المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مع الآيات القرآنية: - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: ‌مع الآيات القرآنية:

‌مع الآيات القرآنية:

ونعود إلى قوله جلَّ شأنه: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)} !

نعود فنبصر هذا القضاء إخباراً من الله تعالى لهم بما سيكون منهم حسب ما سبق في علمه تعالى من مآلهم .. فالله عز وجل قد قضى لبني إسرائيل في الكتاب الذي آتاه موسى أنهم سيفسدون في الأرض مرّتين، وأنهم سيعلون بغير حق على الناس ويستكبرون .. وكلما ارتفعوا بغير حق واتخذوا ذلك وسيلة للإفساد سلّط الله عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمّرهم تدميراً.

وكان من مظاهر إفسادهم في الأرض تحريفهم للتوراة، وتركهم العمل بما جاء فيها، وقتلهم الأنبياء، وافتراؤهم واعتداؤهم على الذين يأمرون بالقسط من الناس، وشيوع الفواحش والرذائل فيهم!

فإن قال قائل (1): وما فائدة أن يخبر الله تعالى بني إسرائيل في التوراة أنهم يفسدون في الأرض مرّتين، وأنه يعاقبهم على ما كان منهم بتسليط الأعداء عليهم للتدمير؟!

فالجواب: أن إخبارهم بذلك يفيد أن الحق تبارك وتعالى لا يظلم الناس شيئاً، وإنما يعاقبهم على ما يكون منهم من إفساد ويعفو عن كثير، وأن رحمته مفتوحة للمفسدين متى أصلحوا وأنابوا إليه!

وهناك فائدة أخرى لهذا الإخبار، نبصرها في تنبيه العقلاء، في جميع الأمم

(1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 3: 35 وما بعدها بتصرف.

ص: 1698

أن يحذروا من مواقعة المعاصي التي تؤدي بالأمة إلى الهلاك، وأن يحذّروا أممهم من ذلك، ويبصّروهم بعواقب العصيان والإفساد في الأرض، حتى لا يعرّضوا أنفسهم لعقوبة الله تعالى!

والفائدة الثالثة من هذا الإخبار، بيان أن الأمم المغلوبة تستطيع أن تستعيد قوّتها، وأن تستردّ مجدها السالف، إذا صحت عزائمها على طاعة الله تعالى، والعمل بما جاءهم به الأنبياء عليهم صلوات الله وتسليماته!

ومن فوائد إيراد هذا الخبر في القرآن الكريم، تنبيه اليهود المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن على شاكلتهم .. إلى سنّة من سنن الله تعالى في خلقه، وهي أن الإفساد في الأرض، والانصراف عن طاعة الله سبحانه، وتعدّي حدوده، والمخالفة لأوامره، والعصيان لرسله .. كل ذلك يؤدّي إلى الخسران في الدّنيا والآخرة، فعلى اليهود ومن على شاكلتهم أن يؤمنوا بخاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، الذي ثبتت نبوّته ثبوتاً لا شك فيه، حتى يسعدوا في دنياهم وأخراهم!

ثم بيّن الحق تبارك وتعالى أنه يسلّط عليهم بعد الإفساد الأول من يقهرهم، ويدمّرهم تدميراً، عقوبةً لهم على ما كان منهم فقال تعالى:

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} !

والمعنى: فإذا جاء وعد عقابكم، يا بني إسرائيل، على أولى المرّتين اللّتين تفسدون فيهما في الأرض، وجّهنا إليكم، وسلّطنا عليكم:{عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} ! ذوي قوة وبطش في الحرب الشديد: {فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} ! تردّدوا بين المساكن لقتالكم، وسلب أموالكم، وتخريب دياركم:{وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)} !

ص: 1699

أي كان ذلك العقاب بسبب إفسادكم في الأرض وعداً نافذاً لا مردّ له، ولا مفرّ لكم منه!

وهكذا يفسد اليهود في الأرض، فيبعث الله عليهم عباداً من عباده أولي بأس شديد، وبطش وقوة، يستبيحون الديار، ويروحون فيها ويغدون باستهتار، ويطؤون ما فيها ومن فيها بلا تهيّب، وكان ذلك وعداً لا يتخلّف!

ثم بيَّن سبحانه أنه إذا ذاق بنو إسرائيل ويلات العذاب والقهر والذل (1)، فرجعوا إلى ربّهم، وأصلحوا أحوالهم، وأفادوا من البلاء المسلّط عليهم .. وحتى إذا استعلى الفاتحون، وغرّتهم قوّتهم، فطغوا هم الآخرون، وأفسدوا في الأرض، أدال الله للمغلوبين من الغالبين، ومكّن للمستضعفين من المستكبرين!

{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} !

فمن الواجب أن تقدروا هذه النعمة، وتحسنوا الاستفادة منها، فقد جرت سنّة الله تعالى أن يمنّ على الذين استضعفوا في الأرض، ويجعلهم أئمة، ويجعلهم الوارثين، متى استقاموا على طريق الحق، وخافوا مقامه، ونهوا أنفسهم عن الهوى!

