الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا، والسلام -كما عرفنا- دين الأمن والسلام منذ أوّل بيت للعبادة وضع في الأرض إلى أن تقوم الساعة!
ملّة إبراهيم:
وهنا يطالعنا موقف إبراهيم عليه السلام من قومه الكلدانيّين الذين كانوا يعبدون الأصنام، كما كانوا يعبدون الكواكب والنجوم، ونحن نقرأ:
إنه مشهد رائع باهر، مشهد الفطرة تنكر تصوّرات الجاهليّة وتستنكرها (1) تنطلق على لسان إبراهيم عليه السلام.
واختار سبيل العقل، وطريق الحجة .. وسلك طريقًا في الحوار حكيمًا، ومنهجًا في البيان قويمًا!
(1) انظر تفسير الطبري: 7: 242 وما بعدها، وابن كثير: 149 وما بعدها، والشوكاني: 2: 138 وما بعدها، والفخر الرازي: 7: 34 وما بعدها، والآلوسي: 7: 183 وما بعدها، وزاد المسير: 3: 70 وما بعدها، وابن عطيّة: 5: 251 وما بعدها، وبدائع التفسير: 2: 151 وما بعدها، والقاسمي: 6: 2368 وما بعدها، والمنار: 7: 533 وما بعدها، والتحرير والتنوير: 7: 310 وما بعدها.
وأعلن براءته من معبوداتهم، وأفاض في الحديث عمن يخصّه بخضوعه، وأقام الأدالة على أن الربّ جلّ شأنه لا يكون كوكبًا يلمع، ولا قمرًا يطلع، ولا شمسًا تسطع!
إنها العقيدة، فوق روابط الأبوّة والبنوّة، وفوق مشاعر الحلم والسماحة .. وهذا هو منطق الفطرة (1) .. وعيٌ لا يطمسه الركام، وبصرٌ يلحظ ما في الكون من عجائب صنع الله، وتدبّر يتبع الشاهد حتى تنطق له بسرّها المكنون، وهداية من الله جزاءً على الجهاد فيه!
وكانت المواجهة: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)} !
إنه الاتجاه إلى فاطر السماوات والأرض!
الاتجاه الحنيف الذي لا ينحرف إلى الشرك!
الكلمة الفاصلة واليقين الجازم!
فلا تردّد بعد ذلك ولا حيرة فيما تجلّى للعقل من تصوّر مطابق للحقيقة التي في الضمير!
ها نحن نشهد ذلك المشهد الرائع الباهر .. مشهد العقيدة وقد استعلنت في النفس، واستولت على القلب، بعدما وضحت وضوحها الكامل، وانجلى عنها الغبش!
نشهدها وقد ملأت الكيان الإنساني، فلم يعد وراءها شيء، وقد سكبت فيه الطمأنينة الواثقة بربّه .. في قلبه وعقله وفي الوجود من حوله!
وهو مشهد يتجلّى بكل روعته وبهائه في الآيات التالية مباشرة:
(1) في ظلال القرآن: 2: 1141 وما بعدها بتصرف.
إن الفطرة حين تنحرف تضل .. ثم تتمادى في ضلالها، وتتّسع الزاوية، ويبعد الخط عن نقطة الابتداء، حتى ليصعب عليها أن تثوب!
وهؤلاء يعبدون ما يعبدون، فلا يتفكّرون ولا يتدبّرون هذه الرحلة الهائلة التي تمَّت في نفس إبراهيم عليه السلام!
ولم يكن هذا داعيًا لهم للتفكر والتدبّر، بل جاؤوا يجادلونه ويحاجّونه، وهم على هذا الوهن الظاهر في تصوّراتهم وفي ضلال مبين!
ولكن إبراهيم الذي وجد الله في قلبه وعقله، وفي الوجود كله من حوله، يواجههم مستنكرًا في طمأنينة ويقين:{قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} !
أتجادلونني في الله تعالى، وهو يأخذ بيدي، ويفتح بصيرتي، ويهديني إليه، ويعرفني به؟!
لقد أخذ بيدي وقادني فهو موجود .. وهذا هو في نفسي دليل الوجود .. لقد رأيته في ضميري وفي وعيي، كما رأيته في الكون من حولي، فما جدالكم في أمرانا أجده في نفسي، ولا أطلب عليه الدليل، فهدايته لي إليه هي الدليل!
{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} !
وكيف يخاف من وجد الله؟
وماذا يخاف ومن ذا يخاف؟
وكل قوّة -غير قوّة الله- هزيلة!
وكل سلطان -غير سلطان الله- لا يُخاف!
ولكن إبراهيم عليه السلام في عمق إيمانه، واستسلام وجدانه، لا يريد أن يجزم بشيء إلا مرتكنًا إلى مشيئة الله الطليقة، وإلى علم الله الشامل:
{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)} !
إنه يكل إلى مشيئة الله حمايته ورعايته، ويعلن أنه لا يخاف من آلهتهم شيئًا؛ لأنه يركن إلى حماية الله ورعايته، ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما شاء الله، ووسعه علمه الذي يسع كل شيء!
إنه منطق المؤمن الواثق المدرك لحقائق الوجود!
إنه إن كان أحد قمينًا بالخوف فليس هو إبراهيم!
وليس المؤمن المطمئن الذي يمضي في الطريق!
وكيف يخاف ما أشرك هؤلاء، ولا ما يتبدّى -أحيانًا- في صورة جبّارين في الأرض بطاشين، وهم أمام قدرة الله مهزولون مضعوفون!
كيف يخاف إبراهيم هذه الآلهة الزائفة العاجزة، ولا يخافون هم أنهم أشركوا بالله، ما لم ينزل به سلطانًا، ولا قوّةً من الأشياء والأحياء؟
هذا، وأيّ الفريقين هنا أحق بالأمن؟
الذي يؤمن بالله تعالى ويكفر بالشركاء؟
أم الذي يشرك بالله ما لا سلطان له ولا قوّة؟
وهنا يتنزّل الجواب من الملأ الأعلى، ويقضي الله بحكمه:
الذين آمنوا وأخلصوا أنفسهم لله، لا يخلطون بهذا الإيمان شركاً في عبادة ولا طاعة ولا اتجاه!
هؤلاء لهم الأمن!
وهؤلاء هم المهتدون!
لقد كشف لهم عن وَهَن ما هم عليه من تصوّرهم أن هذه الآلهة تملك أن تسيء إليه .. وواضح أنهم ما كانوا يجحدون وجود الله، ولا أنه هو صاحب القوّة والسلطان .. ولكنهم كانوا يشركون به هذه لآلهة .. فلما واجههم إبراهيم بأن من كان يخلص نفسه لله لا يخاف من دونه، فأمّا من يشرك بالله فهو أحق بالخافة .. سقطت حجّتهم، وعلت حجّة إبراهيم عليه السلام، وارتفع على قومه عقيدةً وحجّةً ومنزلةً!
يروي الشيخان وغيرهما عن عبد الله قال: لمَّا نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} . قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم؟ فأنزل الله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} (لقمان)! (1)
(1) البخاري: 2 - الإيمان (32)، وانظر (3360، 3428، 3429، 4629، 4776، 6918، 6937)، ومسلم (124)، وأحمد: 1: 378، 424، 444، والطيالسي (270)، والترمذي (3067)، والنسائي: الكبرى (11165، 11390)، والتفسير (186 ط 410)، =