المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌13 - عزيمة النبوة: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: ‌13 - عزيمة النبوة:

‌13 - عزيمة النبوّة:

ومضَى الرسول صلى الله عليه وسلم قُدماً معلناً عن دعوته بكل ما يملك من وسيلة يعرفها الإعلان والجهر في مجتمعه وبيئته وبلده وقومه (1) .. يناديهم وجه النهار من فوق الجبال -كما أسلفنا-: "إِنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد"!

وقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم في حدب عمه عليه، وقيامه معه، ودفاعه عنه، وحمايته له، ومنعته أن يؤذى عزاء وقوة!

وهنا نبصر عزيمة النبوّة تأبى إلا أن تقول لحياة الظلام: لا .. ولابدّ لهذا الظلام أن يتبدّد، وأن يملأ نورُ الله آفاق الحياة، فيضيء السهل والجبل، ويغمر الأودية والشواهق، ويدخل البيوت، وشري في الطرقات، ويتولّج في حنايا النفوس، وزوايا الضمائر، ويدلف إلى القلوب والعقول، ويوقظ الحياة من سباتها، ويصبح الكون كما أراده الله مسخّراً للإنسان يستخرج آياته، ويكشف أغطية الجهل وظلمات الوثنيّات عن أسراره!

ويعرف الإنسان حقيقة دوره في هذه الحياة، ويعرف ربّه حق معرفته، ويكفر بالطاغوت، ويؤمن بالحق والعدل، ليصحّح وجوده ووجود الحياة كلها، لتخوض بحار العلم والمعرفة، وتسيح في محيطاتها، وتطير في أجوازها بأجنحة من فيض الله وأمره!

هذا الإيمان الذي نبصره في عزيمة النبوّة، قد امتزج بروح محمَّد صلى الله عليه وسلم ومشاعره وإحساساته، لم تعرف الحياة له نظيراً في قوّته وسطوته، وعلوّ جهرته!

(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 169 وما بعدها بتصرف.

ص: 987

هذا الإيمان هو الذي دفع أبا طالب إلى أن يقول -كما سبق لهؤلاء: والله!

ما كذبنا ابن أخي، فارجعوا!

ولابد أن الرؤوس الخاوية قد شعرت بالقوّة التي تجدّدت لدعوة محمَّد صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالته .. ولابد أنها شعرت بالخطر يتهدّدها في وثنيّتها وشركها، وفي طغيانها المادّي، وسُحتها وربويّاتها وتجارتها ومضارباتها .. فرجفت بهم الأرض من تحتهم، وهم في مجالسهم وأنديتهم .. ونظر بعضهم إلى بعض بعيون زائغة، تدور نظراتها في سهوم وذهول، كالذي يغشى عليه من الموت .. وتملّكهم الهلع والجزع، واستولى عليهم الرعب، واستحوذ على قلوبهم الجبن ومهانة الضعف، وضراعة الذل الحائر، فلم يفكّروا قطّ في تنفيذ وعيدهم وتهديدهم أبا طالب وابن أخيه، حتى يتفانى الفريقان!

وروى الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (1)!

مرض أبو طالب، فجاءت قريش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وعند رأس أبي طالب مجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك، وشكوه إِلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال:"يا عمّ، إِنما أريد منهم كلمةً تذل لهم بها العرب، وتؤدّي إِليهم بها جزية العجم، قال: كلمة واحدة"!

قال: ما هي؟ قال: "لا إِله إِلا الله"! قال: فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ

(1) الحاكم: 2: 432 وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد: 1: 227، 228، 362، والترمذي (3232)، وعبد الرزاق (9924)، وأبو يعلى (2583)، والبيهقي: 9: 188، والواحدي: أسباب النزول: 246، وابن أبي شيبة: 3: 359، والنسائي: الكبرى (11436)، والطبري: 23: 125، 126، والطحاوي: شرح مشكل الآثار (2029)، وابن حبان (6686).

ص: 988

إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} قال: ونزل فيهم: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} !

