الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهنا نبصر في الإنسانيّة خلفاً صالحاً لسلف صالح، يحمل الراية، ويؤمن بالرسل، ويمثّل الوحدة الكبرى بين الرسالات والرسل جميعاً!
وتلك هي قاعدة التصوّر الإيماني التي تجعل من خير أمّة أخرجت للناس الأمّة الوارثة لتراث العقيدة الحقّة، الموصولة بهذا الأصل العريق، السائرة في طريق الحق، على هدى ونور .. وفي الوقت ذاته تقدّم هذه الحقيقة التي تبصرها في سلوك المسلمين وعقيدتهم، وفي معالم عرض الدعوة الإسلاميّة على الناس .. فتلك رسالتنا، وتلك مسؤوليتنا، وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمّة المسلمة، لتعرف حقيقتها، وتعرف مكانتها، وأنها أخرجت لتكون لها القيادة!
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143)!
وقد اختلفوا في حقيقة الإسراء والمعراج اختلافاً كثيراً، وكلمة (حقيقة) اقتبستها من قول السيوطي تحت عنوان (في حقيقته)(1) -أي الإسراء والمعراج- هل كانا في ليلة واحدة أم لا؟
وأيهما كان قبل الآخر؟ وهل كان في اليقظة أو المنام، أو بعضه في اليقظة وبعضه في المنام؟ وهل كان مرّة أو مرتين أو مرّات؟
القول الأول:
وهو قول الجمهور من المفسّرين والمحدّثين والفقهاء والمتكلّمين: أنهما وقعا في ليلة واحدة في اليقظة!
(1) الآية الكبرى: 105.
وتواردت عليه ظواهر الأخبار الصحيحة، وفي المقدمة قوله تعالى:
لأن التسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، ولو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء!
ولمَّا بادرت قريش إلى إنكاره -كما أسلفنا- ولأن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد -كما عرفنا- ولو كان مناماً لم يقل {بِعَبدِهِ} بل (بروح عبده)!
قال ابن حجر: ولا ينبغي العدول عن ذلك؛ إذ ليس في العقل ما يحيله، حتى يحتاج إلى تأويل! (1)
قال السيوطي: ولأنه حمل على البراق، والرّوح لا تحمل، وإنما يحمل البدن! (2)
وقال ابن القيّم: أُسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح، من المسجد الحرام إلى بيت المقَدس، راكباً على البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلّى بالأنبياء إماماً! (3)
(1) فتح الباري: 7: 197.
(2)
الآية الكبرى: 105.
(3)
زاد المعاد: 3: 34.
وفي شرح المواهب اللدنيّة، قال الرازي (1): قال أهل التحقيق: الذي يدلّ على أنه تعالى أسْرى بروح سيّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وجسده معاً يقظةً من مكّة إلى المسجد الأقصى القرآن والخبر!
أما القرآن، فهو قوله تعالى:
وتقرير الدليل أن العبد اسم للجسد والروح، فواجب أن يكون الإسراء حاصلاً بجميع الجسد والروح، إذ لو كان مناماً لقال بروح عبده، ويدلّ عليه قوله:
{أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} (العلق)!
ولا شك أن المراد هنا مجموع الجسد والروح؛ لأن العبد هنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، والناهي له عن الصلاة أبو جهل، وهو لا ينهاه عن الصلاة بروحه!
وأيضاً قال سبحانه وتعالى:
{وَأَنَّهُ لمَّا قَامَ عَبدُ اللهِ يَدعُوهُ} (الجن: 19)!
والمراد جميع الجسد والروح!
وفي قوله: {أَسرَى بِعَبدِهِ لَيْلاً} !
إذ الآيات تحمل على نظيرها!
(1) شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنيّة للقسطلاني: 6: 7 وما بعدها بتصرف.
واحتجّوا أيضاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "أُسْري بي" لأن الأصل في الأفعال أن تحمل على اليقظة، حتى يدلّ دليل على خلافه عقلي أو شرعي!
قال عياض وتبعه غيره: الحق والصحيح أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها، وتدل عليه الآية نصًا، وصحيح الأخبار إلى السماوات استفاضة، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل، إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده حال يقظته استحالة تؤذن بتأويل، إذ لو كان مناماً لقال (بروح عبده)، ولم يقل {بِعَبْدِهِ} !
وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)} (النجم)! أي ما عدل عن رؤية ما أمر به من عجائب الملكوت، وما جاوزها، لصراحة ظاهره، في أنه بجسده يقظة؛ لأنه أضاف الأمر إلى البصر، وهو لا يكون إلا يقظة بجسده، بشهادة:{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} (النجم)!
ولو كان مناماً لما كانت فيه آية ولا معجزة خارقة للعادة دالَّة على صدقه، وإن كانت رؤيا الأنبياء وحياً؛ إذ ليس فيها من الأبلغيّة وخرق العادة ما فيه يقظة، على أن ذلك إنما يعرفه من صدقه وصدق خبره!
وإن ذلك لو كان مناماً لما كان فيه فتنة للضعفاء الذين وقعوا في بليّة عظيمة توقعهم في العذاب -كما أسلفنا- لتكذيبهم وإنكارهم لخبر الصادق بما هو خارق للعادة، ولا استبعده الأغبياء، ولا كذّبوه فيه؛ لأن مثل هذا من المنامات لا ينكر، بل لم يكن منهم ذلك إلا وقد علموا أن خبره
(1) انظر ما أخرجه أبو نعيم، كما في: الآية الكبرى: 105 - 106.
[قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم يتبين لي موضع هذا الهامش]