنهجه منذ اللحظة الأولى، وبلا كدّ من المؤمنين ولا عناء .. وكان قادرًا على أن ينزل الملائكة تقاتل معهم دائماً -أو بدونهم- وتدمرّ المشركين، كما دمرّت على عاد وثمود وقوم لوط!
ولكن المسألة ليست هي النصر .. إنما هي تربية الجماعة المسلمة، التي تعدّ لتتسلّم قيادة البشريّة .. البشريّة بكل ضعفها ونقصها، وبكل شهواتها ونزاوتها، وبكل جاهليّتها وانحرافها .. وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعداداً عالياً من القادة .. وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق، وصبر على المعاناة .. ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوّة في النفس البشريّة، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف، ووسائل العلاج .. ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدّة .. وصبر على الشدّة بعد الرخاء، وطعمها يومئذ لاذع مرير!
وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة، حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة، ليعدّها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق، الذي ينوطه بها في هذه الأرض .. وقد شاء سبحانه أن يجعل هذا الدور من نصيب (الإنسان) الذي استخلفه في هذا الملك العريض!
وقدَرُ الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه، بشتّى الأسباب والوسائل، وشتى الملابسات والوقائع .. يمضي أحياناً عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة، فتستبشر، وترتفع ثقتها بنفسها -في ظلّ العون الإلهيّ- وتجرب لذة النصر، وتصبر على نشوته، وتجرب قوتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء، وعلى التزام التواضع والشكر لله .. ويمضي أحياناً عن طريق الهزيمة والكرب والشدّة، فتلجأ إلى الله، وتعرف حقيقة قوّتها الذاتيّة، وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله، وتجرب مرارة الهزيمة، وتستعلي مع ذلك على الباطل، بما عندها من الحقّ المجرّد، وتعرف مواضع نقصها وضعفها، ومداخل شهواتها، ومزالق أقدامها، فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة .. وتخرج من النصر، ومن الهزيمة بالزاد والرصيد .. ويمضي قَدَرُ الله وفق سنّته لا يتخلف ولا يحيد!
ويمضي السياق في تقرير حقائق التصوّر الإِسلامي الكبيرة، وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق، متخذاً من أحداث المعركة محوراً لتقرير تلك الحقائق، ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآنيّ العزيز:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} (آل عمران)!
الآية الأولى تشير إلى واقعة معيّنة، حدثت في (غزوة أحد) كما سيأتي، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، جاء ليبلغ كلمة الله، والله باق لا يموت، وكلمته باقية لا تموت، وما ينبغي أن يرتدّ المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل .. وهذه كذلك حقيقة أوّلية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول، وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأوّلية البسيطة!
إن البشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقلّ في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدّونه إلى الناس، من الرسل والدعاة على مدار التاريخ .. والمسلم هو الذي يحبّ رسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يحبّونه الحبّ الذي لم تعرف له النفس البشريّة في تاريخها كله نظيراً .. الحبّ الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة .. ومن ثم هذا الاستنكار، وهذا التهديد، وهذا البيان المثير:{أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} !
ويلمس القرآن مكمن الخوف من الموت في النفس البشريّة، لمسةً موحيةً، تطرد ذلك الخوف، عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة، وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير، ومن ابتلاء للعباد وجزاء:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} !
إن لكل نفس كتاباً مؤجّلاً إلى أجل مرسوم .. ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم، فالخوف والهلع، والحرص والتخلّف، لا تطيل آجلاً، والشجاعة والثبات، والإقدام والوفاء، لا تقصر عمراً، فلا كان الجن، ولا نامت أعين الجبناء، والأجل المكتوب لا ينقص منه ولا يزيد!
بذلك تستقرّ حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به، ولا تجعله في الحساب .. وهي تفكّر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانيّة .. وبذلك تنطلق من عقال الشحّ والحرص، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع، وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته، في صبر وطمأنينة، وتوكّل على الله الذي يملك الآجال وحده!
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضيّة التي حسم فيها القول .. فإنه إذا كان العمر مكتوباً، والأجل مرسوماً .. فلتنظر نفسر ما قدّمت لغد؟ ولتنظر نفس ماذا تريد؟ أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همّها كله في هذه الأرض، وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلّع إلى أفق أعلى، وإلى اهتمامات أرفع، وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟ .. مع تساوي هذا الهمّ وذاك فيما يختصّ بالعمر والحياة:{وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} !
