الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:
ولم يقف أمر هؤلاء عند حد هذا السبّ للقرآن ومنزله من وجاء به، فقد اتصلوا باليهود للإتيان منهم بأسئلة تعجيزيّة كما يتصوّرون للرسول صلى الله عليه وسلم:
-
السؤال عن الروح:
يروي أحمد وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (1): قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الرُّوح، فسألوه، فنزلت:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)} (الإسراء)!
قالوا: أوتينا عِلْماً كثيراً، أُوتينا التوراة، ومَن أوتِيَ التوراة، فقد أوتي خيراً كثيراً، فأنزل الله عز وجل:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ} (الكهف: 109)!
ويروي الشيخان وغيرهما عن عبد الله قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خِرَب المدينة وهو يتوكّأ على عسيبٍ معه فمرّ بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض (2): سلوه عن الرّوح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يجيء
(1) أحمد: 1: 255، والترمذي (3140)، والنسائي: التفسير (334)، والكبرى (11314)، وأبو يعلى (2501)، والحاكم: 2: 531، والبيهقي:"الدلائل": 2: 269، وابن حبان (99).
(2)
البخاري: 13 العلم (125)، وانظر (4721، 7297، 7456، 7462)، ومسلم (2794) وأحمد: 1: 389، 444، والترمذي (3141)، والنسائي: التفسير (319)، والكبرى (11299)، والطبري: التفسير: 15: 155، والشاشي (369)، والطبراني: الصغير (1003)، والواحدي: أسباب النزول: 299، وابن حبان (98).
فيه بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسألنّه، فقام رجل منهم، فقال: يا أبا القاسم، ما الرُّوح؟ فسكت، فقلت: إِنه يوحى إِليه، فقمت، فلمَّا انجلى عنه، فقال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء]
قال ابن حجر: في رواية عن ابن عباس عند الطبري، "فقالوا: أخبرنا عن الروح؟ " قال ابن التين: اختلف الناس في المراد بالروح المسؤول عنه في هذا الخبر على أقوال (1):
ثم قال: وقد روى ابن إسحاق في تفسيره بإسناد صحيح عن ابن عباس، قال: الروح من الله، وخلق من خلق الله وصور كبني آدم، لا ينزل ملك إلا معه واحد من الروح، وثبت عن ابن عباس أنه كان لا يفسر الروح، أي لا يعين المراد في الآية!
وقال الخطابي: حكوا في المراد بالروح في الآية أقوالاً:
قيل: سألوه عن جبريل!
وقيل: عن ملك له ألسنة!
وقال الأكثر: سألوه عن الروح التي تكون بها الحياة في الجسد!
وقال أهل النظر: سألوه عن كيفيّة مسلك الروح في البدن، وامتزاجه به، وهذا هو الذي استأثر الله بعلمه!
وقال القرطبي: الراجح أنهم سألوه عن روح الإنسان؛ لأن اليهود لا تعترف بأن عيسى روح الله، ولا تجهل أن جبريل ملك، وأن الملائكة أرواح!
وقال الرازي: المختار أنهم سألوه عن الروح الذي هو سبب الحياة، وأن
(1) انظر: فتح الباري: 8: 402 وما بعدها.
الجواب وقع على أحسن الوجوه، وبيانه أن السؤال عن الروح يحتمل عن ماهيته، وهل هي متحيّزة أم لا؟ وهل هي حالة في متحيّز أم لا؟ وهل هي قديمة أو حادثة؟ وهل تبقى بعد انفصالها من الجسد أو تفنى؟ وما حقيقة تعذيبها ونعيمها؟ وغير ذلك من متعلقاتها؟
وليس في السؤال ما يخصّص أحد هذه المعاني، إلا أن الأظهر أنهم سألوه عن الماهية، وهل الروح قديمة أو حادثة؟!
والجواب يدل على أنها شيء موجود مغاير للطبائع والأخلاط وتركيبها، فهو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى {كُنْ} فكأنه قال: هي موجودة محدثة بأمر الله وتكوينه، ولها تأثير في إفادة الحياة للجسد، ولا يلزم من عدم العلم بكيفيتها المخصوصة نفيه!
قال: ويحتمل أن المراد بالأمر في قوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} الفعل، كقوله:
{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)} (هود)!
أي فعله، فيكون الجواب الروح من فعل ربّي!
