الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يفرغ من جمع حتى يتجه إلى جمع، يطلب زيادة من عنده من المال والبنين وبسط العيش!
ثم جاءت الآية بعدها: {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} [المدثر].
تزجره عن الانسياق مع مطامع نفسه الخبيثة، وهو على ما هو عليه من خبث الطويّة ومكر السوء، ثم تقرّر الآية الكريمة بعد هذا الزجر بيان الحكمة في إنكار طمعه في الزيادة، والتعجب من حاله، وغروره في فجره وكفوره!
وفي الآية تيئيس له من الزيادة، ووعيد بالنقصان، ولهذا قال المفسرون: ولم يزل الوليد في النقصان بعد قول الله تعالى: {كَلًا} حتى افتقر، وخرف، ومات كفوراً فقيراً!، ووصفه في الآية بالعنيد لآيات الله بيان لشدّة فجوره وطغيانه، ومجاوزته كل عتوّ وإثم، فالعنيد مبالغة من العناد، وهو مجاوزة الحدّ، وأريد به هنا الذي عرف الحق بقلبه وعقله، وأنكره بقوله وفعله واعتقاده، استكباراً وغلواً في الجبروت والكفر، وفي تقديم المتعلّق {لآَيَاتِنَا} على متعلّقه {عَنِيدًا} تخصيص، كأنه قيل لأنه عنيد لآياتنا نحن الذين أنعمنا عليه بشتّى النعم، لا لآيات غيرنا، ممن لم يكن في استطاعته أن ينعم عليه بشيء!
32 - خصائص هذا النموذج:
وفي هذا التخصيص تسجيل لبالغ كفره، وشدّة عتوّه وفجوره، وسوء عناده.
قال الفخر الرازي (1): وفي هذه الآية إشارة إلى أمور كثيرة من صفاته:
(1) التفسير الكبير: 30: 200 بتصرف، دار إحياء التراث، ط ثالثة.
أحدهما: أنه كان معانداً في جميع الدلائل الدالة على التوحيد، والعدل، والقدرة، وصحة النبوّة وصحة البعث، وكان هو منازعاً في الكل منكراً للكل!
وثانيها: أن كفره كان كفر عناد، كان يعرف هذه الأشياء بقلبه، إلا أنه كان ينكرها بلسانه، وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر!
وثالثها: أن قوله {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)} يدل على أنه من قديم الزمان كان على هذه الحرفة والصنعة!
ورابعها: أن قوله -أيضاً- يفيد أن تلك المعاندة كانت منه مختصّة بآيات الله تعالى وبيّناته، فإن تقديره: إنه كان لآياتنا عنيداً لا لآيات غيرنا، فتخصيصه هذا العناد بآيات الله، مع كونه تاركاً للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران! ثم جاءت الآية التالية:{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)} (المدثر).
تقرّر ما أعدّه الله لهذا الطاغية من سوء العذاب في الآخرة، إلى جانب ما أرهقه به من سلب ما أنعم به عليه في الدنيا، كما أفادته كلمة الزجر {كلًا} عن الطمع في الزيادة، وأنه سيعامل بنقيض مقصوده من النقصان والسلب بعد العطاء، والإرهاق تحميل الشدائد وتكليفه إيّاها، {صَعُودًا} مثل لما يلقى المرهق من أثقال العذاب ومشاقه وصعائده مما لا يطاق مثله، وهو مأخوذ من قولهم عقبة صعود وكدود، أي شاقّة المصعد، والمعنى أن الله تعالى توعد هذا الطاغية بأنه سيجد عذاباً شديداً لا يطيقه، جزاء عناده في كفره وجحوده بإنعام الله عليه!
ثم ذكر الله تعالى حال هذا الطاغية في عتوّه وعناده في كفره، وأن كفره كان كفراً مقصوداً مرتّباً قائماً على التفكير والتقدير، فالطاغية العنيد قد فكر
وتدبّر، لا ليستبين الحق فيعتقده، والهدى فيتبعه، ويؤمن به، ولكنه فكّر ودبّر، وقدّر وهيّأ أموراً يردّ بها الحق الذي عرفه، واعترف به، فقال تعالى:{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)} (المدثر).
ثم عجيب العقلاء من أمره في تفكيره وتدبيره، سخرية واستهزاء منه؛ لأنه زعم أنه بتفكيره وتدبيره، وتهيئته ما هيئ في نفسه من لغو وفساد، مما يؤثر في سير رسالة الحق، قال تعالى:{فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)} (المدثر).
أي هلك وأهلك، وقُهر وغُلب على أمره، وذلّ بعد عزّة في قومه، وافتقر بعد الثراء والغنى، وطُرد طرداً أبديًّا من رحمة الله:{كَيْفَ قَدَّرَ (19)} !
على أيّ حال هيأ ما هيّأ من الزور والبهتان، وركيك التفكير، وسفساف التدبير، ثم أكّد الله تعالى قهره ولعنته، وما باء به من الخسران، فقال -جلَّ شأنه-:{ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)} (المدثر).
أي مع كونه هيّأ في نفسه كلاماً يردّ به على قومه في أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم يأثرونه عنه، ويلقون به وفود العرب محذّرين، لم يستطع أن يقنع نفسه بما فكّر وقدّر ودبّر وهيّأ، فرجع وهو مغيظ محنق ينظر ويفرغ النظر في أمره صلى الله عليه وسلم، ويطيل التفكير والتدبير، فيزداد غيظاً وحنقاً، وكلما اشتد غيظه وحنقه ضاقت به الدنيا، وضاق بها، قهره الغيظ {عَبَسَ} وقطّب جبينه، واسودّ وجهه، واكفهر سمته، وتغيرّ رسمه، {وَبَسَرَ} كالحاً ممسوخاً عن إنسانيّته، وأخذ عن نفسه وتفكيره، واستولى عليه الدهش، وتملكته الحيرة، فلم يدر ما يقول في أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو قد أعلن على قومه جهراً، وأوهم من حوله وهم يتسقطون رأيه، ويستنزلون وحي شيطانه أنهم ما من شيء يتهمون به محمداً صلى الله عليه وسلم مما زعموا