حتى بلغ: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} (ص)!

ونبصر الحقيقة الأولى في هذا القرآن ذي الذكر!

{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)} !

ويطالعنا الإضراب في التعبير الذي يلفت النظر:

{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)} !

فهو يبدأ وكأنه انقطاع عن موضوع القسم (1)؛ لأن المقسم عليه لم يذكر، واكتفى بالمقسم به، ثم أخذ يتحدث بعده عن هؤلاء المشركين، وما هم فيه من استكبار ومن مشاقة!

ولكن هذا الانقطاع عن القضيّة الأولى انقطاع ظاهري، يزيد الاهتمام بالقضيّة التي تليه!

وفي مفتتح السورة قسم يدل على أنه أمر عظيم .. وإلى جانب هذا استكبار المشركين ومشاقّتهم في هذا القرآن ذي الذكر، فهي قضيّة واحدة قبل الإضراب وبعده!

ولكن هذا الالتفات في الأسلوب يوجّه النظر بشدّة إلى المفارقة بين تعظيم الله سبحانه لهذا القرآن واستكبار المشركين عنه ومشاقّتهم به، وهو أمر عظيم!

وعقب على الاستكبار والمشاقّة، بصفحة الهلاك والدمار لمن كان قبلهم، ممن كذبوا مثلهم، واستكبروا استكبارهم، وشاقّوا مشاقّتهم، ومشهدهم وهم

(1) في ظلال القرآن: 5: 3007 وما بعدها بتصرف.

ص: 989

يستغيثون فلا يغاثون، وقد تخلّى عنهم الاستكبار وأدركتهم الذّلة، وتخلّوا عن الشقاق، ولجؤوا إلى الاستعطاف، ولكن بعد ذوات الأوان:{كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)} !

فلعلهم حين يتملّون هذه الصفحة أن يطامنوا من كبريائهم، وأن يرجعوا عن شقاقهم، وأن يتمثّلوا أنفسهم في موقف أولئك القرون، ينادون ويستغيثون، وفي الوقت أمامهم فسحة، قبل أن ينادوا ويستغيثوا، ولات حين مناص، ولا موضع حينذاك للغوث ولا للخلاص!

يطرق قلوبهم تلك المطرقة، ويوقع عليها هذا الإيقاع، قبل أن يعرض تفصيل تلك العزّة وهذا الشقاق، ثم يفصل الأمر، ويحكي ما هم فيه من عزّة وشقاق!

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} !

هذه هي العزة: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} !

وذلك هو الشقاق: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} !

وقصة العجب من أن يكون الرسول بشراً قصة قديمة، مكرورة معتادة، قالها كل قوم من أمثالهم وتعلّلوا بها منذ بدء الرسالات، وتكرّر إرسال الرسل من البشر، وظل هؤلاء وأمثالهم مع هذا يكرّرون الاعتراض!

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} !

ص: 990

وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم بشراً يدرك كيف يفكّر البشر، وكيف يشعرون، ويحسّ ما يعتلج في نفوسهم، وما يشجر في كيانهم، وما يعانون من نقص وضعف، وما يجدون من ميول ونزعات، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل، وما يعترضهم من عوائق وعقبات، وما يعتريهم من مؤثِّرات واستجابات!

بشراً يعيش بين البشر، وهو منهم، فتكون حياته قدوة لهم، وتكون لهم فيه أسوة، وهم يحسّون أنه واحد منهم، وأن بينه وبينهم شبهاً وصلةً، فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه، ويدعوهم لاتّباعه، وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج، فقد حقّقه أمامهم بشرٌ منهم في واقع حياته!

بشراً منهم، من جيلهم، ومن لسانهم، يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم، ويعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتفاهمون معه، ويتجاوبون وإيّاه، ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه، أو اختلاف لغته، أو اختلاف طبيعة حياته، أو تفصيلات حياته!

ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون، هو الذي كان دائماً موضع العجب، ومحطّ الاستنكار، وموضوع التكذيب!

ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار، كما كانوا يجهلون تصوّر طبيعة الرسالة، وبدلًا من أن يروها قيادةً واقعيّة للبشريّة في الطريق إلى الله، كانوا يتصوّرونها خياليّة غامضة محوطةً بالأسرار التي لا يصح أن تكون مفهومة هكذا أو قريبةً!

كانوا يريدونها مُثُلاً خياليّة طائرةً لا تُلمس بالأيدي، ولا تبصر في النور، ولا تدرك في وضوح، ولا تعيش واقعيّة في دنيا الناس!

ص: 991

وعندئذ يستجيبون لها كالأسطورة غامضة، كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة!

ولكن الله أراد للبشريّة وبخاصة في الرسالة الأخيرة أن تعيش بهذه الرسالة عيشةً طبيعيةً واقعيّةً، عيشةً طيبةً ونظيفةً وعاليةً، ولكنها حقيقة في هذه الأرض، لا وهماً ولا خيالاً ولا مثالاً طائراً في سماء الأساطير والأحلام، يعزّ على التحقيق، ويهرب في ضباب الخيالات والأوهام!

{وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} !

قالوا كذلك استبعاداً لأن يكون الله قد أوحى إلى رجل منهم!

وقالوه كذلك تنفيراً للعامة من الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم، وتهويشاً على الحق الواضح في رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم الذي يعرفونه حق المعرفة: إنه ساحرٌ كذّاب!

إنما كان هذا سلاحاً من أسلحة التهويش والتضليل، وحرب الخداع التي يتقنها الكبراء، ويتخذونها لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي يتمثّل في هذه العقيدة، ويزلزل القيم الزائفة، والأوضاع الباطلة التي يستند إليها أولئك الكبراء!

إنها حرب الدعاية ضد الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم؛ لحماية أوضاعهم بين الجماهير في مكّة، ولصدّ القبائل التي كانت تفد إلى مكّة في موسم الحج، عن الرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم!

قال ابن إسحاق (1): ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفرٌ من قريش، وكان

(1) ابن هشام: 1: 334 - 336 معلقاً، والطبري موقوفاً على ابن عباس، وقد صرح بالسماع: 14: 157، وأبو نعيم أيضاً عن سعيد بن جبر: الدلائل: 1: 232، وعبد بن حمد، وابن =

ص: 992

ذا سنٍّ فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدَم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فاجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذِّب بعضكم بعضاً، ويردّ قوله م بعضُه بعضاً، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقمْ لنا رأياً نقول به، قال: بل أنتم، فقولوا أسمعْ، قالوا: نقول: كاهن، قالَ: والله! ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهّان، فما هو بزَمْزَمة الكاهن ولا سجعه (1)، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأَينا الجنون، وعرفناه، فما هو بخَنْقه (2)، ولا تَخَالجُه (3)، ولا وسوسته (4)، قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشَاعر، لقد عرفنا الشعر، كل رجَزه وهَزجه وقريضه ومقبوطه ومبسوطه (5)، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر، قال: ما هو بساجر، لقد رأينا السُّحّار وسحْرهم، فما هو بنفْثهم ولا عقْدهم (6)، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس، قالَ: والله! إن لقوله لحلاوةً، وإن أصله لعَذْق (7)، وإن فَرْعه لجَنَاه (8)!

= المنذر، وابن أبي حاتم مختصراً: الدر المنثور: 6: 282، والواحدي من غير طريق ابن إسحاق: 295 مختصراً.

(1)

الزمزمة: كلام خفي لا يفهم، والسجع: أن يكون الكلام المنثور نهايات كنهايات الشعر.

(2)

يريد الاختناق الذي يصيب الجنون.

(3)

التخالج: اختلاع الأعضاء وتحركها من غير إرادة.

(4)

الوسوسة: ما يلقيه الشيطان في نفس الإنسان.

(5)

الرجز والهزج والقريض والمقبوض والمبسوط: أنواع من الشعر.

