الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شكوى
ويطيب لي أن أقدّم هذه الشكوى للمفكر الإِسلامي المرحوم محمَّد إقبال (1)
…
نراه في مطلع هذه الشكوى يصوّر أشجانه وآلامه، ثم يوجّه العتب المرير إلى النفس واستسلامها للمحن، ويقول:
لماذا أبقى بقاء الزهرة الخرساء، ولا أحلّق كالطير المغرّد .. ثم يستأذن .. وفي فمه التراب، ليعلن صرخة المسلمين، ويجأر بدعواتهم، ولم لا؟! وقيثارته مملوءة بالأنين والأشجان، تريد أن تنطلق على شفتيه بأنفاسه المتصاعدة!
ربّاه! إليك شكوى عبيدك الأوفياء الذين لم يتعوّدوا إلا إزجاء الحمد وترتيل الثناء!
لقد كانت الدنيا قبل هذا الدين الإِسلاميّ عالمًا من الظلام، تسوده الوثنيّة، وتحكمه الأصنام .. وفي بقاع هذا المعمور كانت سجدات الإنسان لا تعرف غير الأوثان .. ولم يكن الإنسان يعبد غير هذه التماثيل المنحوتة من الأحجار، والصور المصنوعة من الأشجار، وحارت فلسفة اليونان وتشريع الرومان، وضلّت حكمة الصّين في الفلوات، ولكنَّ ساعد المسلم القويّ اقتلع من الأرض شجرة الاتحاد، وأطلع على الإنسانيّة نورًا من التوحيد وظلًّا من الاتحاد!
ربّاه! لقد كانت بساتن هذا الكون بغير أنغام، وأزهارها خالية من العطر، وكان هواؤها دوي العاصفة، ونسيمها دمدمة الرعود، حتى إذا جاء
(1) فلسفة إقبال والثقافة الإِسلاميّة في الهند وباكستان: 77 وما بعدها بتصرف.
رسول مكّة الأمّيّ علّم أهل الأرض حياة أهل السماء، ودلّ سكّان عالم الفناء على طريق عالم البقاء!
نحن الذين نشرنا في الأرض العبير، ومحونا آية الليل بآية الصبح المنير، أصبح إيماننا جنون عشق، فوجهنا الإنسانية بنورك في مثل كرة الطرف إلى معرفة الحق والنور والجمال!
لقد كانت الدنيا عامرة بشعوب وممالك، وكان بها السلجوقي والتوراني والصيني، وكان بها ملك ساسان وبقايا الرومان واليونان، فرفعنا علم التوحيد، وجمعنا أبناء البشر وأجياله أسرة مؤمنة بك موحّدة لك، أصلحنا الفاسد، وقوّمنا المعوجّ، وناضلنا في البر والبحر، وارتفع صوتنا بالأذان فوق معابد أوروبا، وارتسمت سجداتنا على رمال الصحراء في إفريقيا، لم نخش عسف الأكاسرة، ولا طغيان الجبابرة، ولا سلطان الأباطرة، وأسمعنا العالم كله كلمة التوحيد، وصليل السيوف المشرعات كان يدوّي مع الهاتفين "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدّوس العزيز الحكيم"، لم نكن نحرص على الحياة، ولكن كنا نجاهد من أجل دينك ليحيا إلى الأبد في تفانينا، وما بعنا الأرواح لدنيا نشتريها، بل كنا نطوف حول الكرة، ورؤوسنا على أكفنا، لنجعل اسمك الأعلى مناراً، ونحن نحطم في تطوافنا الهياكل والأصنام، جاعلين فضتها ونضارها تراباً تحت الأقدام، ولو أن أقدام الأسود تزلزلت من هول الميادين، فلقد كانت أقدامنا على الشوك والنار لا تأذن لشمس النهار أن تغرب حتى يضيء لنا هلال الانتصار، لقد نقشنا توحيدك على كل قلب، والإيمان بك في كل ضمير، نرحّب بالحتوف، ونرى الجنّة تحت ظلال السيوف!
