الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لها موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حوارها معه ومكالمتها إياه، أن تجد عنده هوادةً في عزيمة القيام بأمر دعوته، وصلابته في تبليغ رسالته، كما يئست أن تجد لها منفذاً فيما عرضته عليه من مظاهر دنياها في شتّى أشكالها، وأبلغ ما تطمح إليه النفوس (الترابيّة) من صورها وأشكالها وألوانها!
فأعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عنها متسامياً في عبوديته ربّه، مترفّعاً برسالته عن دناءات دنيا المادية الوثنيّة من مال وثراء، وكنوز، وجنات وعيون، وزخرف وزينة، ومتاع مادي وسيادة، وملك وسلطان، وأبى عليهم إلا أن يقولوا كلمة واحدة (لا إِله إِلا الله)، فإذا قالوها ملكوا بها الدنيا من أطرافها، والحياة من أقطارها شرفاً حقيقيًّا، وسؤددًا وملكاً مؤثّلاً!
24 - الصبر الجميل:
وقد قابل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سفه قريش وإيذاءها بأجمل الصبر، وأعلى مراتب العفو والغفران، والإعراض عن المجازاة، والصفح عن الإساءات مع المحاسنة والمصابرة!
ويطالعنا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير (1)، قال: سألت عبد الله ابن عمرو عن أشدّ ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأيت عقبة ابن أبي معيط جاء إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يُصلّي، فوضع رداءه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (غافر: 28).
(1) البخاري: 62 - فضائل الصحابة (3678)، وانظر (3856، 4815).
وفي رواية لابن إسحاق وغيره عن عروة عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو ابن العاص قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يظهرون من عداوته، قال: حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما رأينا مثل ما صَبَرنا عليه من أمر هذا الرجل قط، سفّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرّق جماعتنا، وسبّ آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا: فبينا هم في ذلك، إِذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مرّ بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول، قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثم مضى، فلما مرّ بهم الثانية غمزوه بمثلها. فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مرّ بهم الثالثة فغمزوه بمثلها، فوقف ثم قال:"أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده! لقد جئتكم بالذبح".
قال: فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إِلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى إِن أشدّهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إِنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم، فوالله ما كنت جهولاً، قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إِذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إِذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نعم، أنا الذي أقول ذلك". قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، قال: فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه، وهو يبكي، ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ
يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ثم انصرفوا عنه، فإِن ذلك لأشدّ ما رأيت قريشاً نالوا منه قط (1). وفي رواية للشيخين وغيرهما عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إِذ قال بعضهم لبعض: أيّكم يجيء بسلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمَّد إِذا سجد، فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إِذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كانت لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون، ويحيل بعضهم على بعض، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدٌ لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة فطرحت عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال:"اللهم! عليك بقريش". ثلاث مرات، فشق عليهم إِذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمّى:"اللهم! عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية ابن خلف، وعقبة بن أبي معيط". وعدّ السابع، فلم نحفظه، قال:"فوالذي نفسي بيده! لقد رأيت الذين عدّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب يوم بدر"(2)
(1) السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 358 - 359، وصرح بالسماع، ورجاله رجال الصحيح، انظر: المجمع: 6: 15 - 16 ورواه ابن أبي شيبة: 14: 297.
(2)
البخاري: 4 - الوضوء (240)، وانظر (520، 2934، 3185، 3854، 3960)، ومسلم (1794)، وأحمد: 1: 393، والنسائي: 1: 161 - 162، واللالكائي: أصول الاعتقاد (1418، 1419)، والبزار (2399)، والبيهقي: 9: 7 - 8، والدلائل: 2: 279، 280، 3: 82 - 83، والبغوي (3745)، وابن حبان (6570).