(6)

إشارة إلى ما كان يفعل الساحر من أن يعقد خيطاً ثم ينفث عليه، ومنه قوله تعالى:{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)} (الفلق)!

(7)

العَذق: الكثير الشعب والأطراف في الأرض.

(8)

أي فيه تمر يُجنَى.

ص: 993

قال ابن هشام: ويقال لغَدَق وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرِّق بين المرء وأبيه، وبن المرء وأخيه، وبن المرء زوجته، وبن المرء وعشيرته، فتفرّقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسُبُل الناس (1)، حين قدموا الموسم، لا يمرّ بهم أحدٌ إلا حذّروه إيّاه، وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة، وفي ذلك من قوله:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} (المدثر)!

ويروي الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما (2): أن الوليد بن المغيرة جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم، إِن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً، قال: لِم؟ قال: ليعطوكه، فإِنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال: قد علمتْ قريش أنّي من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ فوالله! ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي، ولا أعلم برجزه ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله! ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا! ووالله! إِن لقوله الذي يقول حلاوة، وإِن عليه لطلاوة، وإِنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإِنه ليعلو وما يُعلى عليه، وإِنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك، حتى تقول فيه! قال: فدعني أفكّر، فلما فكّر، قال: هذا سحرٌ يأثره عن غيره، فنزلت:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} !

(1) أي بطرقهم، واحدها سبيل.

(2)

الحاكم: 2: 506، 507 وقال: صحيح، ووافقه الذهبي.

ص: 994

ذلك كان شأن الملأمن قريش في قولهم (1): ساحر كذّاب، وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون، ويعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بساحر ولا كذّاب!

وعجبوا كذلك من دعوته إيّاهم إلى عبادة الله الواحد، وهي أصدق كلمة وأحقّها بالاستماع:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)}

ويصوّر التعبير القرآني مدى دهشتهم من هذه الحقيقة الفطريّة القريبة: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} !

كأنه الأمر الذي لا يتصوّره متصوّر!

{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)} !

حتى البناء اللفظي {عُجَابٌ} يوحي بشدّة العجب وضخامته وتضخيمه!

كما يصوّر طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة، وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئاً غير ظاهرها، وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور، المدركون لما وراء هذه الدعوة من خبيء!

{وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)} !

(1) في ظلال القرآن: 5: 3009 وما بعدها بتصرف.

ص: 995

فليس هو الدّين، وليست هي العقيدة، إنما هو شيءآخر يراد من وراء هذه الدعوة!

شيء ينبغي أن تدعه الجماهير لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبّآت، وإدراك المناورات!

وتنصرف إلى عادتها الموروثة، وآلهتها المعروفة، ولا تعني نفسها بما وراء المناورة الجديدة!

فهناك أربابها الكفيلون بمقاومتها، فلتطمئن الجماهير، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم!

إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة البغاة العتاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامّة، والبحث وراء الحقيقة، وتدبّر ما يواجههم من حقائق خطرة، ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة، وخطر على الكبراء، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير، وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل!

ثم يموّهون على الناس بظواهر العقيدة القريبة منهم، عقيدة أهل الكتاب، بعد ما دخلت إليها الأساطير التي حرفتها عن التوحيد الخالص، فيقولون:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} !

وكانت عقيدة التثليث قد شاعت .. وأسطورة العُزير قد شاعت .. فكبراء قريش كانوا يشيرون إلى هذا وهم يقولون: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)} !

ولقد حرص الإِسلام حرصاً شديداً على تجريد عقيدة التوحيد وتخليصها من كل ما علق بها من الأساطير والأوشاب والانحرافات التي طرأت على

ص: 996

العقائد التي سبقته .. حرص هذا الحرص؛ لأن التوحيد حقيقة أوّليّة كبيرة يقوم عليها هذا الوجود كله، ويشهد بها هذا الوجود شهادة واضحة أكيدة .. ولأن هذا التوحيد في الوقت ذاته قاعدة لا تصلح الحياة البشريّة كلها في أصولها وفروعها إلا إذا قامت عليها!

