الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآخرة لهم عذاب السعير، المحيط بهم من جميع الجهات، جزاء فسادهم وإفسادهم .. تحصرهم فلا يفلت منهم أحد، وتتّسع لهم فلا يندّ عنها أحد!
أشهر أقول المفسِّرين:
هذا، مع أنه لم يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديث في بيان المراد بالعباد الذين سلّطهم الحق تبارك وتعالى علي بني إسرائيل في مرتيّ هذا الإفساد!
ومع أن إفساد بني إسرائيل قد حدث كثيراً، بحيث لا يُحصى ولا يُعدّ -كما أسلفنا- وأن المقصود من الآيات التي معنا إنما هو إظهار مرّتين حدث فيهما الإفساد منهم .. وأن نفس الآيات تدل على أن التسليط عليهم مستمرّ إلى يوم القيامة، بسبب كفرهم وفسوقهم:{وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} !
ومع أن أقوال المؤرخين والمفسّرين قد اختلفت في المقصود من مرّتي إفسادهم، وفيمن سلّطه الله عليهم، على حسب ما يتراءى لكل قائل فيما حدث من بني إسرائيل من فساد، وما تبعه من عقوبات!
ومع أن المقصود من سياق الآيات إنما هو بيان سنّة من سنن الله في الأمم، حال صلاحها وفسادها .. وأن القرآن -كما سبق- قد ساق هذا المعنى بأحكم عبارة!
يقول ابن كثير بعد أن ذكر هذه الأقوال وعلّق عليها: (1)
وفيما قصَّ الله علينا في كتابه غنية عما سواه من بقيّة الكتب قبله، ولم
(1) تفسير ابن كثير: 3: 25.
يحوجنا الله ولا رسوله إليهم، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلّط الله عليهم عدوّهم، فاستباح بيضتهم، وسلك خلال بيوتهم، وأذلّهم وقهرهم، جزاء وفاقاً، وما ربك بظلاّم للعبيد، فإنهم كانوا قد تمرّدوا وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء!
ويروي ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
قال: بعث الله عليهم في المرّة الأولى جالوت، فجاس خلال ديارهم، وضرب عليهم الخراج والذّلّ، فسألوا الله تعالى أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون في سبيل الله، فبعث الله (طالوت) فنصر الله بني إسرائيل، وقتل جالوت بيد داود، ورجع إلى بني إسرائيل ملكهم، فلمّا أفسدوا بعث الله عليهم في المرة الآخرة (بخت نصر) فخرب المساجد وتبّر ما علوا تتبيراً، قال الله تعالى بعد الأولى والآخرة:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا}
قال: فعادوا فسلّط الله عليهم المؤمنين (1)!
وفي رواية لهما -أيضاً- عن قتادة قال:
أما المرّة الأولى فسلّط عليهم (جالوت)، حتى بعث (طالوت) ومعه (داود)، ثم ردّ الكرّة لبني إسرائيل:{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}
(1) بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 362 وما بعدها، نقلاً عن: الدر المنثور: 4: 163، انظر: تفسير الطبري: 15: 28.
أي عدداً، وذلك في زمان (داود):{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ} !
آخر العقوبتين: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} !
وقال: ليقبحوا وجوهكم: {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} !
قال: كما دخل عدوهم قبل ذلك: {وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)} !
قال: يدمّرون ما علوا تدميراً، فبعث الله عليهم في الآخرة (يخت نصر) البابلي المجوسي، أبغض خلق الله إليه، فسبى وقتل وضرب بيت المقدس وسامهم سوء العذاب. (1)
وهذا الرأي الذي نختاره -كما يقول الدكتور طنطاوي (2) - نستند في اختيارنا له إلى أمور أهمها ما يلي:
أولاً: ذكر القرآن الكريم عند عرضه لقصّة القتال الذي دار بين (طالوت) قائد بني إسرائيل وبين (جالوت) قائد أعدائهم ما يدلّ على أن بني إسرائيل كانوا قبل ذلك مقهورين مهزومين من أعدائهم، ويتجلّى هذا المعنى في قوله تعالى:
فقولهم كما حكى القرآن عنهم: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} !
