الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان هذا مظهراً من مظاهر نقض فريق لكل عهد يعاهدونه، فلقد ضمن الميثاق الذي أخذه الله عليهم -كما سبق أن عرفنا- أن يؤمنوا بكل رسول يبعثه، وأن ينصروه ويحترموه، فلما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، خاسوا بذلك العهد، ونبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم، يستوي في ذلك النبذ كتاب الله الذي معهم، والذي يتضمّن البشرى بهذا النبيّ وقد نبذوه، والكتاب الجديد مع النبي الجديد وقد نبذوه أيضاً!
وفي الآية ما فيها من سخرية خفيّة، يحملها ذلك النصّ على أن الذين أوتوا الكتاب هم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، فلو كانوا هم المشركين الأمييّن لكان نبذهم لكتاب الله وراء ظهورهم مفهوماً لأنهم لا يعرفون! ولكنهم هم الذين أوتوا الكتاب! هم الذين عرفوا الرسالات والرسل! هم الذين اتصلوا بالهدى ورأوا النور .. وماذا صنعوا؟!
إنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم! .. والمقصود طبعاً أنهم جحدوه، وتركوا العمل به، وأنهم أبعدوه عن مجال تفكيرهم وحياتهم، ولكن التعبير المصوّر ينقل المعنى من دائرة الذهن إلى دائرة الحسّ، ويمثل عملهم بحركة ماديّة مخيّلة، تصوّر هذا التصوّر تصويراً بشعاً زريًّا، ينضح بالكنود والجحود، ويتّسم بالغلظة والحماقة، ويفيض بسوء الأدب والقحّة، ويدع الخيال يتمثّل هذه الحركة العنيفة .. حركة الأيدي تنبذ كتاب الله وراء الظهور!
9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} :
ويطالعنا قول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} [المائدة: 82]!
لقد كانت الأمة المسلمة تتلقّى هذا القرآن الكريم لتقرّر، وفق توجيهاته وتقريراته (1) -خطّتها وحركتها، ولتتّخذ وفق هذه التوجيهات والتقريرات- مواقفها من الناس جميعاً .. ومن ثم كانت تَغْلِب ولا تُغلَب؛ لأنها تخوض معركتها مع أعدائها تحت القيادة الربّانيّة المباشرة، مذ كان نبيها صلى الله عليه وسلم يقودها وفق الإرشادات الربّانيّة العلويّة!
وهذه الإرشادات الربّانيّة العلوّية لا تزال، والتقريرات التي تضمنها ذلك الكتاب العزيز لا تزال، والذين يحملون دعوة الإِسلام اليوم وغداً خليقون أن يتلقّوا هذه التقريرات وتلك الإرشارات الربَّانيّة العلويّة كأنهم يخاطبون بها اللحظة، ليقرّروا على ضوئها مواقفهم من شتّى طوائف الناس، وسن شتّى المذاهب والمعتقدات والآراء، ومن شتّى الأوضاع والأنظمة وشتّى القيمِ والموازين .. اليوم وغدًا وإلى آخر الزمان! {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} !
إن صيغة العبارة تحتمل أن تكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تكون خطاباً عامًّا خرج مخرج العموم؛ لأنه يتضمّن أمراً ظاهراً مكشوفاً يجده كل إنسان، وهي صيغة لها نظائرها في الأسلوب العربي الذي نزل به القرآن الكريم .. وهي في كلتا الحالتين تفيد معناها الظاهري الذي تؤدّيه!، فإذا تقرّر هذا فإن الأمر الذي يلفت النظر في صياغة العبارة هو تقديم اليهود على الذين أشركوا، في صدد أنهم أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، وأن شدّة عداوتهم ظاهرة مكشوفة، وأمر مقرّر، يراه كل من يرى، ويجده كل من يتأمل!
(1) السابق: 2: 959 وما بعدها بتصرف.
نعم إن العطف بالواو في التعبير العربي يفيد الجمع بين الأمرين، ولا يفيد تعقيباً ولا ترتيباً .. ولكن تقديم اليهود هنا، حيث يقوم الظن بأنهم أقلّ عداوة للذين آمنوا من المشركين -بما أنهم أصلاً أهل كتاب- يجعل لهذا التقديم شأناً خاصًّا غير المألوف من العطف بالواو في التعبير العربي!
إنه -على الأقل- يوجّه النظر إلى أن كونهم أهل كتاب لم يغيّر من الحقيقة الواقعة، وهي أنهم كالذين أشركوا أشدّ عداوةً للذين آمنوا! .. ولا ينفي هذا احتمال أن يكون المقصود هو تقديمهم في شدّة العداء على الذين أشركوا!