من الذي جعل درعه يوم الجهاد باب خيبر؟
ومن الذي حمل مصباح الحق إلى مدينة قيصر؟
من قبلنا هدم التماثيل وقوض صرح الأباطيل؟
من الذي رد الكفَّار وأبطل عبادة النار؟
أما أيقظنا الكون الهاجع بصوت الأذان؟
ألم نقم الصلاة تحت الأسنّة في الميدان؟
حتى سجدت لك على الأرض الأوثان وسمع تكبيرنا في الجنة رضوان؟
لقد كانت وجوهنا إلى الكعبة، وعزائمنا إلى الميدان، وقلوبنا إليك، وصلّى بين يديك السوقة والأمير، والغني والفقير، ووقف محمود الغزوني الملك وخادمه إياز وجسماهما في الهند وقلباهما إلى الحجاز، كنا ندور
بكأس الإيمان في محفل الكون والمكان، لم نقف عند الصحارى والقفار، بل امتطينا النجائب من أمول البحار، حتى استضاءت النيّرات بوجوه مجاهدينا في بحر الظلمات، ومحونا الباطل من كتاب الدهر، وحررنا المستعبدين، وملأنا بجباهنا بيتك المعمور، وجعلنا لآياتك مصحفاً في الصدور!
إنّي لأرى في شعوب المدنيّة الزائفة من يجترئون على الخطايا، ويقتحمون حرم الفضائل والآداب، وفيهم سكارى الخمر، وسكارى الإلحاد، ولكن الدّنيا ترسل عليهم السحب أمطاراً، وتمطر أرضنا صواعق وناراً!
نظرت إلى الأوثان والطواغيت، فإذا هي راقصة في ملاعب الأهواء، إنها ساخرة منا، وما أمرَ سخرية الأعداء!
أقول أَن المؤمنين قد انتثروا، وكاد المخلصون أن يندثروا، ولم تعد الصحراء ترى حدة القوافل ولا المتعبدين في المنازل!
ونحن لا نشكو أن فاضت خزائن الكفار بالنضار، ولكن الشكوى أن يصيبنا الفقر والقصور، حتى لا نجد للجنة صداق الحور، ولا ثمن القصور!
يا ربّ رحماك! هب لنا ما عودنا فضلك من نصر وتأييد، فقد دارت بنا الكواكب في أفلاكها دورة العكس .. إن قدرتك هي قدرتك، وما لفضلك حدّ، ولا لنعماك عد .. لو شئت أجريت النهر في الصحراء، أو رفعت الجبال من الماء!
لم يبق لنا يا ربِّ من ثروة سوى الفقر، ولا من قوّة سوى العجز .. إن ذهاب المسلمين من الدنيا هو ذهاب الدنيا بأسرها، وما نطلب البقاء فيها لحظة إلا للفناء في حبّك يا أرحم الراحمين!
لقد ذهب الأغيار بما كان في أيدينا، وبقيت قلوبنا عامرة بك، وما بقاء الدين إلا ببقاء أهله، والجام بما فيه لا يبقى بغير ساقيه!
ربّاه! .. أين محافل العشّاق؟
أين الذين توضؤوا للصباح بمدامع الأشواق؟
أين الذين اقتبست الشمس من وجوههم الإشراق؟
لقد مضى زجل المسبّحين، وخف أنين المستغفرين، وخلا ضمير الليل
من دعوات المتبتّلين، وبكاء المصلّين، وهبوك قلوبهم يا ربّ!، وفازوا بأجر العاملين، وأصبحت الأرض بعدهم خالية، والديار خاوية، فكأنهم ما سلموا حين قدموا، أو كأنهم ما أقاموا بعد أن سلموا!
مَن لي بنور محمَّد ليكون مصباحي، حين أنقّب عن حفلهم المذاهب، ونورهم الغارب .. لا لا .. إنّي لن أصغي إلى أنّات قلبي المحزون، فما زال من الدنيا سحر ليلى ولا غرام قيس، وما برحت صحراء نجد مرتعاً للمها والغزال، ومبعثاً للهوى والدّلال، ولن يزول جمالها حتى تزول الجبال!
إن جمال أمة محمَّد لا يزال يجتذب قلوب الكون بإشراقه الساطع فأنقذنا من ظلمة هذا اليأس الميت!
ما زال في قلوبنا وفاء الصّدّيق، وعدل الفاروق، وفي كل قلب للقرآن مصحف عثمان، ولا زالت قلوبنا عامرة بتقوى عليّ، وسلمان، وصوت بلال في الأذان، لم نفقد الإيمان القويم، ولا قياس طرق التسليم!
أيقظنا يا رب! بصلصلة الجرس الأوّل، وأحينا بقانون الوفاء!
لقد أكملت الدين على قمّة فاران، وأنرت قلوب العاشقين بجذوة الإيمان، فأحرق متاع حب دنيانا بذلك الشرر من وميض محبتك!
لقد طرب أعداؤنا بين الجداول، وسكروا بالأنغام في ظل الخمائل، وهم في الأوطان، ونحن خارج البستان، فأرسل فراشك مرة أخرى يطف حول نار حبّك، ومر البرق القديم بإحراق القلوب الجامدة!
