الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:
كان أبو طالب -واسمه عبد مناف بن عبد المطّلب (1) - عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخو أبيه عبد الله بن عبد المطّلب شقيقه لأبيه وأمّه - وريث مكانة أبيه عبد المطّلب في زعامة بني عبد مناف وهاشم، سادة قريش، القوّامين على خدمة البيت الحرام بمكة!
وكان أبو طالب وصيّ أبيه في كفالة حفيده محمَّد صلى الله عليه وسلم بالقيام على رعايته وحفظه وحمايته، وكانت سنُّ محمَّد صلى الله عليه وسلم يوم مات جدّه عبد المطّلب ثماني سنوات، وقد ضمّ أبو طالب ابن أخيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى حضْنِ كفالته، وجعله مع عياله، يحوطه ويحفظه ويحرص على راحته أشدّ الحرص، وقام بكفالته أحسن القيام، وأحبّه حبًّا لم يحبّه أحداً من ولده، وصبّ به صبابةً شديدة، لم يكن يطيق معها أن يفارقه، فكان ملازماً له في غدوّه ورواحه، وحلّه وترحاله، وسفره وإقامته، ونومه ويقظته، وقد ثبت -كما أسلفنا- أنه صحبه في بعض أسفاره للتجارة، وهو غلام يَفَعة، حتى شبّ محمَّد صلى الله عليه وسلم في ظلّ هذه الكفالة شاباً رويًّا، ونشأ نشأة عزيزة كريمة حبيبة، واشتدّ ساعده، وبدرت رجولته مبكره، وشارك عمومته وأبناءهم في العمل ليكسب رزقه، وأبو طالب لا يغفل عنه لحظة، يسدّده في عمله، ويوجّهه في سعيه، راعياً، أو تاجراً، أو مقارضاً .. واستوى شباب محمَّد صلى الله عليه وسلم في ظلّ هذه الكفالة الموفَّقة رجلاً، ضرباً من الرجال لا تعرفه الجاهليّة في أخلاقها، وعاداتها، ومعارفها، فكان فيهم الأمين الصدوق، الوفيّ، الكريم الودود الألوف .. وكان أبو طالب كثير
(1) السابق: 312 بتصرف.
العيال، قليل المال، وكان يهوى أن يرى ابن أخيه محمدا صلى الله عليه وسلم يعيش عيشةً سويّةً، لا يشر فيها بضائقات الحياة، وشظف العيش مع عياله!
ولمَّا بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الناس كافّةً، وقف ملأ الشرك والوثنيّة موقف العناد المستكبر، والمكابرة العاتية، والفجور الطاغي، فكذّبوه، وآذوه، وأغروا به ليقتلوه -كما أسلفنا- ووقف عمه أبو طالب يذود عنه، وينصره ويحميه، بكل ما أوتي من وسيلة وقوّة .. جعل نحوه دون نحوه، وحياته فداء لحياته .. في مواقفه الكثيرة.
فلم ينالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم نيلاً إلا في غيبة من عمه ونصيره .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم دائب النهوض في نشر دعوته إلى الله وتوحيده، لا يصدّه عن سيره شيء، فلا يهاب وعيداً، ولا يرهب زمرجة .. واشتدَّ حقد المشركين، وتعدّدت شكاواهم إلى أبي طالب من ابن أخيه الذي سفّه أحلامهم .. وعاب ديانتهم، فكان أبو طالب يردّهم ردًّا رفيقاً، ويكلّم النبي صلى الله عليه وسلم فيما كلموه في شأنه، فيرى منه عزيمة ماضية، لا يصدّها عن وجهها صادّ ولا يردّها عن مضيتها رادّ، إيماناً منه برسالة نفسه، ووجوب تبليغها إلى الناس، مهما تكن الحوائل والعقبات، فكانت هذه القوّة القاهرة في عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفص عن كاهل أبي طالب ما يثقله من أعباء الذود عن ابن أخيه في دعوته ورسالته، وتغسل عن قلبه ما يعتريه أمام تألّب قومه عليه، وتجمّعهم ضدّه، فيشتدّ في نصرة رسول الله، ويعلن ذلك في شعره الرصين، لا يبالي في غضبة ملأ الشرك وتهديدهم!