وإن كان السؤال هل هي قديمة أو حادثة؟ فيكون الجواب إنها حادثة!
إلى أن قال: وقد سكت السلف عن البحث في هذه الأشياء، والتعمّق فيها!
وغاب عن هؤلاء أن المنهج الأقوم في هذا الدّين في حدود ما يستطيع الإدراك البشري بلوغه ومعرفته (1)؛ فلا يبدّد الطاقة العقليّة التي وهبها الله للناس فيما لا ينتج ولا يثمر!
وليس في هذا حجر على العقل البشري أن يعمل، ولكن فيه التوجيه لهذا
(1) في ظلال القرآن: 4: 2249 بتصرف.
العقل في حدوده وفي مجاله الذي يدركه، فلا جدوى من الخبط في التّيه، ومن إنفاق الطاقة فيما لا يملك العقل إدراكه؛ لأنه لا يملك وسائل إدراكه، والروح غيب من غيب الله لا يدركه سواه، وسرّ من أسراره القدسيّة أودعه هذا المخلوق البشري وبعض الخلائق التي لا نعلم حقيقتها!
وعلم الإنسان محدود بالقياس إلى علم الله المطلق، وأسرار هذا الوجود أوسع من أن يحيط بها العقل البشري المحدود! والإنسان لا يدبر هذا الكون، فطاقاته ليست شاملة، إنما وهب منها بقدر محيطه، وبقدر حاجته، ليقوم بالخلافة في الأرض، ويحقّق ما شاء الله أن يحقّقه، في حدود علمه القليل!
ولقد أبدع الإنسان في هذه الأرض ما أبدع، ولكنه وقف حسيراً أمام ذلك السرّ اللطيف {الرُّوح} لا يدري ما هو، ولا كيف جاء، ولا كيف يذهب، ولا أين كان، ولا أين يكون، إلا ما يخبر به العلم الخبير في التنزيل!
وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما أسلفنا- وكان قد قدمِ من الحيرة .. ويدَّعي أنه أحسن حديثاً .. ويحدّثهم عن ملوك فارس ورستم وغيرهما .. (1)
قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأنزل مثل ما أنزل الله! (2)
قال ابن إسحاق (3): وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول، فيما بلغني: نزل فيه ثمان آيات من القرآن، قول الله عز وجل:{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)} (القلم)، (المطففين: 13).
(1) انظر السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 370، والروض الأنف: 2: 52.
(2)
انظر: السابق.
(3)
السيرة النبوية: 1: 371 وما بعدها معلقاً، والبيهقي:"الدلائل": 2: 269 - 270، وأحمد: الفتح الرباني: 18: 196 - 197، وانظر: الفتح: 8: 401.
وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن (1)!
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، وقالوا لهما:
سلاهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله. فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علمَ ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتَّى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله. وقالا لهم:
إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا،، فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فَرَوْا فيه رأيكم!
سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب؟
وسلوه عن رجل طوَّاف، قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟
وسلوه عن الرُّوح، ما هي؟
فإذا أخبركم بذلك فاتّبعوه، فإنه نبيّ، وإن لم يفعل، فهو رجل متقوّل، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم!
(1) انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.
فأقبل النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي مُعيط بن أبي عمرو بن أميّة ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ، حتى قدما مكّة على قريش، فقالا: يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أَمَرُونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبيّ، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل، فرَوْا فيه رأيكم!
فجاؤوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب!
وعن رجل كان طوّافاً قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها!
وأخبرنا عن الرّوح ما هي؟
قال: فقال لهم صلى الله عليه وسلم:" أخبركم بما سألتم عنه غداً " ولم يستثن، فانصرفوا عنه.
فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما يذكرون- خمس عشرة ليلة، لا يُحْدث الله إليه في ذلك وحياً؟، ولا يأتيه جبريل، حتى أرجفَ أهل مكة وقالوا: وعَدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة ليلة، قد أصبحنا منها، لا يخبرنا بشيء، مما سألناه عنه، وحتى أحزنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مُكْث الوحي عنه، وشقّ عليه ما يتكلّم به أهل مكة!
ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف. فيها معاتبته إيّاه على حزنه عليهم. وخبر ما سألوه عنه من أمر الله: الفتية، والرجل الطوَّاف، والروح! (1)
(1) انظر: السيرة النبوية: 1: 373.