وشتّان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام! -مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل- والذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها .. إنما يحيى حياة الديدان والدوابّ والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب! والذي يتطلّع إلى الأفق الآخر .. إنما يحيا حياة الإنسان الذي كرّمه الله واستخلفه، وأفرده بهذا المكان ثم يموت في
موعده المضروب بأجله المكتوب: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} !
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهيّ للإنسان، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، فينهضون بتبعات الإيمان!
وهكذا يقرّر القرآن حقيقة الموت والحياة، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء، وفق ما يريدونه لأنفسهم، من اهتمام قريب كاهتمام الدود، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان!
وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت، والجزع من التكاليف -وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة- إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس، في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه الاختيار، فتختار الدنيا أو تختار الآخرة، وتنال من جزاء الله ما تختار!
ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم، من موكب الإيمان اللاحب الممتدّ على طول الطريق، الضارب في جذور الزمان .. من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وقاتلوا مع أنبيائهم، فلم يجزعوا عند الابتلاء، وتأدّبوا -وهم مقدمون على الموت- بالأدب الإيمانيّ في هذا المقام .. مقام الجهاد .. فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربّهم، وأن يجسّموا أخطاءهم، فيروها {إِسْرَافاً} في أمرهم، وأن يطلبوا من ربّهم الثّبات والنصر على الكفّار .. وبذلك نالوا ثواب الدّارين جزاء إحسانهم في أدب الدّعاء، وإحسانهم في موقف الجهاد، وكانوا مثلاً يضربه الله للمسلمين:
موعده المضروب بأجله المكتوب: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)} !
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهيّ للإنسان، فيرتفعون عن مدارج الحيوان، ويشكرون الله على تلك النعمة، فينهضون بتبعات الإيمان!
وهكذا يقرّر القرآن حقيقة الموت والحياة، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء، وفق ما يريدونه لأنفسهم، من اهتمام قريب كاهتمام الدود، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان!
وبذلك ينقل النفس من الانشغال بالخوف من الموت، والجزع من التكاليف -وهي لا تملك شيئاً في شأن الموت والحياة- إلى الانشغال بما هو أنفع للنفس، في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه الاختيار، فتختار الدنيا أو تختار الآخرة، وتنال من جزاء الله ما تختار!
ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم، من موكب الإيمان اللاحب الممتدّ على طول الطريق، الضارب في جذور الزمان .. من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وقاتلوا مع أنبيائهم، فلم يجزعوا عند الابتلاء، وتأدّبوا -وهم مقدمون على الموت- بالأدب الإيمانيّ في هذا المقام .. مقام الجهاد .. فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربّهم، وأن يجسّموا أخطاءهم، فيروها {إِسْرَافاً} في أمرهم، وأن يطلبوا من ربّهم الثّبات والنصر على الكفّار .. وبذلك نالوا ثواب الدّارين جزاء إحسانهم في أدب الدّعاء، وإحسانهم في موقف الجهاد، وكانوا مثلاً يضربه الله للمسلمين:
وكم من نبيّ قاتلت معه جماعات كثيرة، فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من النبلاء والكرب والشدّة والجراح، وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء .. فهذا شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين:{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)} !
الذين لا تضعف نفوسهم، ولا تتضعضع قواهم، ولا تلين عزائمهم، ولا يستكينون أو يستسلمون .. والتعبير بالحبّ من الله للصابرين له وقعه، وله إيحاؤه، فهو الحبّ الذي يأسو الجراح، ويمسح على القرح، ويعوض ويربو عن الضرّ والقرح والكفاح المرير!
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدّة والابتلاء، فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم .. صورة الأدب في حق الله، وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس، ويقيّدها بالخطر الراهق لا تتعدّاه؛ ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجّه إلى الله .. لا لتطلب النصر أول ما تطلب -وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس- ولكن لتطلب العفو والمغفرة، ولتعترف بالذنب والخطيئة، قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء:{وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147)} (آل عموان)!
إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء، بل لم يطلبوا ثواباً ولا جزاء .. لم يطلبوا ثواب الدّنيا ولا ثواب الآخرة .. لقد كانوا أكثر أدباً مع الله، وهم يتوجّهون إليه، بينما هم يقاتلون في سبيله، فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب، وتثبيت الأقدام .. والنصر على الكفّار .. حتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم؛