ونعود إلى مطلع سورة (ص) لنبصر جهالات أحلاس الوثنيّة وعبيد المال (1)، وأنهم بلغوا من بلادة العقل أنهم يقلّدون الملل المنحرفة عن الحق، يتخذونها إماماً في عقيدتهم الإلحادية الشركة ممن حرّفوا كلام الله عن موضعه، وجعلوا للكون آلهة، فلما قيل لهؤلاء الذين يعيشون بعقليّة مستعارة، لا يملكون منها سوّى ترداد ما سممعوا بغير تعقّل قولوا:

"لا إله إلا الله"!

لم تتّسع بلادة عقولهم التقليديّة المستعارة أن يكون إله الخلق إلهاً واحداً، وعجبوا مما قيل لهم تقريراً لوحدانيَّته وتفرده بالإخلاص في التعبّد له، ولهذا قالوا ما قالوا -كما سبق- فأنزل الله تعالى في تسفيه أحلامهم وبيان بلادة عقولهم هذه الآيات، تنعى عليهم ما أهدروه من معالم إنسانيّتهم، وما فضّلهم الله به عن البهائم من نعمة العقل!

هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع مقالتهم، وأدرك مخادعتهم، وأنهم لا يريدون بما طلبوه سواء ولا نصعة، وإنما يريدون تعويق الدعوة عن سيرها، أراد أن يضع أمام عقولهم صورةً واضحةً لحقيقة رسالته في أسلوب بين موجز أشدّ ما يكون إيجاز الإعجاز؛ لأن هذا هو واقع رسالة محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم!

(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 183 وما بعدها بتصرف.

ص: 997

"لا إله إلا الله"!

إننا نبصر عزيمة النبوّة التي تنزع من عقول هؤلاء حواجز البلادة التي تحجب عنهم ضياء الحق .. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب منهم شيئاً أكثر من أن يخرجهم من ظلمات الجهالة العقليّة .. وضلالات الوثنيّة إلى بؤرة الضياء الفكري، والإشراق الروحي، ومنبع الهداية، فهو صلى الله عليه وسلم لم يدعهم إلا إلى كلمة واحدة، هي رأس الأمر كله في رسالته التي يدعو إليها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يتعرّض في موقفه هذا إلى مآثمهم الخلُقية، ولا إلى مفاسدهم الاجتماعيّة، ولا إلى مظاهر الطغيان وعتوّ الاستبداد حيث يعيشون، ولم يسألهم مالهم وثرواتهم، ولا سألهم شرفاً فيهم، فهم أعلم الناس برفعة شرفه وسموّ حسبه .. وإنما عرض عليهم الدعامة العظمى التي تنبثق منها جميع فضائل رسالته .. لتيسير تقتلها والإيمان بها، والهُدى هُدى الله، فلم يقبلوا ما عرضه عليهم، وانصرفوا وهم أشدّ عداوةً له، ولدداً بخصومته، وأضرى سفاهةً، وأشرى أذى، وأخبث طويّةً!

لقد كانت هذه المرحلة من الدعوة مرحلة العزيمة الماضية القويّة التي لا تتزحزح، والصبر الذي لا ينفد، والكفاح الذي لا يتردّد؛ لأنها مرحلة التأسيس للعقيدة، وبناء صرح الرسالة، وإقامة دعائم الدعوة إلى الهُدى والحق، فلو وهنت عزيمة المبلَّغ شيئاً من الوهن، فمالت إلى المهادنة، وتخلّى الصبر المكافح لحظة عنها، وتخفّفت من النضال نَفَساً واحداً لوجد خصومها مداخل إلى تعويقها عن سيرها وعرقلة مسيرتها!

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على أتمّ العلم بهذا كله .. وقد أعد نفسه له ولأكثر منه .. ومن وراء هذا العلم علمه صلى الله عليه وسلم بما يملأ قلوب زعماء الوثنيّة من شرور

ص: 998