يدلّ دلالة قويّة على أنهم قبل قتالهم لـ (جالوت) كانوا قد هزموا على أيدي أعدائهم هزائم منكرة، اضطروا معها إلى الخروج من ديارهم ومفارقة أبنائهم!
(1) السابق.
(2)
بنو إسرائيل في القرآن والسنة: 2: 366 وما بعدها، بتصرف.
ثانياً: صرّح بعض المفسّرين بأن الأعداء الذين أخرجوا بني إسرائيل من ديارهم وأبنائهم هم قوم (جالوت)، وأنهم كانوا قد غلبوا بني إسرائيل، وقتلوا عدداً كبيراً منهم، وذلك قبل أن تعود الكرّة لبني إسرائيل عليهم بقيادة (طالوت)!
قال الآلوسي: وكان سبب طلب بني إسرائيل من نبيّهم أن يبعث الله لهم ملكاً ليقاتلوا في سبيل الله، أن أعداءهم وهم العمالقة قوم (جالوت) ظهروا عليهم، وتغلّبوا على كثير من بلادهم، وضربوا عليهم الجزية! (1)
ثالثاً: قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} ! صريح في أن الله تعالى نصر بني إسرائيل بعد أن تابوا وأنابوا على أعدائهم الذين قهروهم وأذلّوهم وجاسوا خلال ديارهم!
وهذا المعنى ينطبق على ما قصّه القرآن الكريم علينا من أن بني إسرائيل بقيادة (طالوت) قد انتصروا على (جالوت) وجنوده، ومن أن داود قتل (جالوت)، قال تعالى:
ولقد كان هذا النصر نعمة كبرى لبني إسرائيل؛ لأنه أتاهم بعد ما أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، وبعد أن اعترضوا على اختيار (طالوت) ملكاً عليهم، وبعد أن قاتل مع (طالوت) عدد قليل منهم .. ولا شك أن هذا النصر في هذه الحالة أدعى لطاعة الله تعالى وشكره على آلائه!
(1) السابق: نقلاً عن تفسير الآلوسي: 2: 141 بتصرف.
رابعاً: قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)} !
أكثر ما يكون انطباقاً على عهد حكم (داود) و (سليمان) عليهما السلام لبني إسرائيل، ففي هذا العهد الذي دام زهاء ثمانين سنة، ازدهرت مملكتهم، وعزّ سلطانهم، وأمدّهم الله خلاله بالأموال الوفيرة، وبالبنين الكثيرة، وجعلهم أكثر من أعدائهم قوة وعدداً!
أمّا بعد هذا العصر الذهبي -كما أسلفنا- فقد انقسمت مملكتهم إلى قسمين:
مملكة يهوذا!
ومملكة إسرائيل!
واستمرّتا في صراع ونزاع وتدهور، حتى قضى الآشوريون على مملكة إسرائيل سنة 721 ق. م، وقضى (بخت نصر) على مملكة (يهوذا) سنة 588 ق. م!
وتاريخهم بعد ذلك ما هو إلا سلسلة من المآسي والنكبات والعقوبات التي حلّت بهم من الشعوب المختلفة في شتّى مراحل التاريخ، بسبب فسادهم وإفسادهم في الأرض!
وأمّا المراد بالعباد الذين سلّطهم الله على بني إسرائيل بعد إفسادهم الثاني في الأرض، فيرى جمهور المفسّرين أنهم البابليّون بقيادة (بخت نصر) .. الذي غزاهم ثلاث مرات:
الأولى: سنة 606 ق. م
والثانية: سنة 599 ق. م
والثالثة: سنة 588 ق. م
وفي هذه المرّة الثالثة قتل الآلاف منهم، وهدم هيكلهم، وساق الأحياء أسارى إلى بابل!
