الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسطورة الغرانيق
أكذوبة متزندقة:
أقحم بعض كتّاب السيرة النبويّة، وجماعة من المفسّرين، وطوائف من المحدّثين في كتبهم ودواوينهم ومؤلفاتهم (أقصوصة الغرانيق)(1)، وألصقوها بهجرة الحبشة، وجعلوها سبباً لعودة المهاجرين الأوّلين إلى (مكّة)، وهي (أقصوصة مختلقة باطلة في أصلها وفصلها، وأكذوبة خبيثة في جذورها وأغصانها، وفرية متزندقة) اخترقها (غِرْنَوق) أبله جهول، أو حاقد على الإِسلام زنديق، أو منافق فاجر عربيد، ألقى بها إليه شيطان عابثٌ مريد، يتلعّب بعقول البُلْه المغفَّلين، الذين يتكثّرون تعالماً، ويتلقّفون كل شوهاء فجور، فجرت إلى مجتمعات أعداء الإِسلام، ومن كل يهودي خبيث، وكل ملحد عتيّ، وسرت منهم إلى كل مسلم أبله مغرّر، وكل متعالم مغفّل، وكل جدلي متفيهق، وكل مغرور مخدوع بكواذب المدح والثناء، وكل حفّاظ (صمّام)، وكل جمّاع لا يفقه ولا يتفقّه، وكل جامد مقلّد، وكل حرفيّ متعصّب، وكل ملبّس عليه يزعم أنه مجتهد، وكل خابط هنا وهناك يتكذّب، وكل حاطب في ظلمات الجهل، (يتلقّف العلم) من وراء طنين الأسماء، دون تمحيص ناقد، أو بحث مسددّ، وكل مدّع دعيّ، وكل متسقِّط يزعم أنه مجدّد، وكل ملتقط يزعم أنه متنق، وكل مزهو بالغرور يزعم أنه وحيد دهره، وفريد عصره، بل واحد أمته، لو قيل له إن الشيطان يلبّس عليك في علمك، فيوهمك ما ليس بحق أنه حق لانتفخت أوداجه غضباً لنفسه، ولكنه يقبل ويدافع دفاع المستميت
(1) محمد رسول صلى الله عليه وسلم: 2: 30 وما بعدها بتصرف.
عن قصة مزوّرة تهدم أصول الإِسلام، وتخرق سياج النبوّة، وتحبط عصمة الأنبياء، اعتماداً على مراسيل واهية لا تثبت!
فباضت هذه الأكذوبة البلهاء بين أحضان هؤلاء، وفرّخت في أعشاشهم، وزقزقت أفراخها في أوكارهم، وطارت بأجنحة الافتراء الأبله إلى آفاق التاريخ الإِسلامي المظلوم، فتلقّفها كل (رواندي) ملحد، وحملها كل زنديق مفسد، ليطعن بها في سويداء قلب القرآن الكريم، الحكيم المحكم، ويفتك بخنجرها بالسنة المطهّرة المبيّنة، وهما أصل أصول الإِسلام اللذان قام على دعائمهما شامخ صرح هذا (اللّين القيّم)، ليزعزع الثقة بأصْلَيْه، فينفلت من أيدي المسلمين زمام دينهم الذي أنزله الله تعالى هدىً ورحمةً للعالمين، ليهدم به كل بناء للوثنيّة والإلحاد، ويقضي بهدايته على معالم الشرك والإفساد، ويضعضع بآياته كل تفلسف متزندق، وكل زندقة متفلسفة، ويقيم بشرائعه وأحكامه منائر التوحيد الخالص لله تعالى وحده، وينشر بآدابه في آفاق الحياة نور الحق والخير!
هذه الأكذوبة (الغرنوقيّة الخبيثة) تريد من المسلمين أن يجعلوا من سيّد المرسلين، خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم في يد الشيطان، وأن يجعلوا منه صلى الله عليه وسلم معبثة للشرك والمشركين، وأبطولة يرقص من حولها الملاحدة والحاقدون، ولكن الله تعالى يأبى إلا أن يجعل من دينه، دين الإِسلام الذي رضيه لمحمد صلى الله عليه وسلم حصناً حصيناً، لا تقتحمه الأباطيل والترّهات، ولا تنطلي على حذّاق حملته من الجهابذة زندقة المتزندقين، وقد أخبر سبحانه إخباراً لا يتخالجه الريب، ولا يحوم حول حماه الشك، بأنه هو الذي تولى بنفسه حفظ دستوره (القرآن الحكيم المحكم)، فلا يدخل في ساحته افتراء المفترين، ولا يلج إلى حظيرة قدسه عبث الشياطين، فقال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} (الحجر)!
