الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الوصف كان يقتضي إكرامهم وتعظيمهم ومحبّتهم، فعاملوهم ضدّ ما يقتضي أن يعاملوا به!
وهذا شأن أعداء الله دائماً، ينقمون على أوليائه ما ينبغي أن يحبّوا ويكرموا لأجله، كما قال تعالى:
مفرق الطريق:
وفي سورة العنكبوت أيضاً يطالعنا قوله تعالي:
(العنكبوت).
وهنا نبصر ذلك النموذج من النفوس في استقبال فتنة الإيذاء بالاستخذاء، ثم الادعاء العريض عند الرخاء، في كلمات معدودات .. صورة واضحة الملامح، بارزة السمات!
نبصر ذلك النموذج من الناس، يعلن كلمة الإيمان في الرخاء يحسبها خفيفة العمل، هيّنة المؤونة، لا تكلف إلا نطقها باللسان، {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} ! بسبب الكلمة التي قالها وهو آمن معافى {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} ! فاستقبلها في جزع، واختلّت في نفسه القيم، واهتزّت في ضميره العقيدة، وتصوّر أن لا عذاب بعد هذا الأذى الذي يلقاه -حتى عذاب الله! وقال
في نفسه: ها هو ذا عذاب شديد أليم، ليس وراءه شيء، فعلام أصبر على الإيمان، وعذاب الله لا يزيد على ما أنا فيه من العذاب؟ وإن هو إلا الخلط بين أذى يقدر على مثله البشر، وعذاب الله الذي لا يعرف أحد مداه.
هذا موقف ذلك النموذج من الناس في استقبال الفتنة في ساعة الشدّة: {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} ! إنا كنا معكم .. وذلك كان موقفهم في ساعة العسرة من التخاذل والتهافت والتهاوي، وسوء التصوير وخطأ التقدير، ولكن حين يجيء الرخاء تنبث الدعوى العريضة، وينتفش المنزوون المتخاذلون، ويستأسد الضعفاء المنهزمون فيقولون:{إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} .. {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)} ؟!
أوَليس يعلم ما تنطوي عليه تلك الصدور من صبر أو جزع، ومن إيمان أو نفاق؟ فمن الذي يخدعه هؤلاء، وعلى من يموّهون؟
{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)} ! وليكشفنّهم فيُعرفون، فما كانت الفتنة إلا ليتبيَّن الذين آمنوا ويتبيَّن المنافقون!
ونقف لحظة أمام التعبير القرآني الدقيق، وهو يكشف عن موضع الخطأ في هذا النموذج من الناس حين يقول:{جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} !
فليس الأمر أن صبرهم قد ضعف عن احتمال العذاب، فمثل هذا يقع للمؤمنين الصادقين في بعض اللحظات -وللطاقة البشريّة حدود- ولكنهم يظلُّون يفرقون تفرقةً واضحةً في تصوّرهم وشعورهم بين كل ما يملكه البشر لهم من أذى وتنكيل، وعذاب الله العظيم، فلا يختلط في حسّهم أبداً عالم الفناء الصغير وعالم الخلود الكبير، حتى في هذه اللّحظة التي يتجاوز عذاب الناس
لهم مدى الطاقة وجهد الاحتمال .. إن الأمر في حس المؤمن لا يقوم له شيء، مهما تجاوز الأذى طاقته واحتماله .. وهذا هو مفرق الطريق بين الإيمان في القلوب والنفاق!
وفي نفس السورة يطالعنا قول الله تعالى:
بعد ذكر مصارع الطغاة البغاة العتاة من الكفرة والظلمة والفسقة على مدار القرون .. وبعد الحديث في مطلع السورة عن الفتنة والابتلاء، والإغراء -كما أسلفنا (1) - يطالعنا المثل لحقيقة القوى المتصارعة في هذا المجال .. وهنا نبصر قوة واحدة، هي قوة الله .. وما عداها فهو هزيل واهن .. من تعلَّق به أو احتمى فهو كالعنكبوت الضعيفة تحتمي ببيت من خيوط واهية، فهي وما تحتمي به سواء.