وهذا الرأي الذي قاله جمهور المفسّرين ليس ببعيد، لما ذكرنا من تنكيله بهم .. إلا أننا نؤثر على هذا الرأي أن يكون المسلّط عليهم بعد إفسادهم الثاني، هم الرومان بقيادة (تيطس) لأمور، أهمها:
أولاً: الذي يتتبَّع التاريخ يرى أن رذائل بني إسرائيل في الفترة التي سبقت تنكيل الرومان بهم أشدّ وأكبر من رذائلهم التي سبقت (بخت نصر) لهم، وبالتالي كان تسليط الرومان عليهم أنكى وأقسى، فهم -على سبيل المثال- قبيل بطش الرومان بهم بقيادة (تيطس) كانوا قد قتلوا من أنبياء الله (زكريا) و (يحيى) عليهما السلام-كما أسلفنا- وحاولوا قتل (عيسى) عليه السلام واتخذوا لذلك كل السبل، ولكنهم لم يفلحوا لأسباب خارجة عن إرادتهم، وكانت الرذائل والمنكرات قد فشت فيهم، مما أدّى إلى لعنهم بسبب ذلك!
فكانت ضربات الرومان القاصمة لهم، والهادمة لكيانهم، عقاباً مناسباً من الحق تبارك وتعالى، نتيجة عصيانهم لأوامره، واعتدائهم على خلقه، وعدم تناهيهم عن منكر فعلوه!
ثانياً: المفسرون يذكرون أن تسليط الله عليهم (بخت نصر) في المرّة الثانية من مرّتي إفسادهم، كان من أسبابه قتلهم لـ (يحيى) عليه السلام، و (بخت
نصر) كان سابقاً على (يحيى) عليه السلام في الزمن بأكثر من خمسة قرون، والذين كانت أورشليم تحت سيطرتهم في عهد (يحيى) عليه السلام هم الرومان وقد قتل بنو إسرائيل (زكريّا) و (يحيى) عليهما السلام في عهدهم كذلك!
وإذن فما ذكره المفسّرون من أن الله تعالى سلّط عليهم (بخت نصر) بعد إفسادهم بسبب قتلهم (يحيى) عليه السلام ينطبق على عهد الرومان؛ لأنه كان معاصراً لهم .. ولا ينطبق على عهد (بخت نصر)؛ لأنه قبل (يحيى) عليه السلام بأكثر من خمسة قرون كما ذكرنا!
ثالثاً: ضربات الرومان في ذاتها كانت أشدّ وأقسى على بني إسرائيل من ضربات (بخت نصر) لهم، فمثلاً عدد القتلى من اليهود على يد الرومان بقيادة (تيطس) بلغ مليون قتيل، وبلغ عدد الأسرى نحو مائة ألف أسير -كما يقول المؤرخون (1) - بينما عدد القتلى والأسرى على يد (بخت نصر) كان أقل من هذا العدد بكثير، ولقد وصف المؤرّخون النكبة التي أوقعها (تيطس) باليهود بأوصاف تفوق بكثير ما وصفوا به ما أوقعه بخت نصر بهم!
يقول أحد الكتّاب واصفاً ما حلّ على يد تيطس:
كان (تيطس) في الثلاثين من عمره، حينما وقف سنة 70 م أمام أسوار أورشليم على رأس جيشه، وبدأت المدينة تعاني أهوال الحصار، وتقاسي في الوقت نفسه هولًا أكبر، هو هول الحرب الأهليّة، فقد احتلّ المتعصّبون والمتطرّفون ورجال العصابات من اليهود أحياء المدينة، وأخذوا يشنّون هجمات وحشيّة على أحيائها الأخرى، حتى جرت الدماء في الطرقات، وسرت المجاعة
(1) تاريخ الإسرائيليين: 76.