فعليكم يا بني إسرائيل، أن تذكروا نعمة الله عليكم، وأن تشكروه عليها أجزل الشكر، وأن تؤمنوا بنبيّه محمَّد صلى الله عليه وسلم، الذي تعرفون صدقه كما تعرفون أبناءكم!

(1) في ظلال القرآن: 4: 2214 بتصرف.

ص: 1700

ثم تتكرَّر القصة من جديد!

وقبل أن يتمَّ السياق القرآني بقيّة النبوة الصادقة والوعد المفعول، يقرر قاعدة العمل، والجزاء:{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} !

القاعدة التي لا تتغيّر في الدنيا والآخرة، والتي تجعل عمل الإنسان كله له، بكل ثماره ونتائجه .. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعيّة للعمل، منه تنتج، وبه تتكيّف، وتجعل الإنسان مسؤولاً عن نفسه، إن شاء أحسن إليها، وإن شاء أساء، لا يلومنَّ إلا نفسه حين يحقَّ عليه الجزاء!

فإذا تقرّرت القاعدة مضى السياق يكمل النبوءة الصادقة:

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} !

ويحذف السياق ما يقع من بني إسرائيل بعد الكرّة من إفساد في الأرض، اكتفاء بذكره من قبل:{لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} !

ويثبت ما يسلطه عليهم في المرّة الآخرة:

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} !

بما يرتكبونه معكم من نكال يملأ النفوس بالإساءة، حتى تفيض على الوجوه، أو بما يجبهون به وجوهكم من مساءة وإذلال .. ويستبيحون المقدّسات، ويستهينون بها:

{وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} !

يقال: تبَره وتبَّره، وتبّر الله عمل الكافرين: أي أهلكه (1).

(1) معجم مقاييس اللغة، ولسان العرب، والمفردات، والمعجم الوسيط (تبر).

ص: 1701

قال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)} (الأعراف)!

وقال جل شأنه: {وَلا تَزِد الظَّالمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)} (نوح)!

وفي دوله: {وَلِيتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتبِيرًا (7)} !

يقول ابن جرير: وليدمّروا ما غلبوا عليه من بلادكم تدميراً، يقال منه: دمرت البلد: إذا خرّبته وأهلكت أهله! (1)

وهي صورة للدمار الشامل الكامل الذي يطغى على كل شيء، والذي لا يُبقي على شيء، والذي نرى مشاهده في (غزَّة) الآن!

وكان من ضروب إفسادهم في الأرض في هذه المرّة الثانية قتلهم زكريّا ويحيى عليهما السلام -كما تنطق آثارهم- ومحاولتهم قتل عيسى عليه السلام، وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه، واستحلالهم لمحارم الله .. إلى غير ذلك من الرذائل التي فشت فيهم، واشتهروا بها في كل زمان ومكان، وفي كل جيل وقبيل!

ثم بيّن الحق تبارك وتعالى أن هذا الدّمار الذي حلّ بهم بسبب إفسادهم في الأرض مرتين، قد يكون طريقاً لرحمتهم، وسبباً في توبتهم وإنابتهم، إن هم فتحوا قلوبهم للحق، واعتبروا بالحوادث الماضية، وفهموا عن الحق سنّته التي لا تتخلّف، وهي أن الإحسان يؤدّي إلى السعادة، والإفساد يؤدي إلى الهلاك!

{عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرحَمَكُمْ} ! إن أفدتم منه عبرة!

(1) تفسير الطبري: 15: 43.

ص: 1702

فأمَّا إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد فالجزاء حاضر، والسنة ماضية:{وَإِنْ عُدتُم عُدنَا} !

ولقد عادوا إلى الإفساد، حيث كذَّبوا الرسول صلى الله عليه وسلم -كما هو معلوم، وكتموا ما جاء بشأنه في كتبهم، وهمّوا بقتله صلى الله عليه وسلم أكتر من مرّة، وقدّموا له السمَّ .. فكانت المواجهة .. وكانت المعارك التي فصَّلنا القول فيها -كما سبق- حتى كان إجلاؤهم من الجزيرة كلها!

ثم عادوا إلى الإفساد، فسلّط الله عليهم آخرين، حتى كان العصر الحديث -كما سيأتي- حيث اغتصبوا الأرض، وقتلوا النساء والأطفال، وعاثوا في الأرض فساداً .. وليسلّطنَّ الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، تصديقاً لوعد الله القاطع، ووفاقاً لسنّته التي لا تتخلّف!

وقد بدت المقدّمات للأيادي المتوضئة التي تستحق نصر الله .. وإنَّ غداً لناظره قريب!

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا

} (الأعراف)!

ثم بيَّن سبحانه عقوبتهم ومن على شاكلتهم في الآخرة:

{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)} !

مهاداً وبساطاً لهم، وسجناً حاصراً، لا رجاء لهم في الخلاص، بسبب كفرهم وبغيهم، ففي الدنيا لهم ما تقدّم وصفه من الإهلاك والتدمير، وفي

ص: 1703