وحين يستأنس الإنسان في تصير هذا التقرير الربّاني بالواقع التاريخيّ المشهود منذ مولد الإِسلام حتى اللحظة الحاضرة، فإنه لا يتردّد في تقرير أن عداء اليهود للذين آمنوا كان دائماً أشدّ وأقسى وأعمق إصراراً، وأطول أمداً، من عداء الذين أشركوا!
لقد واجه اليهود الإِسلام بالعداء منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها دولة الإِسلام بالمدينة، وكادوا للأمة المسلمة منذ اليوم الأول الذي أصبحت فيه أمّة .. وتضمّن القرآن الكريم من التقريرات والإشارات عن هذا العداء وهذا الكيد ما يكفي وحده لتصوير تلك الحرب المريرة التي شنّها اليهود على الإِسلام، وعلى رسول الإِسلام صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمة المسلمة في تاريخه" الطويل، والتي لم تَخْبُ لحظة واحدة قرابة أربعة عشر قرناً، ولا تزال حتى اللحظة يتسعّر أوارها في أرجاء الأرض جميعاً!
ولمَّا غلبهم الإِسلام بقوّة الحق -يوم أن كان المسلمون أهلاً للنصر- استداروا يكيدون له بدسّ المفتريات في كتبه -لم يسلم من هذا الدسّ إلا كتاب
الله الذي تكفّل بحفظه سبحانه- ويكيدون له بالدسّ بين صفوف المسلمين، وإثارة الفتن عن طريق استخدام حديثي العهد بالإِسلام، ومن ليس لهم فيه فقه من مسلمة الأقطار، ويكيدون له بتأليب خصومه عليه في أنحاء الأرض .. حتى انتهى بهم المطاف أن يكونوا في العصر الأخير هم الذين يقودون المعركة مع الإِسلام في كل شبر على وجه الأرض، وهم الذين يستخدمون الصليبيّة والوثنّية في هذه الحرب الشاملة، وهم الذين يقيمون الأوضاع، ويصنعون الأبطال الذين يتسمّون بأسماء المسلمين، ويشنّونها حرباً صليبيةً صهيونيّةً هنا وهناك!
وصدق الله العظيم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} !
إن الذي ألّب الأحزاب على الدولة المسلمة الناشئة في المدينة، وجمع بين اليهود من بني قريظة وغيرهم، وبين قريش في مكّة، وبين القبائل الأخرى في الجزيرة .. (يهودي)!
والذي ألّب العوام، وجمع الشراذم، وأطلق الشائعات، في استشهاد عثمان رضي الله عنه، وما تلاها من النكبات .. (يهودي)!
والذي قاد حملة الوضع والكذب في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الروايات والسير .. (يهودي)!
ثم إن الذي كان وراء النعرات القوميّة في دولة الخلافة الأخيرة، ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل (الشريعة) عن الحكم، واستبدال (الدستور) بها في عهد (السلطان عبد الحميد)، ثم انتهت بإلغاء الخلافة جملة على يدي (أتاتورك!) .. (يهودي)!
وسائر ما تلا ذلك من الحرب المعلنة على طلائع البعث الإِسلامي في كل مكان على وجه الأرض وراءه (يهودي)!
ثم لقد كان وراء النزعة الماديّة الإلحاديّة .. (يهودي)!
ووراء النزعة الجنسيّة (يهودي)!
ووراء معظم النظريات الهدّامة لكل المقدسات والصوابط (يهود)! (1)
ولقد كانت الحرب التي شنّها اليهود على الإِسلام أطول أمداً، وأعرض مجالاً، من تلك التي شنّها عليه المشركون والوثنيّون -على ضراوتها- قديماً وحديثاً!
والمعركة مع مشركي العرب لم تمتد إلى أكثر من عشرين عاماً في جملتها .. وكذلك كانت المعركة مع فارس في العهد الأول! أما في العصر الحديث فإن ضراوة المعركة بين الوثنيّة الهنديّة والإِسلام ضراوة ظاهرة، ولكنها لا تبلغ ضراوة الصهيونيّة العالميَّة التي تعدّ الماركسيّة مجرّد فرع لها، وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإِسلام في طول الأمد، وعرض المجال، إلا معركة الصليبيّة -كما سنرى- فيما يأتي!
فإذا سمعنا الله تعالى يقول: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} !
ويقدم اليهود في النص على الذين أشركوا .. ثم راجعنا هذا الواقع التاريخي، فإننا ندرك طرفاً من حكمة الله في تقديم اليهود على الذين أشركوا!
(1) انظر فصل: (اليهود الثلاثة: ماركس وفرويد ودوركايم في كتاب: التطور والثبات: محمَّد قطب، دار الشروق!
إنهم هذه الجبلّة النكدة الشرّيرة، التي ينغل الحقد في صدورها على الإِسلام وعلى نبيّ الإِسلام، فيحذر الله نبيّه وأهل دينه منها .. ولم يغلب هذه الجبلّة الشرّيرة إلا الإِسلام وأهله يوم أن كانوا أهله! ولن يخلّص العالم من هذه الجبلّة النكدة إلا الإِسلام يوم يفيء أهله إليه!
