الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في العام، وإِنّي أوصيكم بمحمد خيراً، فإِنه الأمين في قريش، والصدّيق في العرب، وهو الجاهع لكل ما أوصيتكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان، مخافة الشنآن، وايم الله! كأنّي أنظر إِلى صعاليك العرب، وأهل البر في الأطراف، والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظَّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودورها خراباً، وضعفاؤها أرباباً، وإِذا أعظمهم عليه أحوجهم إِليه، وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصغت له فؤادها، وأعطته قادها، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله! لا يسلك أحد منكم سبيله إِلا رشد ولا يأخذ أحد يهديه إِلا سعد، ولو كان لنفس في مدّة، ولأجلي تأخير، لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي، ثم هلك أبو طالب!
وفاة أبي طالب:
ومات أبو طالب سنة عشر من المبعث، بعد الخروج من الشِّعب بزمن يسير (1)، وقيل: توفي في رمضان، قبل خديجه رضي الله عنها بثلاثة أيام (2)، وقيل: قبل الهجرة بثلاث سنين (3)، وقيل: كان بين وفاته ووفاة خديجة شهر وخمسة أيام! (4)
(1) انظر: ابن سعد: 8: 18 من رواية الواقدي.
(2)
انظر: سيرة الذهبي: 237 عن الحاكم وأنساب الأشراف: 1: 406.
(3)
ابن سعد: 8: 18 من طريق الواقدي. وابن هشام: 2: 66.
(4)
انظر: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: 222.
وهنا نذكر ما رواه الشيخان وغيرهما عن سعيد بن المسيّب عن أبيه أنه أخبره: (1)
أنه لمَّا حضرتْ أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طالب:"يا عمّ، قل لا إِله إِلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله" فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أميّة، أترغب عن ملّة عبد المطّلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلّمهم: هو على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إِله إِلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى فيه:{مَا كَانَ لِلنَّبِيَ} (التوبة: 113)!
زاد مسلم: فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113](التوبة)! وأنزل الله تعالى في أبي طالب، فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)} (القصص)!
وهذا صريح على وفاته كافراً (2)، وشاء الله عز وجل أن يموت أبو طالب قبل
(1) البخاري: 23 - الجنائز (136)، وانظر (3884، 4675، 4772، 6681)، ومسلم (24، 25)، وأحمد: 5: 433، وعبد الرزاق: التفسير: 1: 288، وابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني (720)، والبيهقي:"الدلائل": 2: 342 - 343، والأسماء والصفات: 97 - 98، وابن الأثير: أسد الغابة: 5: 177 - 178، والنسائي: 4: 90 - 91، والكبرى (2162، 11230، 11383)، والطبري: التفسير: 20: 92، وأبو عوانة (23)، والواحدي: أسباب النزول: 176 - 177، 227 - 228، وابن حبان (982).
(2)
انظر البداية: 3: 123 وما بعدها ففيه الرد على من زعم أن أبا طالب قد مات مسلماً، والبيهقي:"الدلائل": 2: 353.
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا الهامش ورد في المطبوع بعد صفحتين، وليس له مناسبة هناك]
الهجرة، حتّى لا يتوهّم أحدٌ أن له مدخلاً في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يظن أن المسألة قبليّة أو أسريّة، أو زعامة ومنصب!
وحينئذ نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه تراباً (1)، ودخل على بيته ووضع على رأسه التراب، فغسلته عنه إحدى بناته، وهي تبكي، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لها:"لا تبكي يا بنيّة، فإِن الله مانع أباك"، ويقول:"ما نالت منّي قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب"(2).
وسبق ذكر بعض الروايات في ذلك!
وقد سمّى بعض المؤرّخين هذا العام (عام الحزن)، لشدة ما كابد في هذا العام من الشدائد في سبيل دعوة الحق، وتضييق قريش الخناق عليه في محاولة منهم لإغلاق أبواب الدعوة في وجهه صلى الله عليه وسلم!
ولا نميل إلى الموافقة على هذه التسمية (عام الحزن) لأنها وردت في حديث رواه القسطلاني في المواهب، ومن رواته (صاعد)، وهو غير ثقة؛ ولأن حياته صلى الله عليه وسلم كانت شدائد يعجز الخيال المحلّق ذاته في تصوّر أحداثها، وقد تواترت الأدلة في ذلك. (3)
(1) انظر: ابن هشام: 2: 66 بدون إسناد.
(2)
السابق: 67 بإسناد حسن، ولكنه مرسل.
(3)
انظر: الألباني: دفاع عن الحديث النبوي والسيرة: 8.