ربّ! اهد القلوب إلى قبلة الحجاز، وأعطها جناحاً من الإيمان لتعرف قوة الطيران!
إن العبير حائر بين البراعم والأزهار، والألغام محتبسة في الأوتار، والطير في شوق إلى تجلّي أنوارك، وإقبال أسرارك!
ربّنا وأنت الحكيم القادر! احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، ألهم النملة الضعيفة حكمة الإيمان، حتى تضع يدها على ملك سليمان، وافتح العيون على ضياء الحق للعالمين، حتى نرى براهمة الهند مسلمين!
إن عطر الأزهار قد فاح بسر البستان، ونمت الصرخات عمّا في الوجدان!
أعد الطيور المغرّدة إلى أغصان الصنوبر، فقد فرّت من روضها إلا بلبلاً يحمل في قلبه ضجّة القيامة، وهول المحشر!
أعد الأوراق الذابلة إلى روضها الأخضر، وجدّد في المسلمين ظمأهم إلى حياض الكوثر!
يا ربِّ! إني بلبل تحررت من موسم نيسان لأرسل أنغامي طليقة بالشكوى، في مسمع الزمان، فاجعل ندائي قبساً من وحي الإيمان، إن خمري حجازيّة، وإن كنت أعجميّ الدّنان، ونغمي من الهند، ولكن صوتي من عدنان!
* * *
وإليك القصيدة:
شكواي أم نجواي في هذا الدّجى
…
ونجوم ليلي حُسَّدي أم عُوَّدي
أمسيت في الماضي أعيشُ كأنما
…
قطعَ الزمانُ طريق أمسي عن غدي
والطير صادحةّ على أفنانها
…
تُبكي الربى بأنينها المتجدّد
قد طال تسهيدي وطال نشيدها
…
ومدامعي كالطلِّ في الغصن الندي
فإِلى متى صمتي كأني زهرة
…
خرساء لم ترزق براعة منشدِ
* * *
قيثارتي مُلئت بأنات الجوى
…
لابد للمكبوت من فيضانِ
صعدتْ إِلى شفتي بلابل مهجتي
…
ليبين عنها منطقي ولساني
أنا ما تعديت القناعة والرضا
…
لكنما هي قصة الأشجانِ
أشكو وفي فمي التراب وإِنما
…
أشكو مصاب الدين للدَّيَّانِ
يشكو لك اللهم قلب لم يعش
…
إِلا لحمدِ علاك في الأكوان
* * *
قد كان هذا الكون قبل وجودنا
…
روضًا وأزهاراً بغير شميمِ
والورد في الأكمام مجهول الشذى
…
لا يُرتجي وردٌ بغير نسيمِ
بل كانت الأيام قبل وجودنا
…
ليلاً لظالها وللمظلومِ
لما أطل (محمدٌ) زكت الربى
…
واخضر في البستان كل هشيمِ
وأذاعت الفردوس مكنون الشذى
…
فإِذا الورى في نضرةٍ ونعيمِ
* * *
من قام يهتف باسم ذاتك قبلنا
…
من كان يدعو الواحد القهارا
عبدوا تماثيل الصخور وقدسوا
…
من دونك الأحجار والأشجارا
عبدوا الكواكب والنجوم جهالةً
…
لم يبلغوا من هديها أنوارا
هل أَعلن التوحيد داعٍ قبلنا
…
وهدى الشعوب إِليك والأنظارا؟
كنا نقَدِّم للسيوف صدورنا
…
لم نخش يوماً غاشماً جبارا
* * *
قد كان في اليونان فلسفةٌ وفي الـ
…
رومان مدرسةٌ وكان المُلكُ في ساسان
لم تغن عنهم قوةٌ أو ثروةٌ
…
في المالِ أو في العلمِ والعِرفانِ
وبكل أرض (سامريٌ) ماكرٌ
…
يكفي اليهود مؤونةَ الشيطانِ
والحكمة الأولى جرت وثنية
…
في الصين أو في الهند أو تورانِ
نحن الذين بنور وحيك أوضحوا
…
نهج الهدى ومعالم الإِيمانِ
* * *
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ
…
مك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالا في الجبال، وربما
…
سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإِفربخ كان أذاننا
…
قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إِفريقيا ولا صحراؤها
…
سجداتنا والأرض تقذف نارا
وكأن ظِل السيف ظِل حديقةٍ