وليتأمل المتأمّلون في هذه الآية الحكيمة المحكمة، وفي قول الله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (المائدة: 44)!
ليروا ما أضفى ربّ العزّة تبارك وتعالى على كتابه القرآن الحكيم المحكم من حفاوة الاختصاص بتولّي حفظه، وإسناد ما أفاضه على التوراة من فضله. فوكل حفظه إلى الربانيّين والأحبار!
قال أبو حيّان في البحر: وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب -أي التوراة- من وجهين:
أحدهما: حفظه في صدورهم، ودرسه بألسنتهم!
والثاني: حفظه بالعمل بأحكامه، واتباع شرائعه!
وهؤلاء ضيّعوا ما استحفظوا، حتى تبدّلت التوراة .. وفي بناء الفعل للمفعول، وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفّل بحفظ التوراة، بل طلب منهم حفظها، وكلّفهم بذلك، فغيّروا وبدّلوا، وخالفوا أحكام الله، بخلاف كتابنا فإن الله تعالى تكفّل بحفظه، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} !
أفلا يعقل الغِرنوقيّون؟!
هذه الأكذوبة الخبيثة البلهاء كانت إحدى الفرى الحاقدة التي طوّفت ببعض مؤلّفات الجمّاعين للغثّ والسّمين، فرواها في غفلة من العقل والعلم بعض المفسدين، وأدخلت على بعض المحدّثين، مغلّفةً بأغلفة الأسانيد، محاطة
بهالات بريق الأسماء، فردّدها بأساليب مختلفة، وفرطحها كثير ممن تلقّفها بالبله والغفلة، ورتعت في أسفار المؤرخين، فأعادوا فيها وأبدوا، وزادوا ونقصوا، وأثبتوا وحذفوا، وشوّهوا وزيّنوا، ومسخوا وحرّفوا، وتلقّاها القصّاصون فغنّوا بها، وكان إبليس هو عازف موسيقاها في أنديتهم ومجالسهم، وعازفاً لسماع أباطيلها شفاه الجاهلين من غوغاء العامّة، وعامّة الغوغاء الذين تكبر في صدورهم الغرائب والأعاجيب من المضحات المبكيات، فيهشون لها، ويتزاحمون على محافلها!
بيد أن هذه الأقصوصة الخبيثة والأكذوبة البلهاء، لم تفلت من سياط النقد الممحّص، فنهض إليها من الجهابذة المهرة، والحذّاق العيالم من أئمة الإِسلام المشهود لهم بالفضل والصّدق والتبحّر، والتفقّه في الدين مَنْ طعنها في مقاتلها، فبهرج زيفها، وكشف عن سوأتها، وعرّاها شوهاء متزندقة، وجلاّها بلهاء ملحدة، وأظهرها فريةً مستخبثة، ولكنها ظلّت تعيش في أودية الشياطين تتربّص للوثبة، لتفسد على المجتمع المسلم حياته الإيمانيّة بتشكيكه في أصل من أصول دينه، ودستور حياته (القرآن الحكيم المحكم)، وتزعرع ثقته في صدق نبيّه، سيّد الأنبياء والمرسلين، محمد خاتم النبيّين صلى الله عليه وسلم، ليصبح هذا المجتمع المسلم الذي اكتسح حياة الوثنيّة، والإلحاد المشرك، بهُدى قرآنه، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فريسة الإلحاد الجديد على ألسنة المستشرقين والمبشّرين الصليبيّين واليهود السبائيّين، والزنادقة الراونديين، والمتحلّلين من فجّار الشيوعيّن الذين عجزوا عن مواجهة القرآن في مواجهة فكريّة، ومحاجّة علميّة، فلاذوا إلى الافتراء يختلقونه، وإلى الأباطيل يزرعونها في أرضه في غفلة من حرّاسه الغرّ الميامين، ليغيّروا معالم هدايته، ويشوّهوا حقائق دستوره -ويخلعوا عن نبيّه سيّد الأنبياء