الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-
المعْلم الثاني:
ثم جاء بعد هذا الوصف وصف آخر يحمل خصيصة دامغة لهذا الطاغية في صورته النموذجيّة، ومعه قرينه الذي لا يفارقه، فكانا في تمثيل نموذج الإفساد في الأرض كأنهما غصنان من عوسجة الشرّ الوخيم، يرتبطان بما قدّمته الأولى من وصفَيْ المهانة والمبالغة في كثرة الحلف ارتباط الفرع بالأصل:{هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} والهمّاز هو العيّاب الذي يتسقط العيوب فيلصمها بالبرآء، ويتلقطها من أفواه الشرّيرين ليضعها على هامات الخيرين، حتى يتساووا معه في شرّيته، كما قال تعالى في وصف طبيعة هؤلاء الباغين للناس التورّط في حمأة الشر والفساد معهم، حتى تعالوا في سوء أطماعهم أن يتناولوا الشمس بأيديهم ليطفئوا نورها بأفواههم، فعتوا عتوًّا كبيراً، وودّوا لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مالأهم ليمالئوه، وداهنهم فيداهنوه، بعد أن دمغهم بتكذيب الأنبياء والمرسلين:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} .
قال ابن عباس وعطية والضحاك والسدي: ودّوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم، وعن ابن عباس أيضاً: ودُّوا لو تُرخَّص لهم فيرخَّصون لك، وقال الفراء وغيره: لو تلين فيلينون لك، والآدّهان: التليين لمن لا ينبغي له التليين!
وقال مجاهد: المعنى ودّوا لو ركَنْت إليهم وتركت الحق فيمالئونك، وقال الربيع بن أنس: ودّوا لو تكذب فيكذبون، وقال قتادة: ودّوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك، ونقل القرطبي اثني عشر قولاً! (1)
وقد أخبر الله تعالى في سورة نزلت برسم هؤلاء المفسدين العيّابين،
(1) تفسير القرطبي: 8: 230، وانظر: تفسير الشوكاني: 5: 268.
الهمازين للناس، بأن لهم الويل، أي الخزي والنكال في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، فقال تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)} [الهمزة]. والذي يشغل نفسه بتسقط ما يعيب به الناس ليشينهم في مجتمعهم، ويحقرهم بين قومهم، ويسقط مروءاتهم في بيئاتهم لا يزال رأيه الإفساد بين كل متوافقين، والتفريق بين كل متحابّين، والتعكير بين كل متصافين؛ لأن ارتباط الناس بالتوافق والمحبّة ومعاشراتهم بالمصافاة والمودّة يغيظ الهمّاز المشاء بالنميمة، لسوء مخبره، وكراهيته لكل خيريرى عليه الناس!
وهذا هو المشاء بالنميمة الهمّاز اللماز، وصاحب هذه الخليقة الدنيئة مبغض محقور في الدنيا، مطرود من رحمة الله في الآخرة، وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن حذيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يدخل الجنّة قتات"(1).
والقتّات هو النمّام، وهو الذي ينقل الحديث على وجه الإغراء بين المرء وصاحبه!
قال العلماء: وينبغي لمن حملت إليه نميمة ألا يصدّق من نمّ له، ولا يظن بمن نمّ عنه ما نقل عنه، ولا يبحث عن تحقيق ما ذكر له، وأن ينهاه، ويقبح له فعله، وأن يبغضه إن لم ينزجر، وألا يرضى لنفسه ما ينهى النمّام عنه، فينمّ هو على النمّام، فيصير نماماً. وهذا كله إذا لم يكن في الفعل مصلحة شرعيّة، وإلا
(1) البخاري: 78 - الأدب (6056)، والأدب المفرد (322)، ومسلم (105)، والحميدي (443)، وأحمد: 5: 397، 332، 389، 392، 397، 402، 404، والطيالسي (421)، وأبو داود (4871)، والترمذي (2026)، وابن أبي الدنيا: الصمت (254)، وابن حبان (5765)، والطبراني: الكبير (3021)، والأوسط (4204)، والصغير (561)، والقضاعي (876)، والبيهقي: 8: 166، 10: 247، والآداب (137)، والبغوي (3569).