الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالدرجات التي رُفعَها محمَّد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج -وسَيُرْفَعُها في الآخرة، كالمقام المحمود الذي يغَبطه به الأوّلون والآخرون- ليس لغيره مثلها .. !
قلت: ومع هذا التواتر للأحاديث لم يجد الدكتور هيكل إلا تصوير هذا المستشرق، وفيه ما فيه من طعن في الروايات المتواترة للإسراء والمعراج، مع أنه اعترف صراحة بأن في تصوير (درمنجم) خلافاً بزيادة أو نقص!
أمّا عن هذا الرأي الذي أبداه، فقد أشار إليه بعنوان:
الإسراء ووحدة والوجود:
وقال: ففي الإسراء والمعراج في حياة محمَّد الرُّوحيّة معنى سام غاية السمو، معنى أكبر من هذا الذي يصوّرون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلّمة الخصب حظّ غير قليل، فهذا الرُّوح القويّ قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج (وحدة هذا الوجود) بالغةً غاية كمالها، لم يقف أمام ذهن محمَّد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيًا محدوداً بحدود قوانا المحسّة والمدبِّرة والعاقلة، تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمَّد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده وصوره في تطوّر وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلّبها على الشرّ والنقص، والقبح والباطل، بفضل من الله ومغفرة!
وليس يستطيع هذا السموّ إلا قوّة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانيّة، فإذا
جاء بعد ذلك ممن اتّبعوا محمداً مَن عجز عن متابعته، في سموّ فكرته، وقوة إحاطته بوحدة الكون في كماله وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال، فلا عجيب في ذلك ولا عيب فيه، والممتازون من الناس والموهوبون منهم درجات، وبلوغنا الحقيقة معرّض دائماً لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطيها!
وإذا كان من القياس مع الفارق أن نذكر، لمناسبة ما نحن الآن بصدده، قصّة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرّفوا الفيل ما هو؟
فقال أحدهم: إنه حبل طويل؛ لأنه صادف ذنبه!
وقال الآخر: إنه غليظ كالشجرة؛ لأنه صادف رجله!
وقال ثالث: إنه مدبّب كالرمح؛ لأنه صادف سنّه!
وقال رابع: إنه مستدير ملتو؛ كثير الحركة؛ لأنه صادف خرطومه!
فإن هذا المثل، مقروناً إلى الصورة لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه، يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمَّد عنه (وحدة الكون والوجود)، وتصويره في الإسراء والمعراج؛ حيث يتّصل بأول الزمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث، وحيث تنعدم نهائية المكان، إذ يُطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا الكون يصبح أمامه سديماً، وبين ما يستطيع الكثير إدراكه من حكمة هذا الإسراء والمعراج، إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون وحياته إلا كذرّات الجسم، بل كالذرّات العائقة به من غير أن يتأثّر بها نظامه، أين الواحدة من هذه الذرّات من حياة هذا الجسم، ومن
نبض قومه، وإشراق روحه، وضياء ذهنه، وامتلائه بالحياة التي لا تعرف حدًّا؛ لأنها تتّصل من الوجود بكل حياة الوجود!
والإسراء بالرّوح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالرّوح جميعاً، سموًا وجمالًا وجلالاً، فهو تصوير قويٌّ للوحدة الرّوحيّة من أزل الوجود إلى أبده، فهذا التعريج على جبل سيناء، حيث كلم الله موسى تكليماً، وعلى بيت لحم حيث ولد عيسى، وهذا الاجتماع الرّوحيّ ضمّت الصلاة فيه محمدًا وعيسى وموسى وإبراهيم، مظهر قويٌّ لوحدة الحياة الدّينيّة، على أنها من قوام وحدة الكون في مَوْره الدائم إلى الكمال!
والعلم في عصرنا الحاضر يقرّ هذا الإسراء بالرُّوح، ويقرّ المعراج بالرُّوح، فحيث تتقابل القوى السليمة يشعّ ضوء الحقيقة، كما أن تقابل قوى الكون في صورة معيّنة قد طوّع لـ (ماركوني)، إذ سلّط تيّاراً كهربائيًا خاصًا من السفينة التي كانت راسيةً بـ (البندقيّة)، وأن يضيء بقوّة موجات الأثير مدينة (سدني) في (أستراليا)!
وفي عصرنا هذا يقرّ العلم نظريات قراءة الأفكار، ومعرفة ما تنطوي عليه، كما يقرّ انتقال الأصوات على الأثير ب (الراديو)، وانتقال الصور والمكتوبات كذلك، مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال!
وما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشّف لعلمنا كل يوم عن جديد .. فإذا بلغ روح من القوّة، ومن السلطان، ما بلغت نفس محمَّد، فأسرى به الله ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله، ليريه من آياته، كان ذلك مما يقرّ العلم، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القويّة
السامية في جمالها وجلالها، والتي تصوّر الوحدة الرّوحيّة، ووحدة الكون في نفس محمَّد تصويراً صريحاً، يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السموّ بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة، وحاول الوصول إلى كنه الحقيقة العليا، ليعرف مكانه، ومكان العالم كله منها!
لم يكن العرب من أهل مكة ليستطيعوا إدراك هذه المعاني، لذلك ما لبثوا حين حدّثهم محمَّد بإسرائه أن وقفوا عند الصورة المادّيّة من أمر هذا الإسراء، وإمكانه أو عدم إمكانه!
ثم ساور أتباعه والذين صدّقوه أنفسهم بعض الرّيب فيما يقول!
وقال كثيرون: هذا، والله إن العير لتطرد شهراً من مكّة إلى الشام مدبرة، وشهراً مقبلة، أيذهب محمَّد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكّة؟!
ثم قال: وذهب من أخذتهم الرّيبة في الأمر إلى أبي بكر وحدّثوه حديث محمَّد، فقال أبو بكر:
(والله لئن كان قاله لقد صدق، وما يعجبكم من ذلك! فوالله! إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار، فهذا أبعد مما تعجبون منه) ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن وصفه، وكلما ذكر شيئاً قال: صدقت، أشهد أنك رسول الله .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"وأنت يا أبا بكر الصدّيق، فيومئذ سماه الصدّيق"! (1)
قال: ويدلل الذين يقولون إن الإسراء بالجسد على رأيهم بأن قريشاً لمّا
(1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: وانظر: الحاكم: 3: 62 - 63 وصححه الذهبي ووافقه.