الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نهاية الظالمين:
وفي نفس السورة يطالعنا قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} (إبراهيم)!
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحسب الله غافلاً عمّا يعمل الظالمون .. ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتّعون ويسمع بوعيد الله، ثم لا يراه واقعاً بهم في هذه الحياة الدّنيا، فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخيرة، التي لا إمهال بعدها، ولا فكاك منها .. أخذهم في اليوم العصيب التي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرّك .. ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول، مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء، ولا يلتفتون إلى شيء .. رافعين رؤوسهم، لا عن إرادة، ولكنها مشدودة لا يملكون لها حراكاً، يمتدّ بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب، فلا يطرف ولا يرتدّ إليهم، وقلوبهم من الفزع خاوية خالية، لا تضم شيئاً يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه، فهي هواء خواء!
هذا هو اليوم الذي يؤخّرهم الله إليه، حيث يقفون هذا الموقف، ويعانون هذا الرعب، الذي يرتسم من خلال المقاطع الأربعة مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب:{إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} !
فالسرعة المهرولة المدفوعة، في الهيئة الشاخصة المكرهة المشدودة، مع
القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي ومن كل إدراك .. كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه بالأبصار!
هذا هو اليوم الذي يؤخرّهم الله إليه، والذي ينتظرهم بعد الإمهال هناك، فأنذر الناس أنه إذا جاء فلا اعتذار إلى الله يومئذ ولا فكاك منه .. وهنا يرسم مشهداً آخر لليوم الرعيب المنظور:{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} (إبراهيم)!
أنذرهم يوم يأتيهم ذلك العذاب المرسوم آنفاً، فيتوجه الذين ظلموا يومئذ إلى الله بالرجاء، يقولون:{رَبَّنَا} !
الآن وقد كانوا يكفرون به من قبل، ويجعلون له أنداداً! {أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} !
وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب .. كأنهم ماثلون شاخصون ويطلبون .. وكأننا في الآخرة، وقد انطوت الدّنيا وما كان فيها، فها هو الخطاب يوجّه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب، والتذكير بتفريطهم في تلك الحياة:{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} !
فكيف ترون الآن؟! زلتم يا ترى أم لم تزالوا؟! ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم مثلاً بارزاً للظالمين ومصيرهم المحتوم: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)} !
فكان عجيباً أن تروا مساكن الظالمين أمامكم، خالية منهم، وأنتم فيها خلفاء، ثم تقسمون مع ذلك:{مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)} !
وعند هذا التبكيت ينتهي المشهد، وندرك أين صاروا، وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الرَّجاء!
وإن هذا المثل ليتجدّد في الحياة، ويقع كل حين .. فكم من طغاة بغاة عتاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم، وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم، ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبّرون، ويسيرون حذو النّعل بالنّعل سيرة الهالكين، فلا تهزّ وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها، والتي تتحدّث عن تاريخ الهالكين، وتصوّر مصائرهم للناظرين، ثم يؤخذون أخذة الغابرين، ويلحقون بهم، وتخلو منهم الديار بعد حين!
ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك، إلى واقعهم الحاضر، وشدّة مكرهم بالرسول والمؤمنين، وتدبيرهم الشرّ في كل نواحي الحياة، فيلقي في الرّوع أنهم مأخوذون إلى ذلك الضمير، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير:{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)} !
إن الله محيط بهم وبمكرهم، وإن كان مكرهم من القوّة والتأثير حتّى ليؤدّي إلى زوال الجبال، أثقل شيء وأصلب شيء، وأبعد شيء عن تصوّر التحرّك والزّوال، فإن مكرهم هذا ليس مجهولاً، وليس خافياً، وليس بعيداً عن متناول القدرة، بل إنه لحَاضر {عِنْدَ اللَّهِ} يفعل به كيفما يشاء:{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} !
فما لهذا المكر من أثر، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر، وأخذ الماكر أخذ عزيز مقتدر:{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)} !
لا يدع الظالم يفلت، ولا يدع الماكر ينجو .. وكلمة الانتقام هنا تلقي الظلّ المناسب للظلم والمكر، فالظالم الماكر يستحق الانتقام، وهو من الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم، تحقيقاً لعدل الله في الجزاء، وسيكون ذلك لا محالة:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} !
ولا ندري نحن كيف يتمّ هذا، ولا طبيعة الأرض الجديدة، وطبيعة السماوات، ولا مكانها، ولكن النصّ يلقي ظلال القدرة التي تبدّل الأرض وتبدّل السماوات، وفي مقابل ذلك المكر الذي مهما اشتدّ فهو ضئيل عاجز حسير! وفجأة ترى ذلك قد تحقّق:{وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)} !
وأحسّوا أنهم مكشوفون لا يسترهم ساتر، ولا يقيهم واق .. ليسوا في دورهم، وليسوا في قبورهم .. إنما هم في العراء أمام الواحد القهّار .. ولفظة {الْقَهَّارِ} هنا تشترك في ظلّ التهديد بالقوّة القاهرة التي لا يقف لها كيد الجبابرة، وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال!
ثم ها نحن أولاء أمام مشهد من مشاهد العذاب العنيف القاسي المذل، يناسب ذلك المكر وذلك الجبروت:{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} !
فمشهد المجرمين: اثنين اثنين مقرونين في الوثاق، يمرّون صفًّا وراء، صفٍّ .. مشهد مذلّ دالّ كذلك على قدرة القهّار .. ويضاف إلى قرنهم في