…
خضراء تُنبت حولنا الأزهارا
* * *
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو
…
نصب المنايا حولنا أسوارا
ندعو جهاراً لا إِله سوى الذي
…
صنع الوجود وقدّر الأقدارا
ورؤوسنا يا رب فوق أكُفِّنا
…
نرجو ثوابك مغنمًا وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب
…
فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها
…
كنزاً، وصاغ العلي والدينارا
* * *
كم زلزل الصخر الأشم فما وهي
…
من بأسنا عزم ولا إِيمانُ
لو أن آساد العرين تفزَّعت
…
لم يلق غير ثباتنا الميدان
وكأن نيران المدافع في صدو
…
ر المؤمنين الروح والريحانُ
توحيدك الأعلى جعلنا نقشه
…
نوراً تضيء بصُبحه الأزمانُ
فغدت صدور المؤمنين مصاحفاً
…
في الكون مسطوراً بها القرآنُ
* * *
من غيرنا هدم التماثيل التي
…
كانت تقدسها جهالات الورى؟
حتى هوت صور المعابد سُجّداً
…
لجلال من خلق الوجودَ وعموّرا
ومن الأُلى حملوا بعزم أكُفهم
…
باب المدينة يوم غزوة خيبرا؟
أمّن رمى نار المجوس فأطفئت
…
وأبان وجه الحق أبلج نيِّرا؟
ومن الذي بذل الحياة رخيصة
…
ورأى رضاك أعز شيْءٍ فاشترى؟
* * *
نحن الذين استيقظت بأذانهم
…
دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
نحن الذين إِذا دُعُوا لصلاتهم
…
والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إِلى الحجاز وكبّروا
…
في مسمع الروح الأمين فكبرا
محمود مثل إِياز (1) قام كلاهما
…
لك بالخشوع مصلياً مستغفراً
العبد والمولى على قدم التُّقى
…
سجدا لوجهك خاشعين على الثرى
* * *
بلغت نهاية كل أرض خيلنا
…
وكأن أبحرها رمال البيد
في محفل الأكوان كان هلالنا
…
بالنصر أوضح من هلال العيد
في كل موقعة رفعنا راية
…
للمجد تعلن آية التوحيد
أُمم البرايا لم تكن من قبلنا
…
إِلا عبيداً في إِسار عبيدِ
بلغت بنا الأجيال حُرياتها
…
من بعد أصفادٍ وظلِ قُيودِ
* * *
(1) السلطان محمود الغزنوي وإياز خادمه.
رحماك ربّ! هل بغير جباهنا
…
عرف السجودُ ببيتك المعمورِ؟
كانت شغاف قلوبنا لك مصحفاً
…
يحوي جلال كتابك المسطورِ
إِن لم يكن هذا وفاءً صادقاً
…
فالخلق في الدنيا بغيرِ شعورِ
ملأ الشعوبَ جُناتُها وعُصاتُها
…
من ملحدٍ عاتٍ ومن مغرورِ
فإِذا السحاب جرى سَقاهم غيثه
…
واختصنا بصواعق التدمير
* * *
قد هبت الأصنام من بعد البلى
…
واستيقظت من قبل نفخ الصورِ
والكعبة العليا توارى أهلها
…
فكأنهم موتى لغير نشورِ
وقوافل الصحراء ضل حُداتها
…
وغدت منازلها ظلال قبورِ
أنا ما حسدت الكافرين وقد غدوا
…
في أنعُمٍ ومواكب وقصورِ
بل محنتي ألاّ أرى في أمتي
…
عملاً تقدمه صَداق الحورِ
* * *
لك في البرية حكمةٌ ومشيئةٌ
…
أعيت مذاهبها أولي الألبابِ
إِن شئت أجريت الصحاري أنهراً
…
أو شئت فالأنهارُ موجُ سرابِ
ماذا دهى الإِسلامَ في أبنائه
…
حتى انطووا في محنةٍ وعذابِ؟
فثراؤهم فقرٌ ودولة مجدهم
…
في الأرض نهب ثعالبٍ وذئابِ
عاقَبتنا عدلاً فهب لعدونا
…
عن ذنبه في الدهر يوم عقابِ
* * *
عاشوا بثروتنا وعشنا دونهم
…
للموت بين الذل والإِملاقِ
الدين يحيى في سعادة أهله
…
والكأس لا تَبقى بغير الساقي
أين الذين بنار حبك أرسلوا
…
الأنوار بين محافل العشاقِ
سكبوا الليالي في أنين دموعهم
…