إنه تصوير عجيب صادق لحقيقة القوى في هذا الوجود .. الحقيقة التي غفل عنها الناس أحياناً، فيسوء تقديرهم لجميع القيم، ويفسد تصورهم لجميع الارتباطات، وتختلّ في أيديهم جميع الموازين، ولا يعرفون إلى أين يتوجّهون .. ماذا يأخذون، وماذا يدعون؟
وعندئذ تخدعهم قوّة الحكم والسلطان .. يحسبونها القوّة القادرة التي
(1) السابق: 2736 بتصرف.
تعمل في هذه الأرض، فيتوجهون إليها بمخاوفهم ورغائبهم، ويخشونها ويفزعون منها، ويترضّونها ليكفّوا عن أنفسهم أذاها، أو يضمنوا لأنفسهم حماها!
وتخدعهم قوّة المال، يحسبونها القوة المسيطرة على أقدار الناس وأقدار الحياة، ويتقدّمون إليها في رغب وفي رهب، ويسعون للحصول عليها، ليستطيلوا بها، ويتسلّطوا على الرقاب، كما يحسبون!
وتخدعهم قوّة العلم، يحسبونها أصل القوّة، وأصل الإيمان، وأصل سائر القوى التي يصول بها من يملكها ويجول، ويتقدّمون إليها خاشعين، كأنهم عباد في المحاريب!
وتخدعهم هذه القوى الظاهرة .. تخدعهم في أيدي الأفراد، وأيدي الجماعات، وأيدي الدول، فيدورون حولها، ويتهافتون عليها، كما يدور الفراش على المصباح، وكما يتهافت الفراش على النار!
وينسون القوّة الوحيدة التي تخلق سائر القوى الصغيرة، وتملكها، وتمنحها، وتوجّهها، وتسخّرها كما تريد حينما تريد!
وينسون أن الالتجاء إلى تلك القوى، سواء كانت في أيدي الأفراد، أو الجماعات أو الدول .. كالتجاء العنكبوت إلى بيت العنكبوت .. حشرة ضعيفة رخوة واهنة، لا حماية لها من تكوينها الرخو، ولا وقاية لها من بيتها الواهن!
وليس هنالك إلا حماية الله، وإلا حماه، وإلا ركنه القويّ الركين!
هذه الحقيقة الضخمة هي التي عُني القرآن بتقريرها في نفوس الفئة المؤمنة،
فكانت بها أقوى من جميع القوى التي وقفت في طريقها، وداست بها على كبرياء الجبابرة في الأرض، ودكَّت بها المعاقل والحصون!
لقد استقرّت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس، وعمرت كل قلب، واختلطت بالدم، وجرت معه في العروق، ولم تعد كلمة تقال باللسان، ليس لها في الجَنان مكان، ولا قضيّة تحتاج إلى جدل؛ بل بديهة مستقرة في النفس، لا يجول غيرها في حسّ ولا خيال!
قوّة الله وحدها هي القوّة .. وولاية الله وحدها هي الولاية .. وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل، مهما علا واستطال، ومهما تجبّر وطغى، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل!
إنها العنكبوت .. وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)} !
وإن أصحاب الدعوات الذين يتعرّضون للفتنة والأذى، وللإغراء والإغواء -كما أسلفنا- لجديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة، ولا ينسوها لحظة، وهم يواجهون القوى المختلفة، هذه تضرّ بهم، وتحاول أن تسحقهم .. وهذه تستهويهم، وتحاول أن تشتريهم .. وكلها خيوط العنكبوت في حساب الله، وفي حساب العقيدة حين تصحّ العقيدة، وحين تعرف حقيقة القوى، وتحسنُ التقويم والتقدير:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} !
إنهم يستعينون بأولياء يتخذونهم من دون الله، والله يعلم حقيقة هؤلاء الأولياء .. وهي الحقيقة التي صوَّرت في المثل السابق .. عنكبوت تحتمي بخيوط العنكبوت! {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} !