الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
21 - عناد المشركين:
ولما يئس ملأ قريش من استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لمطالبهم الماديّة الأرضيّة (1)، ووقف مع إيمانه برسالة نفسه عند معاقد عزّته وجميل صبره، مستمرًّا في تبليغ رسالته، قوَّاماً بأمر دعوته، لا يغتر ولا يستحسر .. لجؤوا إلى التعنّت واقتراح المطالب التي دفعهم إليها العناد والكفور، والحسد الحقود، فقالوا له: فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضناه عليك، فلا تريد مالاً وثراء، ولا تريد شرفاً وسؤدداً، ولا تريد ملكاً وسلطاناً، فاسأل الله لنا أن يوسَّعَ علينا ديارنا وبلادنا، فيسيِّر عنها الجبال التي تخنقها، ويفجر فيها الأنهار والينابيع، فلم يتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن موقفه في وثاقة إيمانه برسالته، وسموّ أدبه في عبوديته لربه ومعرفته بجلاله، ولا اهتزت نفسه ذرّة عن دعائم صبره ومضاء عزيمته، وأقام صلى الله عليه وسلم في عزم مصمّم، إذا عرضوا دنياهم في الشرف والسيادة والملك والمال والثراء، فأبى أن يقبل منهم شيئاً من أمورهم، فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًّا، ينزعون على ركيّ الدهش والحيرة، فأدخلوا أنفسهم على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاصة. وأقحموا تافهات أفكارهم على عيشه وشأنه في صورة عاطفيّة مرذولة زائفة مزوّرة .. ولم يقف الحمق وخرق الرأي وسفه التفكير بملأ الماديّة الوثنيّة عند هذا الحدّ، ولكنهم اشتطوا على أنفسهم، وركبوا شيطان الجهالة وفجور الوثنيّة، فاستنزلوا على أنفسهم سخط الله ولعناته .. وحكى القرآن الكريم عنهم أبشع من هذا فقال:{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)} (الأنفال).
(1) محمَّد رسول الله صلى الله عليه وسلم: 2: 214 وما بعدها بتصرف.
ولكن اللطيف الودود الذي أرسل محمداً رحمة للعالمين، ولم يرسله لعنة على المعاندين الجاحدين، جعل وجوده حصناً حصيناً من تنزل عذاب الاستئصال في الدنيا بهؤلاء المعاندين الجاحدين، فقال عقب تصوير بشاعتهم يرفع ذكره، وينوّه بمقامه عنده:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ! وجعله أماناً، ولو ظلوا على كفرهم وشركهم، ثم جعل توبتهم بالإيمان واستغفارهم لما سلف من كفرهم أماناً بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} (الأنفال).
يروي البخاري وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: (1)(اللهم إِن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم). فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)} (الأنفال).
ويروي أحمد وغيره عن أبي موسى قال: (2) أمانان كانا على عهد رسول
(1) البخاري: 65 - التفسير (4648، 4649)، والبيهقي: الدلائل: 3: 75.
(2)
أحمد: 4: 393 صحيح لغيره، فيه جهالة محمَّد بن أبي أيوب، تفرد بالرواية عنه حرملة بن قيس، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، من رجال (التعجيل)، وحرملة بن قيس، وهو النخعي، قال أحمد: ما أرى بحديثه بأساً. وقال ابن معين: ثبت، وهو من رجال (التعجيل) كذلك، وكيع: هو ابن الجراح الرؤاسي. والبخاري: التاريخ الكبير: 1: 32، والحاكم: 1: 542 من طريق وكيع بهذا الإسناد، وتحرّف اسم محمَّد بن أبي أيوب إلى عبيد بن أبي أيوب، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وأخرجه الترمذي (3082) مرفوعاً، وتمام الرازي في فوائده (3145): الروض البسام، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وللموقوف شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم: 1، 342، والبيهقي: شعب الإيمان (654) من طريق أسود =
الله صلى الله عليه وسلم، رُفع أحدهما، وبقي الآخر:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)} .
وذكر القرآن الكريم تعنتهم في اقتراحاتهم المشتطة في مواضع متعددة من سوره وآياته، وأجاب عنها فأفحمهم وأبان عن جهالتهم وعنادهم، وركونهم إلى سفاسف الدنيا في أعلى درجات طموحهم، وأرفع مراتب مطامعهم، وكشف عن خبيء نفوسهم؛ وأنهم قوم لا يعيشون إلا لبطونهم وشهواتهم، لا يرتفعون عن الأرض إلا ليقعوا على رؤوسهم في مهاويها، أخلدوا إلى الأرض لا يريمون عنها، فكانوا كالمعنيين بقول الله تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)} (الأعراف).
ونبصر صوراً من هذه الاقتراحات المتعنتة ونحن نقرأ: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ
= ابن عامر شاذان عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن محمَّد كعب القرظي، عنه رضي الله عنه قال: "كان فيكم أمانان
…
" قال الحاكم: هذا حديث على شرط مسلم ولم يخرجاه، وقد اتفقا على أن تفسير الصحابي حديث مسند، ووافقه الذهبي، قلت: هو صحيح، وليس على شرط مسلم، فأبو جعفر الخطمي وهو عمير بن يزيد الأنصاري لم يرو له مسلم، إنما روى له أصحاب السنن، وهو ثقة، وانظر: الطبري: تفسير الآية، والبيهقي: 5: 46 وإسناده حسن!
الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)} (الإسراء).
والمتأمل فيما تعنتوا فيه واقترحوه عليه، يرى الحماقة ماثلة في كل حرف مما قالوا، وفي كل كلمة مما اقترحوا، ويرى خرق الرأي، وتفاهة التفكير تتعرّى من رؤوسهم، وتتقاطر من عقولهم، صديد غباء، ويرى دناءة الطموح، وطموح الدناءة، تتعرّى مكشوفة السوآت، بادية العورات، في مقترحاتهم المتعنّتة، فهم لم يطلبوا إلا ينابيع ماء تجري في أوديتهم، ولم يطلبوا إلا جناناً وحدائق من نخيل وعنب وأنهار تجري خلال تلك الجنات تسقيها، ويأكل منها تنابلة مكة، وهم قعود يهجرون!
فإن لم يك هذا ولا ذاك فصواعق تسقط السماء عليهم قطعاً تدمّرهم كما دمرت إخوانهم الماديّين الوثنيّن قبلهم إذ كذّبوا رسل الله وكفروا برسالاته!
فإن لم تستجب -يا محمَّد- لبطوننا وهوس أفكارنا الماديّة المظلمة فخذ لنفسك من ربك، واطلب منه أن يغنيك عن النّصب والكيد في سبيل المعاش، كما ينصب ويكدّ سائر الناس، فليعطك ربك عزًّا دنيويًّا، وترفاً في العيش، وتنعماً يرفّهك في بيت منضد مزخرف بالزينة، مموّه بالذهب، مرقش بالفضّة، منمنم بمتاع الدنيا وزينتها!
ويحكي عنهم القرآن الكريم قولهم: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَو
يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)}! (الفرقان).
فعقولهم المظلمة لا تستسيغ فهم رسول من عند الله، يدعو الناس إلى توحيد الله تعالى، وإقامة موازين العدل في الأرض، يعيش ببشريّته كما يعيش سائر البشر، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ليكسب عيشه من كده وعرق جبينه، كما يكسب جميع الشرفاء في أرض الله أرزاقهم وأسباب عيشهم!
وهؤلاء الماديّون الوثنيّون لا يفهمون ما يقولون؛ لأنهم يتناقضون مع أنفسهم، فهم قد عجبوا أن جاءهم رسول يأكل الطعام، وهم أرادوه أن يأكل كما يأكل سائر الناس، ولكن من جنة دانية القطوف، يأكل منها وهو مستلق على ظهره يناغي نجوم الليل، لا يتعب ولا يتحرك، فإن لم تكن جنة فكنز من الذهب ينفق منه ما يشاء، فلا ينفد ولا يبيد!
بلادة عقليّة، وعقليّات بليدة، لا تعرف من الحياة إلا الأكل والطعام والشراب، وحتى هذا الذي تعرفه وتعيش عليه وله لا تريده إلا عسلاً يقطر في أفواههم وهم نائمون، فهم كما قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} (محمَّد). وكما قال عز شأنه: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)} (الأعراف).
ومن غلوّ هؤلاء الماديّين الوثنيين، وإغراقهم في الطيش والسفه الجهول، وطمس بصائرهم عن معرفة جلال الله وقدرته حق قدره تجاوزهم في تعنتهم كل حد بطلبهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله تعالى تحيط به الملائكة
جهرة حتى يعاينوه معاينة بأبصارهم، تعالى الله عما يقول الجاهلون الظالمون علواً كبيراً!
تصوّر ماديّ ترابيّ جهول، لا يدين به إلا عبيد الوثنيّة في كل عصر ومكان من الحياة؛ لأنهم لا يعرفون إلا المادة وصورها وأشكالها!
ومن هذا الغلوّ الجهول الفاجر ما رواه ابن إسحاق، قال: فلما قالوا ذلك لرسول صلى الله عليه وسلم قام عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أميّة بن المغيرة بن مخزوم، وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لعاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا محمَّد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله، كما تقول، ويصدّقوك ويتّبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم، ومنزلتك من الله فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجّل لهم بعض ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل -أو كما قال له- فوالله لا أؤمن بك أبداً حتى تتخذ إِلى السماء سُلماً، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إِليك حتى تأتيها، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك ميتاً تقول، وايم الله، لو فعلت ذلك ما ظننت أنّي أصدّقك! (1)
جنون وعته؟ وطغيان وسفه، فالماديّون الوثنيّون في كل زمان ومكان، وجيل وقبيل، وعصر ومصر، لا يريدون بمقترحاتهم المتعنّتة أدلة على صدق دعوة الحق، ولكنهم يريدون العناد الكفور، والكفر العنيد، تملكهم الحسد
(1) السيرة النبوية: ابن هشام: 1: 367 - 368 صرح ابن إسحاق بالسماع وسنده منقطع، ورواه الطبري: التفسير: 15: 164 - 166 من طريق ابن إسحاق، دار الفكر، وابن أبي حاتم في تفسيره فيما عزاه إليه السيوطي في الدر: 4: 202 - 203، وابن المنذر -أيضاً- والواحدي: أسباب النزول: 198 - 199 معلقاً.