وتوضؤوا بمدامع الأشواقِ
والشمس كانت من ضياء وجوههم
…
تهدي الصباح طلائع الإِشراقِ
* * *
كيف انطوت أيامهم وهم الأُلى
…
نشروا الهدى وعلوا مكان الفرقدِ؟
هجروا الديار فأين أزمع ركبهم
…
من يهتدي للقوم أو من يقتدي؟
يا قلبُ حسبك لن تُلِمَّ بطيفهم
…
إِلا على مصباح وجه محمدِ
فازوا من الدنيا بمجدٍ خالدٍ
…
ولهم خلودُ الفوز يوم الموعد
يا ربِّ! ألهمنا الرشاد فما لنا
…
في الكون غيرك من وليٍّ مرشد
* * *
ما زال قيسٌ والغرام كعهده
…
وربوع ليلى في ربيع جمالها
وهضاب نجد في مراعيها المها
…
وظباؤها الخفراتُ ملء جبالها
والعشق فياضٌ وأمة أحمد
…
يتحفز التاريخ لاستقبالها
لو حاولت فوق السماء مكانةً
…
رفّت على شمس الضحى بهلالها
ما بالها تلقى الجدود عواثراً
…
وتصدها الأيام عن آمالها
* * *
هجْر الحبيب رمى الأحبة بالنوى
…
وأصابهم بتصرّم الآمالِ
لم يبق في الأرواح غير بقية
…
رحماك يا مرآة كل جمالِ
لو قد مللنا العشق كان سبيلُنا
…
أن نستكين إِلى هوى وضلالِ
أو نصنع الأصنام ثم نبيعها
…
حاشا الموحد أن يَذِلَّ لمالِ
أيام سلمان بنا موصولة
…
وتُقى أويس في أذان بلالِ
* * *
يا طيب عهد كنت فيه منارنا
…
فبعثت نور الحق من فاران
وأسرت فيه العاشقين بلمحة
…
وسقيتهم راحاً بغير دنانِ
أحرقت فيه قلوبهم بتوقد الـ
…
إِيمان لا بتلهُّب النيرانِ
لم نبق نحن ولا القلوب، كأنها
…
لم تحظ من نار الهوى بدخانِ
إِن لم يُنر وجه الحبيب بوصله
…
فمكان حُزن القلب كل مكانِ
* * *
يا فرحة الأيام حين نرى بها
…
روض التجلي وارف الأغصانِ
ويعود محفلنا بحسنك مسفراً
…
كالصبح في إِشراقه الفينانِ
قد هاج حزني أن أرى أعداءنا
…
بين الطلا والظل والألحانِ
ونعالج الأنفاس نحن ونصطلي
…
في الفقر حين القوم في بستانِ
أشرِقْ بنورك وابعت البرق القديـ
…
م بومضةٍ لفراشك الظمآنِ
* * *
أشواقنا نحو الحجاز تطلعت
…
كحنين مغترب إِلى الأوطانِ
إِن الطيور وإِن قصصت جناحها
…
تسمو بفطرتها إِلى الطيرانِ
قيثارتي مكبوتةّ ونشيدها
…
قد مل من صمتٍ ومن كتمانِ
واللحن في الأوتار يرجو عازفا
…
ليبوح من أسراره بمعانِ
والطّورُ يرتقب التجلي صارخاً
…
بهوى المشُوق ولهفة الحيرانِ
* * *
أكبادنا احترقت بأنَّات الجوى
…
ودماؤنا نهر الدموع القاني
والعطر فاض من الخمائل والربى
…
وكأنه شكوى بغير لسانِ
أوليس من هول القيامة أن يكو
…
ن الزهر نَمَّاماً على البستانِ؟
النمل لا يخشى سليماناً إِذا
…
حرست قراه عناية الرحمنِ
أرشد براهمة الهنود ليرفعوا
…
الإِسلام فوق هياكل الأوثانِ
* * *
ما بال أغصان الصنوبر قد نأت
…
عنها قماريها بكل مكانِ
وتعرت الأشجار من حلل الربى
…
وطيورها فرَّت إِلى الوديانِ
يا ربِّ! إِلا بلبلاً لم ينتظر
…
وحي الربيع ولا صَبا نيسانِ
ألحانه بحرٌ جرى متلاطماً
…
فكأنه الحاكي عن الطوفانِ
يا ليت قومي يسمعون شِكايةً
…
هي في ضميري صرخة الوجدانِ
* * *
أن الجواهر حيَّرت مرآة هـ
…
ذا القلب فهو على شفا البركانِ
أسمِعهمو يا ربِّ! ما ألهمتني
…
وأعدْ إِليهم يقظة الإِيمانِ
وأذقهم الخمر القديمة إِنها
…
عين اليقين وكوثر الرضوانِ
أنا أعجمي الدَّنّ لكن خمرتي
…
صُنع الحجاز وكرمها الفينانِ
إِن كان لي نغمُ الهنود ولحنهم
…
لكن هذا الصوت من عدنانِ
* * *