الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحطيم الطبقات كلها، لتسويد طبقة واحدة، ناسية أو متناسية النفس الواحدة التي انبثق منها الجميع، والرّبوبيّة الواحدة التي يرجع إليها الجميع!
وكفيل بأن يقرّر للمرأة كرامتها؛ لأنها من النفس الواحدة فطرةً وطبعًا، خلقها الله عز وجل لتكون لها زوجًا، وليبثّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً!
ولقد خبطت البشريّة في هذا التّيه طويلًا، حين جرّدت المرأة من كل خصائص الإنسانيّة وحقوقها .. تحت تأثير تصوّر سخيف لا أصل له، فلما أن أرادت معاني هذا الخطأ الشنيع اشتطت وأطلقت للمرأة العنان، ونسيت أنها إنسان خلقت لإنسان، ونفس خلقت لنفس، وشطر مكمل لشطر، وأنهما ليسا فردين متماثلين، إنهما زوجان متكاملان!
الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:
وكفيل بأن يقرّر أن الأسرة قاعدة الحياة البشريّة .. ولو شاء الله لخلق -في أوّل النشأة- رجالًا كثيرًا ونساء، وزوّجهم، فكانوا أسرًا شتى من أوّل الطريق، لا رحم بينها من مبدأ الأمر، ولا رابطة تربطها إلا صدورها عن إرادة الخالق جلّ شأنه، وهي الوشيجة الأولى، ولكنه عز وجل شاء لأمر يعلمه ولحكمة يريدها أن يضاعف الوشائج، فيبدأ بها من وشيجة الرّبوبيّة -وهي أصل وأوّل الوشائج- ثم يثني بوشيجة الرحم، فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى، من نفس واحدة، وطبيعة واحدة، وفطرة واحدة!
ومن هذه الأسرة الواحدة يبثّ رجالًا ونساءً، كلهم يرجعون ابتداء إلى وشيجة الرّبوبيّة، ثم يرجعون بعدها إلى وشيجة الأسرة، التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني!
ومن ثم هذه الرعاية للأسرة في النظام الإِسلامي، وهذه العناية بتوثيق عراها، وتثبيت بنيانها، وحمايتها من جميع المؤثّرات التي توهن هذا البناء!
في أوّل هذه المؤثّرات مجانبة الفطرة، وتجاهل استعدادات الرجل واستعدادات المرأة، وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها بعضًا، وتكاملها لإقامة الأسرة من ذكر وأنثى!
وإن نظرةً إلى التنوّع في خصائص الأفراد واستعدادتهم -بعد بثّهم من نفس واحدة وأسرة واحدة- على هذا المدى الواسع، الذي لا يتماثل فيه فردان قطّ تمام التماثل، على توالي العصور، وفيما لا يحصى عدده من الأفراد في جميع الأحوال!
التنوّع في الأشكال والسمات والملامح!
والتنوّع في الطباع والأمزجة والأخلاق والمشاعر!
والتنوّع في الاستعدادات والاهتمامات والوظائف!
إن نظرةً إلى هذا التنوّع المنبثق من ذلك التجمّع لتشي بالقدرة المبدعة على غير مثال، المدبّرة عن علم وحكمة .. وتطلق القلب والعين يجولان في ذلك التنوّع الحيّ العجيب، يتملّيان ذلك الحشد من النماذج التي لا تنفد، والتي دائمًا تتجدّد، والتي لا يقدر عليها إلا الله .. ولا يجرؤ أحد على نسبتها لغير الله، فالإرادة التي لا حدّ لما تريد، والتي تفعل ما تريد، هي وحدها التي تملك هذا التنويع الذي لا ينتهي، من ذلك الأصل الواحد الفريد!
والتأمل في (الناس) على هذا النحو كفيل بأن يمنح القلب زادًا من الأنس والمتاع، فوق زاد الإيمان والتقوى، وهو كسب فوق كسب، وارتفاع بعد ارتفاع!
وفي ختام الآية التي معنا نبصر إيحاء بكل هذه الحشود من الخواطر، وما يتصل بها، يردّ (الناس) إلى تقوى الله، الذي يسأل بعضهم بعضًا به، وإلى تقوى الأرحام التي يرجعون إليها جميعًا:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} !
واتقوا الله الذي تتعاهدون باسمه، وتتعاقدون باسمه، ويسأل بعضكم بعضًا باسمه، ويحلف بعضكم لبعض باسمه .. اتقوه فيما بينكم من الوشائج والصلات والمعاملات!
وتقوى الله مفهومة ومعهودة لتكرارها في القرآن .. أما تقوى الأرحام فهي تعبير عجيب يلقي ظلاله الشعوريّة في النفس .. اتقوا الأرحام .. أرهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها .. والإحساس بحقها .. وتوقي هضمها وظلمها .. والتحرّج من خدشها ومسّها .. توقوا أن تؤذوها، وأن تجرحوها، وأن تغضبوها .. أرهفوا حساسيتكم لها، وتوقيركم إياها، وحنينكم إلى نداها وظلّها:
{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} !
وما أهولها من رقابة!
والله عز وجل هو الرقيب!
وهو الربّ الخالق الذي يعلم من خلقه، وهو العليم الخبير الذي لا تخفى عليه خافية، لا في ظواهر الأفعال ولا في خفايا القلوب!