الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنما كان عن إسرائه بجسده وحال يقظته؛ ولأن الدواب لا تحمل الأرواح، وإنما تحمل الأجسام!
وقد تواترت الأخبار بأنه أسري به على البراق، وهو دابّة، فوجب كونه بالجسد والروح معاً! (1)
وقال ابن القيم: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بجسده على الصحيح، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكباً البراق، صحبة جبريل عليهما الصلاة والسلام، فنزل هناك، وصلّى بالأنبياء إماماً (2)، وربط البراق بحلْقة باب المسجد.
وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم، وصلّى فيه، ولم يصحّ ذلك عنه البتة!
ثم عُرِجَ به تلك الليلة من بيت المقدس
…
إلخ! (3)
القول الثاني:
وذهب جماعة إلى أن الإسراء كان بروحه في المنام! (4)
قال ابن إسحاق (5): حدثني بعض آل أبي بكر: أن عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت تقول: ما فُقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه!
قلت: هذا غير ثابت، وإن صرح ابن إسحاق بالسماع، فسنده
(1) زاد المعاد: 3: 34.
(2)
انظر: السيرة النبوية: ابن كثير: 2: 153، 154.
(3)
انظر: زاد المعاد 3: 34 وما بعدها.
(4)
انظر: الآية الكبرى: 106.
(5)
الروض الأنف: 2: 143.
منقطع (1)، وقد رواه الطبري (2)، قال عياض (3): وأمّا قول عائشة ما فقد جسده، فعائشة لم تحدّث عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن حينئذ زوجة، ولا في سنّ من يضبط، ولعلها لم تكن ولدت بعد .. ويقول: وأيضاً فليس حديث عائشة بالثابت، والأحاديث الأخرى أثبت. (4)
قال الكوثري (5): وأمّا ما يروى عن عائشة من قولها: ما فُقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه أسري بروحه، فغير ثابت عنها البتة؛ لأنه من رواية ابن إسحاق بلفظ: حدّثني بعض آل بكر، فمن هو هذا؟ وأين ابن إسحاق المتوفى في منتصف القرن الثاني الهجري من إدراك زمن عائشة (6)!
وفي هذا دحض لمن يرى أن الإسراء كان في المنام!
وفي شرح المواهب أن الشاميّ نقل في قول عائشة: (ما فُقد) بالبناء للمفعول، وما (فقدتُ) بالبناء للفاعل، وإسناد الفعل لتاء المتكَلم، وقد حكاهما في الشفاء روايتين، فقال أولاً: وأما قول عائشة (ما فُقد جسده) فهي لم تحدّث عن مشاهدة
…
إلخ .. ثم قال: وأيضاً فقد روي (ما فَقدتُ) قال: ولم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالمدينة!
(1) ابن هشام: 2: 46.
(2)
التفسير: 15: 16.
(3)
الشفا: 1: 255.
(4)
السابق: 256.
(5)
انظر: السيرة للذهبي: 166.
(6)
انظر: الشفا: 1: 245 وما بعدها، والسيرة للذهبي: 166 هامش.
وكل هذا يوهنه، بل الذي يدلّ عليه صحيح قولها إنه بجسده الشريف، لإنكارها رؤيته لربّه رؤية عين، ولو كانت عندها مناماً لم تنكره، وحديثها هذا ليس بالثابت عنها .. يعني لما في متنه من العلّة القادحة، وفي سنده من انقطاع، وراو مجهول!
وقال ابن دحية في التنوير (1): إنه حديث موضوع عليها، وقال في معراجه الصغير، قال إمام الشافعيّة أبو العباس بن سريج: هذا حديث لا يصح، وإنما وضع ردًا للحديث الصحيح!
وأجيب على تقدير صحته بأن عائشة لم تحدّث به عن مشاهدة؛ لأنها لم تكن إذ ذاك زوجاً، ولا في سنّ من يضبط ..
قال عياض: وإذا لم تشاهد ذلك عائشة دلّ على أنها حدّثت بذلك عن غيرها، فلم يرجح خبرها على خبر غيرها!
وكان الظاهر أن يقول: فرجح خبر غيرها، على خبرها: أي لعدم تبوثه عنها، كما أفصح به!
وقال التفتازاني في الجواب على تقدير الصحة: أي ما فُقد جسده عن الروح، بل كان مع روحه، وكان المعراج للجسد والرّوح جميعاً!
وهو جواب حسن، على ما فيه من كونه خلاف المتبادر من اللفظ!
قال السيوطي: فلم يرجح خبرها، مع قول أم هانئ بخلافه (2)!
(1) الزرقاني على المواهب اللدنية: 6: 4 وما بعدها بتصرف.
(2)
الآية الكبرى: 108.
وقال ابن إسحاق (1): حدّثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس: أن معاوية بن أبي سفيان قال: كانت رؤيا من الله تعالى صادقة!
قلت: يعقوب بن عتبة هذا مات سنة 128 هـ بينما معاوية رضي الله عنه توفي سنة 60 هـ، فالحجة منقطعة؛ لأنه لم يدرك معاوية (2).
وقال ابن القيّم بعد أن ذكر قول ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية، والحسن (3): ولكن ينبغي أن يُعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى كأنه قد عُرج به إلى السماء، أو ذُهب به إلى مكّة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما تلك الرؤيا ضرب له المثال، والذين قالوا: عُرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان:
طائفة قالت: عُرج بروحه وبدنه!
وطائفة قالت: عُرِج بروحه ولم يفقد بدنه!
وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناماً، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أُسري بها، وعُرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر به بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماءً
(1) ابن هشام: 2: 46.
(2)
الإصابة: 6: 114.
(3)
زاد المعاد: 3: 40 - 41.
سماءً، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله عز وجل، فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الأرض، والذي كان لرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة!
ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم، لكن لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام خَرْق العوائد، حتى شُقَّ بطنه، وهو حيٌّ لا يتألم بذلك، عُرِج بذات روحه المقدّسة حقيقة من غير إماتة، ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى السماء إلا بعد الموت والمفارقة، فالأنبياء إنما استقرّت أرواحهم هناك بعد مفارقة الأبدان، ورُوح رسول الله صلى الله عليه وسلم صعدت إلى هناك في حال الحياة ثم عادت، وبعد وفاته استقرّت في الرّفيق الأعلى مع أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام!
ومع هذا، فلها إشراف على البدن، وإشراق وتعلّق به، بحيث يردّ السلام على مَن سلّم عليه (1)!
وبهذا التعلّق رأى موسى قائماً يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ومعلوم أنه لم يُعرج بموسى من قبره، ثم رُدّ إليه، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها. وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها، فرآه يُصَلِّي في قبره، ورآه في السماء السادسة!
(1) الحديث رواه أحمد وغيره بسند حسن عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أحد يسلِّم عليَّ، إلَّا ردّ الله عز وجل إليَّ روحي حتى أردّ عليه السلام" أحمد: 2: 527، وفيه أبو صخر -حميد بن زياد الخراط- حسن الحديث، روى له مسلم، وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، وأبو داود (2041)، والبيهقي: 5: 245، والطبراني: الأوسط (3116).