ومع أن متابعة مجموع الآيات لا تدع مجالاً للشك في أنها تصوّر حالة معيّنةً، هي التي ينطبق عليها هذا التقرير المعيّن، فإن الكثيرين يخطئون فهم مدلولها، ويجعلون منها مادّة للتميّع المؤذي في تقدير المسلمين لموقفهم من المعسكرات المختلفة، وموقف هذه المعسكرات منهم .. لذا نجد من الضروري أن نتابع تصوير هذه الآيات لهذه الحالة الخاصة التي ينطبق عليها ذلك الحكم الخاص!
إن الحالة التي تصوّرها هذه الآيات هي حالة فئة من الناس {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ، هم أقرب مودّة للذين آمنوا:{ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)} !
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحدّ، ولا يدع الأمر مجهلًا ومعمّماً على كل الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إنما يمضي فيصوّر موقف هذه الفئة التي يعنيها:{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} [المائدة: 83، 84]!
فهذا مشهد حيّ يرتسم من التصوير القرآني لهذه الفئة من الناس، الذين هم أقرب مودّة للذين آمنوا .. إنهم إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من هذا القرآن اهتزّت مشاعرهم، ولانت قلوبهم، وفاضت أعينهم بالدمع تعبيراً عن التأثر العميق القويّ بالحق الذي سمعوه، والذي لا يجدون له في أوّل الأمر كفاء من التعبير إلا الدمع الغزير .. وهي حالة معروفة في النفس البشرية، حين يبلغ بها التأثّر درجةً أعلى من أن يفي بها القول، فيفيض الدمع، ليؤدّي ما لا يؤدّيه القول، وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق القوي!
ثم هم لا يكتفون بهذا الفيض من الدمع، ولا يقفون موقفاً سلبيًّا من الحق الذي تأثّروا به هذا التأثّر عند سماع القرآن، والشعور بالحق الذي يحمله، والإحساس بما له من سلطان .. إنهم لا يقفون موقف المتأثّر الذي تفيض عيناه بالدمع، ثم ينتهي أمره مع هذا الحق! إنما هم يتقدّمون ليتخذوا من هذا الحق موقفاً إيجابيًّا صريحاً .. موقف القبول لهذا الحق، والإيمان به، والإذعان لسلطانه، وإعلان هذا الإيمان، وهذا الإذعان، في لهجة قويّة عميقة صريحة:{يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} !
إنهم أوّلاً يعلنون لربّهم ايمانهم بهذا الحق الذي عرفوه، ثم يدعونه سبحانه أن يضمّهم إلى قائمة الشاهدين لهذا الحق، وأن يسلكهم في سلك الأمّة القائمة عليه في الأرض .. الأمّة المسلمة، التي تشهد لهذا الحق بأنه الحق، وتؤدّي هذه الشهادة بلسانها وبعملها وبحركتها لإقرار هذا الحق في حياة البشر .. فهؤلاء الشاهدون الجدد ينضمّون إلى هذه الأمّة المسلمة، ويشهدون ربّهم على إيمانهم بالحق الذي تتبعه هذه الأمة، ويدعونه سبحانه أن يكتبهم في سجلّها .. ثم هم
بعد ذلك يستنكرون على أنفسهم أن يعوقهم معوّق عن الإيمان بالله، أو أن يسمعوا هذا الحق ثم لا يؤمنوا به، ولا يأملوا بهذا الإيمان أن يقبلهم ربهم، ويرفع مقامهم عنده، فيدخلهم مع القوم الصالحين:{وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)} !
فهو موقف صريح قاطع تجاه ما أنزل الله إلى رسوله من الحق .. موقف الاستماع والمعرفة، ثم التأثّر الغامر، والإيمان الجاهر .. ثم الإِسلام والانضمام إلى الأمة المسلمة، مع دعاء الله سبحانه أن يجعلهم من الشاهدين لهذا الحق، الذين يؤدّون شهادتهم سلوكًا وعملًا وجهاداً لإقراره في الأرض، والتمكين له في حياة الناس .. ثم هو وضوح الطريق في تقديرهم وتوحدّه، بحيث لا يعودون يرون أنه يجوز لهم أن يمضوا إلا في طريق واحد، هو طريق الإيمان بالله، وبالحق الذي أنزله على رسوله، والأمل بعد ذلك في القبول عنده والرضوان!
ولا يقف السياق القرآني عند بيان من هم الذين يعنيهم بأنهم أقرب مودّة للذين آمنوا من الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} وعند بيان سلوكهم في مواجهة ما أنزل الله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق، وفي اتخاذ موقف إيجابي صريح، بالإيمان المعلن، والانضمام إلى الصفّ المسلم، والاستعداد لأداء الشهادة بالنفس والجهد والمال، والدعاء إلى الله أن يقبلهم في الصفّ الشاهد لهذا الحق على هذا النحو، مع الطمع في أن يختم لهم بالانضمام إلى موكب الصالحين!
لا يقف السياق عند هذا الحدّ في بيان أمر هؤلاء الذين يقرّر أنهم أقرب مودّة للذين آمنوا، بل يتابع خطاه لتكملة الصورة، ورسم المصير الذي انتهوا إليه فعلاً:{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} !
لقد علم الله صدق قلوبهم وألسنتهم، وصدق عزيمتهم على المضي في الطريق، وصدق تصميمهم على أداء الشهادة لهذا الدّين القيّم الذي دخلوا فيه، ولهذا الصفّ المسلم الذي اختاروه، واعتبارهم أن أداء هذه الشهادة -بكل تكاليفها في النفس والمال- منّة يمنّ الله بها على من يشاء من عباده، واعتبارهم كذلك أنه لم يعد لهم طريق يسلكونه إلا هذا الطريق الذي أعلنوا المضيّ فيه، ورجاءهم في ربّهم أنه يدخلهم مع القوم الصالحين!
لقد علم الله منهم هذا كله، فقبل منهم قولهم، وكتب لهم الجنّة جزاء لهم، وشهد لهم سبحانه بأنهم محسنون، وأنه يجزيهم جزاء المحسنين:{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)} !
والإحسان أعلى درجات الإيمان والإِسلام .. والله جل جلاله قد شهد لهذا الفريق من الناس بأنه من المحسنين!
إنه فريق خاص محدّد الملامح، هذا الذي يقول عنه القرآن الكريم:{وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} !
فريق لا يستكبر عن الحق حين يسمعه، بل يستجيب له تلك الاستجابة العميقة الجاهرة الصريحة، وهو فريق لا يتردّد في إعلان استجابته للدّين القيم، والانضمام للصف المسلم، والانضمام إليه بصفة خاصّة في تكاليف هذه العقيدة، وهي أداء الشهادة لها بالاستقامة عليها، والجهاد لإقرارها وتمكينها .. وهو فريق علم الله منه صدق قوله فقبله في صفوف المحسنين!
ولكن السياق القرآني لا يقف عند هذا الحدّ في تحديد ملامح هذا الفريق
المقصود من الناس الذين نجدهم أقرب مودّة للذين آمنوا، بل إنه ليمضي فيميّزه من الفريق الآخر من الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ! ممن يسمعون هذا الحقّ فيكفرون به ويكذّبون، ولا يستجيبون له، ولا ينضمون إلى صفوف الشاهدين:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} !
(المائده)!
والمقصود قطعاً بالذين كفروا وكذّبوا في هذا الموضع هم الذين يسمعون من الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ثم لا يستجيبون .. والقرآن الكريم يسمّيهم الكافرين كلما كانوا في مثل هذا الموقف، سواء في ذلك اليهود والنصارى، ويضمّهم إلى موكب الكقّار مع المشركين سواء، ما داموا في موقف التكذيب لما أنزل الله على رسوله من الحق، وفي موقف الامتناع عن الدخول في الدّين القيم الذي لا يقبل الله من الناس ديناً سواه .. نجد هذا في مثل قول الله تعالى:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة)!
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (المائدة)
فهو تعبير مألوف في القرآن الكريم، وحكم معهود .. وهو يأتي هنا للتفرقة بين فريقين من الذين {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} ، وللتفرقة بين موقف كل منهما تجاه الذين آمنوا، وللتفرقة كذلك بين مصير هؤلاء وأولئك عند الله .. هؤلاء
{فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} ! {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)} !
وليس كل من {قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} إذن داخلين في ذلك الحكم: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} كما يحاول أن يقول من يقتطعون آيات القرآن في دون تمامها .. إنما هذا الحكم مقصور على حالة معيّنة لم يدع السياق القرآني أمرها غامضاً، ولا ملامحها مجهلة، ولا موقفها متلبّساً بموقف سواها في كثير ولا قليل!
وقد وردت روايات في تحديد من هم النصارى المعنيّون بذلك، قال ابن كثير: قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم، وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنيّة، وقصّة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة -كما سيأتي- وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما: نزلت في وقد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه، ويروا صفاته، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه. قال السدي: فهاجر النجاشي فمات في الطريق، وهذا من أفراد السدي، فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة، وصلّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات، وأخبر به أصحابه، وأخبر أنه مات بأرض الحبشة .. وتعددت الروايات في ذلك (1).
(1) انظر: ابن كثير: التفسير: 2: 85، والقرطبي: التفسير 60: 225، وتفسير المنار: 7: 2 وما بعدها.