الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويبقى هذا التوجيه القرآني حاضراً يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة، وطبيعة طريقها، وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق، ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله، فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوى حولها بالدعاية، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة .. أنها سائرة في الطريق، وأنها ترى معالم الطريق!
ومن ثمَّ تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة، والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يُكره، وما يؤذي .. تستبشر بهذا كله؛ لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل، وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق، ويبطل عندها الكيد والبليّة، ويصغر عندها الابتلاء والأذى، وتمضي في طريقها الموعود إلى الأمل المنشود .. في صبر وفي تقوى .. وفي عزم أكيد!
قيمة العقيدة:
ويطالعنا قول الله تعالى:
وهنا نبصر نموذجاً من الناس يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة، ويظنها صفقة في سوق التجارة .. والعقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة (1)، وتتجاذبه الأحداث
(1) السابق: 4: 2412 وما بعدها بتصرف.
والدوافع فيتشبّث هو بالصخرة التي لا تتزعزع، وتتهاوى من حوله الإسناد فيستند هو إلى الأصول التي لا تحول ولا تزول!
هذه هي قيمة العقيدة في حياة المؤمن، ومن ثمَّ يجب أن يستوي عليها، متمكّناً منها، واثقاً بها، لا يتلجلج ولا ينتظر عليها جزاء، فهي في ذاتها جزاء؛ ذلك أنها الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند عليه .. أجل هي في ذاتها جزاء على تفتّح القلب للنور وطلبه للهدى .. ومن ثمَّ يهبه الله العقيدة ليأوي إليها، ويطمئن بها .. هي في ذاتها جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله تتجاذبهم الرياح، وتتقاذفهم الزوابع، ويستبدّ بهم القلق؛ بينما هو بعقيدته مطمئن القلب، ثابت القدم، هادئ البال، موصول بالله، مطمئن بهذا الاتصال!
وأمّا ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه القرآن هنا فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} ! وقال: إن الإيمان خير، فها هو ذا يجلب النفعِ ويدر الضرع، وينمّي الزرع، ويربح التجارة، ويكفل الرواج {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} !
خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليها، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه .. وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدي الديني الذي كان ميسّراً له!
والتعبير القرآني يصوّر عبادته لله {عَلَى حَرْفٍ} ؛ لأنه غير متمكّن من العقيدة، ولا متثبّت في العبادة .. يصوره في حركة جسديّة متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى، ومن ثمّ ينقلب على وجهه عند مسّ الفتنة ووقفته المتأرجحة تمهّد من قبل لهذا الانقلاب!
إن حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة؛ ولكنه لا يصلح للعقيدة، فالعقيدة حقّ يعتنق لذاته، بانفعال القلب المتلقّي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقّى .. والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها، بما فيها من طمأنينة وراحة ورضى، فهي لا تطلب جزاءها خارجاً عن ذاتها!
والمؤمن يعبد ربّه شكراً له على هدايته إليه، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به جلَّ شأنه!
والمؤمن لا يجرّب إلهه، فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجريه عليه، راض ابتداء بكل ما يناله من السرّاء والضرّاء .. وليست هي صفقة في السوق بين بائع ومشترٍ .. إنما إسلام الخلوق للخالق صاحب الأمر فيه، ومصدر وجوده من الأساس!
والذي ينقلب على وجهه عند مسّ الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)} !
يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى، إلى جوار خسارة المال أو الولد، أو الصحة، أو أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره .. ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقُربى ورضوان، فياله من خسران!
وإلى أين يتجه هذا الذي يعبد الله على حرف؟ إلى أين يتّجه بعيداً عن الله؟ إنه {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} ! يدعو صنماً أو وثناً على طريقة الجاهليّة الأولى، ويدعو شخصاً أو جهة أو مصلحة على طريقة
الجاهليّات المتناثرة في كل زمان ومكان وجيل وقبيل، وعصر ومصر، كلما انحرف الناس عن الاتجاه إلى الله وحده، والسير على صراطه ومنهجه .. فما هذا كله؟ إنه الضلال عن المتجه الوحيد الذي يجدي فيه الدعاء:{ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)} ! المغرق في البعد عن الهدى والاهتداء .. {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} ! من وثن أو شيطان، أو سند من بني الإنسان .. وهذا كله لا يملك ضرًا ولا نفعاً، وهو أقرب لأن ينشأ عنه الضرّ، وضرره أقرب من نفعه .. ضرره في عالم الضمير بتوزيع القلب، وإثقاله بالوهم، وإثقاله بالذل، وضرره في عالم الواقع .. وكفى بما يعقبه في الآخرة من ضلال وخسران {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} ! ذلك الضعيف لا سلطان له في ضرّ أو نفع {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)} ! من بني الإنسان، ممن يتّخذهم بعض الناس آلهة أو أشباه آلهة في كل زمان ومكان!
والله عز وجل يدّخر للمؤمنين به ما هو خير من عرض الحياة الدنيا كله، حتى لو خسروا ذلك العرض كله في الفتنة والابتلاء:
فمن مسّه الضرّ في فتنة من الفتن وفي ابتلاء من الابتلاءات فليثبت ولا يتزعزع، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضرّاء، وعلى العوض والجزاء!
فأما من يفقد ثقته في نصر الله، ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة فليفعل بنفسه ما يشاء، وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء: