المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مشاهد وعبر ونجد أنفسنا أمام ضرورة الوقوف بسرعة أمام أهم المشاهد - الجامع الصحيح للسيرة النبوية - جـ ٤

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌«مقدمات جهاد الدعوة وأثرها في حياة الدعاة»

- ‌مقدمة

- ‌رسالة ورسول

- ‌1 - إنذار الأقربين:

- ‌2 - الجهر العام:

- ‌3 - بين زعماء قريش وأبي طالب:

- ‌4 - السخرية والاستهزاء:

- ‌5 - التطاول على القرآن ومنزله ومن جاء به:

- ‌6 - الاتصال باليهود وأسئلتهم:

- ‌ السؤال عن الروح:

- ‌ أهل الكهف:

- ‌ ذو القرنين:

- ‌7 - دستور الحكم الصالح:

- ‌الطغاة:

- ‌المستضعفون:

- ‌8 - إنذار يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌9 - {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً}:

- ‌10 - بين الصهيونية والصليبيّة:

- ‌11 - معركة عقيدة:

- ‌12 - إسلام عمر الفاروق:

- ‌13 - عزيمة النبوّة:

- ‌14 - الاضطهاد والتعذيب:

- ‌15 - المساومة والإغراء:

- ‌16 - عقليَّة بليدة:

- ‌أولها:

- ‌ثانياً:

- ‌ثالثها:

- ‌رابعها:

- ‌17 - السمو الروحي:

- ‌18 - رسالة ورسول:

- ‌19 - طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌20 - في رحاب سورة (فصلت):

- ‌21 - عناد المشركين:

- ‌22 - المعجزة الكبرى:

- ‌23 - نهاية المفاوضات:

- ‌24 - الصبر الجميل:

- ‌25 - تبليغ الرسالة:

- ‌26 - موقف الوليد بن المغيرة:

- ‌27 - نموذج للشرّ الخبيث:

- ‌قال المفسرون:

- ‌وقال الشوكاني في قوله:

- ‌28 - دعاية للرسالة والرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌29 - نماذج الخبث البشري:

- ‌30 - أسلوب الآيات:

- ‌31 - معالم الفجور:

- ‌32 - خصائص هذا النموذج:

- ‌33 - رأي آخر:

- ‌قال الفخر الرازي

- ‌قال الفخر الرازي:

- ‌34 - في رحاب سورة (القلم):

- ‌35 - معالم خصائص نموذج الفجور:

- ‌ المعْلَم الأول:

- ‌ المعْلم الثاني:

- ‌ المعلم الثالث:

- ‌ المعْلم الرابع:

- ‌ المعْلَم الخامس:

- ‌ المعْلَم السادس:

- ‌36 - إشهار نموذج الشر:

- ‌37 - منح في ثنايا المحن:

- ‌38 - إذاعة الإرجاف:

- ‌39 - توجيه إلهي:

- ‌40 - إسلام الطفيل الدوسي:

- ‌41 - نور الهداية:

- ‌42 - مضاء العزيمة:

- ‌43 - حوار عقول:

- ‌44 - آيات من العبر:

- ‌45 - قوّة الإيمان:

- ‌46 - المستقبل للإسلام:

- ‌47 - درس للدعاة:

- ‌«طريق جهاد الدعوة في ضوء سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌مقدمة

- ‌هذا هو الطريق

- ‌أشدّ الناس بلاء:

- ‌مفرق الطريق:

- ‌ضرورة الابتلاء:

- ‌قيمة العقيدة:

- ‌حقيقة الابتلاء:

- ‌يخلص لنا ابتداءً:

- ‌ويخلص لنا ثانياً:

- ‌ويخلص لنا ثالثاً:

- ‌ويخلص لنا رابعاً:

- ‌ابتلاء شديد:

- ‌هذا هو الطريق

- ‌وهذه هي طبيعة هذا المنهج ومقوّماته

- ‌والمصابرة

- ‌والمرابطة

- ‌تمحيص المؤمنين:

- ‌تربية إيمانيّة:

- ‌توكّل على الله:

- ‌نهاية الظالمين:

- ‌إعداد وثبات:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌معالم في الطريق:

- ‌المعلم الأول:

- ‌المعلم الثاني:

- ‌المعلم الثالث:

- ‌زلزال شديد:

- ‌مناجاة في ليلة القدر:

- ‌الله والطاغوت:

- ‌شظايا من الإيمان:

- ‌الهجرة إلى الحبشة

- ‌أول هجرة في الإِسلام:

- ‌السابقون إلى الإِسلام:

- ‌مكانة السابقين:

- ‌غيظ قريش وحنقها:

- ‌إشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهجرة:

- ‌هجرة تبليغ الرسالة:

- ‌البعد عن مواطن الفتنة:

- ‌البعد عن إثارة المعوّقات في طريق الرسالة:

- ‌تخفيف الأزمات النفسيّة:

- ‌إفساح طريق التبليغ:

- ‌سجل المهاجرين:

- ‌حكمة سياسة الاستسرار:

- ‌سفارة المشركين إلى النجاشي:

- ‌سياسية تبليغ الدعوة:

- ‌إخفاق سفارة المشركين:

- ‌تملك النجاشيّ على الحبشة:

- ‌إسلام النجاشي:

- ‌عالميّة الدعوة الإِسلاميّة:

- ‌مكانة المرأة المسلمة:

- ‌عودة المهاجرين إلى المدينة:

- ‌هجرة مواجهة واختبار:

- ‌أسطورة الغرانيق

- ‌أكذوبة متزندقة:

- ‌المبشرون المستشرقون:

- ‌المستشرق اليهودي (يوسف شاخت) وأسطورة الغرانيق:

- ‌المستشرق (بروكلمان) وغيره:

- ‌السبب الأول:

- ‌السبب الثاني:

- ‌ردود العلماء:

- ‌بطلان الأسطورة سنداً ومتناً:

- ‌قول الحافظ ابن حجر:

- ‌قول الدكتور (أبو شهبة):

- ‌قول الإِمام محمد عبده:

- ‌البطلان من حيث الزمان:

- ‌سبب سجود المشركين:

- ‌لا سبيل للشيطان:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌على أن قول الشيخ الإِمام ابن تيمية:

- ‌ثم قال الإِمام ابن تيمية:

- ‌رأي أهوج للكوراني:

- ‌أمران باطلان:

- ‌الأمر الأول:

- ‌الأمر الثاني:

- ‌مفاسد رأي الكوراني:

- ‌المفسدة الأولى

- ‌قال الكوراني في ردّه على هذا الوجه من المفسدة:

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلامة الآلوسي في نقض اعتراض الكوراني على المفسدة الأولى

- ‌المفسدة الثانية

- ‌وأجاب الشيخ الكوراني على هذا الوجه من المفسدة فقال:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌يقول الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الثالثة:

- ‌وقال الشيخ عرجون

- ‌ويردّ الشيخ إبراهيم الكوراني على الوجه الثالث من وجوه المفاسد الغرنوقيّة، فيقول الآلوسي

- ‌قال الشيخ عرجون:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌المفسدة الرابعة:

- ‌المفسدة الخامسة:

- ‌المفسدة السادسة:

- ‌قال العلاّمة الآلوسي:

- ‌ثم قال العلاّمة المفسّر شهاب الدين السيد محمود الآلوسي، معقّباً على ما ساقه من (أخبار هذه الأقصوصة الغرنوقيّة):

- ‌ثم قال الآلوسي:

- ‌قال شيخنا عرجون رحمه الله:

- ‌آيات القرآن:

- ‌درس للدعاة:

- ‌اعتباران:

- ‌الاعتبار الأول:

- ‌الاعتبار الثاني:

- ‌وصيّة أخويّة:

- ‌محنة الحصار الاقتصادي المقاطعة الظالمة

- ‌قوّة عزيمة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌التآمر على قتل النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تدبير أبي طالب لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌سبب كتابة الصحيفة:

- ‌شدّة حرص أبي طالب وشعره:

- ‌نقض ما تعاهدوا عليه:

- ‌آية الله في الصحيفة:

- ‌سعي أبي طالب:

- ‌كاتب الصحيفة:

- ‌شدة الحصار:

- ‌وفي رواية يونس:

- ‌كاتبها ماحيها:

- ‌تحرك العواطف:

- ‌لؤم نحيزة أبي جهل:

- ‌شعر أبي طالب بعد تمزيق الصحيفة:

- ‌المقاطعة في الصحيح:

- ‌إعداد لتحمّل أثقال الدعوة:

- ‌دروس للدعاة:

- ‌مسيرة الدعوة:

- ‌توالي اشتداد المحن

- ‌خُسران ملأ قريش:

- ‌مواقف العامة من الدعوة:

- ‌منهج الدعوة إلى الله:

- ‌رزء الحميّة القوميّة بوفاة أبي طالب:

- ‌شعر أبي طالب في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌وصيّة أبي طالب لقومه:

- ‌وفاة أبي طالب:

- ‌رزء الإِسلام ونبيّه بوفاة خديجة رضي الله عنها:

- ‌حقيقة الرسالة:

- ‌تسامي حياة الصدّيقية المؤمنة:

- ‌ورقة يؤكد فراسات خديجة:

- ‌دور خديجة رضي الله عنها:

- ‌موت خديجة وتسليم الله عليها وتبشيرها:

- ‌الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف:

- ‌قدوم الجنّ وإسلامهم:

- ‌توجيه ربّانيّ:

- ‌«الإسراء والمعراج - منحة ربانية بعد اشتداد المحن»

- ‌مقدمة

- ‌منحة ربَّانيَّة

- ‌طريق الدعوة:

- ‌أعظم آيّات الإعجاز الكوني:

- ‌تشريف وتكريم:

- ‌آيات الأنبياء:

- ‌رسالة عقليّة علميّة خالدة:

- ‌القرآن آية التحدّي العظمى:

- ‌الآيات الحسيّة لخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

- ‌فكان الردّ عليهم:

- ‌ونقرأ التعقيب في الآية التالية:

- ‌ونبصر موقف أهل الإيمان عقب تلك الآيات مباشرة:

- ‌انشقاق القمر:

- ‌نبع الماء من بين أصابع النبيّ صلى الله عليه وسلم

- ‌تكثير الطعام القليل:

- ‌حنين الجذع:

- ‌التحدّي بالقرآن:

- ‌آية الإسراء أرفع المراتب:

- ‌مفهوم الإسراء:

- ‌مفهوم المعراج:

- ‌حكم الإسراء والمعراج:

- ‌أهم الأحاديث:

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحكمة في اختصاص كل نبيّ بسماء:

- ‌صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء:

- ‌حكمة اجتماع الأنبياء في الصلاة:

- ‌بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش:

- ‌حقيقة الإسراء والمعراج:

- ‌القول الأول:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌قول باطل:

- ‌الإسراء ووحدة والوجود:

- ‌إبطال وحدة الوجود:

- ‌إنكار النصوص وتحريفها:

- ‌إغراب وتشويش:

- ‌طريق الكفاح في مسير الدعوة:

- ‌دعاة على الطريق:

- ‌وقت الإسراء والمعراج:

- ‌بدء الإسراء:

- ‌شبهات .. وردُّها

- ‌حديث شريك:

- ‌الشبهة الأولى وردّها:

- ‌الشبهة الثانية وردّها:

- ‌الشبهة الثالثة وردّها:

- ‌الشبهة الرابعة وردّها:

- ‌الشبهة الخامسة وردّها:

- ‌الشبهة السادسة وردّها:

- ‌الشبهة السابعة وردّها:

- ‌الشبهة الثامنة وردّها:

- ‌رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربّه ليلة المعراج:

- ‌القول الأوّل:

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌الراجح من الأقوال:

- ‌الشبهة التاسعة وردّها:

- ‌الشبهة العاشرة وردّها:

- ‌بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام:

- ‌مكانة المسجد الحرام

- ‌أول بيت للعبادة:

- ‌دين السلام:

- ‌ليلة القدر يكتنفها السلام:

- ‌أخوّة إنسانيّة:

- ‌الأسرة قاعدة الحياة البشريّة:

- ‌أساس السلام:

- ‌{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}:

- ‌أخص خصائص التحرّر الإنساني:

- ‌حرّية الدعوة:

- ‌إدراك العجز إدراك:

- ‌مكانة المسؤوليّة:

- ‌سلام عالمي:

- ‌ملّة إبراهيم:

- ‌سؤال الأمن يوم الخوف:

- ‌الأمن عبر التاريخ:

- ‌{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}:

- ‌{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}:

- ‌حقوق الإنسان:

- ‌دعوة إبراهيم:

- ‌مكانة المسجد الأقصى ودور اليهود عبر التاريخ

- ‌تاريخ المسجد الأقصى:

- ‌في رحاب سورة الإسراء:

- ‌العصر الذهبي:

- ‌عهد الانقسام وزوال الملك:

- ‌مع الآيات القرآنية:

- ‌أشهر أقول المفسِّرين:

- ‌نبوءة المسيح عليه السلام:

- ‌رأي جديد:

- ‌سورة بني إسرائيل:

- ‌ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}

- ‌ردّ الكرة:

- ‌فرصة للاختيار:

- ‌بشرى للمؤمنين:

- ‌تعليق على المقال:

- ‌فتح المسلمين للقدس:

- ‌القدس الشريف:

- ‌خطبة الفاروق رضي الله عنه

- ‌العهدة العمرية:

- ‌أساطير التعصّب والحروب:

- ‌قذائف الحق:

- ‌نبوءة النصر:

- ‌الأقصى بين الأمس واليوم

- ‌الأقصى ينادي:

- ‌شكوى

- ‌جواب الشكوى

- ‌فلسطين الدامية

- ‌أخي

- ‌رد على الشهيد

- ‌نكبة فلسطين

- ‌يا أمتي وجب الكفاح

- ‌يا قدس

- ‌إلى القدس هيّا نشدّ الرحال

- ‌فلسطين الغد الظاهر

- ‌مناجاة في رحاب الأقصى

- ‌ذبحوني من وريد لوريد

- ‌اغضب لله

- ‌مشاهد وعبر

الفصل: ‌ ‌مشاهد وعبر ونجد أنفسنا أمام ضرورة الوقوف بسرعة أمام أهم المشاهد

‌مشاهد وعبر

ونجد أنفسنا أمام ضرورة الوقوف بسرعة أمام أهم المشاهد والعبر والأمثال التي ضربت للنبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الليلة المباركة، تحمل العبر والعظات، والإشارات والبشارات!

وللأمثال عند بني الإنسان -ولا سيّما العرب- شأن وأيّ شأن، فهي ترينا المعقول في صورة المحسوس، والغائب في صورة المشاهد، والمأمول المرتقب في صورة الواقع المحقّق .. وهي بما فيها من دقة التصوير، وسموّ التعبير، وعظمة التقدير، وقوّة التأثير، تستولي على النفس، وتسيطر على الحسّ، وتهزّ أوتار القلوب هزًّا!

ومن ثمَّ لا عجب أن ضربت الأمثال للنبيّ صلى الله عليه وسلم وصوّرت تصويراً دقيقاً معبّراً، حيث يرى المشهد العجيب، فيستفسر عنه، فيجيبه جبريل عليه السلام!

وأوّل ما يطالعنا من هذه المشاهد أمانة الكلمة، ففي الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما:

"فإِذا قوم يأكلون الجيف، قال: ومن هؤلاء يا جبريل؟ " قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس

" هذا مشهد. (1)

وفي رواية بسند حسن عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

(1) انظر: أحمد: 1: 257 وفيه قابوس مختلف فيه، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، وصحح إسناده ابن كثير: التفسير: 5: 26 وله شواهد، وأورده السيوطي: الدر المنثور: 5: 214 وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وأبي نعيم: الدلائل، والضياء: المختارة.

ص: 1872

"مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب .. أفلا يعقلون؟ "

وفي رواية: "من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك"! (1)

هذا مشهد ثانٍ!

ويأتي مشهد ثالث بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمّا عرج بي ربِّي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"! (2)

تلك المشاهد تحذّر الإنسان وتنذره أن يقول غير الحق، وهي ترهب النفس في صور ترتجف لها فرقاً، ويقشعرّ الوجدان رعباً، سواء في صورة هؤلاء الذين يأكلون الجيف، وهؤلاء الذين تقرض شفاههم بمقاريض من نار، وهؤلاء الذين يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس!

يا للهول!

إن الخيال الشاخص يقف عاجزاً عن أن يتصوّر مآل هؤلاء الذين يقولون غير الحق! في آية صورة من صوره!

(1) أحمد: 3: 120، 231، 239، والفتح الرباني: 20، 257.

(2)

أحمد: 3: 224، والفتح الرباني: 20: 257، وأورده ابن كثير، وعزاه لأحمد، ثم قال: وأخرجه أبو داود من حديث صفوان بن عمرويه من وجه آخر ليس فيه أنس، وانظر: عون المعبود: 223: 13 - 224 (4857 - 4858).

ص: 1873

ألا إنه للهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيّله؛ لأنه أشدّ وأغلظ من أن يطيقه!

ولكنه الواقع الذي ينتظر هؤلاء الذين يسعون بالفتنة، ويمشون بالسوء من القول!

ويزداد الهول البشع شدّة، ويعجز القلم عن التعبير، وترتجف الأوصال، ونحن نقرأ:"خطباء من أمّتك"!

وهذه المشاهد -وهي قليل من كثير- تدعو الإنسان إلى أن يرغب في أن يحفظ للكلمة أمانتها!

وحسبنا -كذلك- أن نذكر ما رواه الترمذي وغيره عن معاذ بن جبل قال:

"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني عن النار، قال: "لقد سألتني عن عظيم، وإِنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت".

ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل".

قال: "ثم تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} (السجدة)!

ص: 1874

ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذورة سنامه"!

قلت: بلى يا نبيّ الله!

فأخذ بلسانه قال: "كفّ عليك هذا"!

فقلت: يا نبيّ الله!، وإِنا لمؤاخذون بما نتكّلم به؟

فقال: "ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إِلا حصائد ألسنتهم"! (1)

وهكذا تأتي أمانة الكلمة ملاك هذا كله .. ومع هذا فما يزال الوجدان يرتعش -وهو يتصوّر- مجرّد تصوّر - تلك المشاهد .. وهنا تشفّ الروح ويراقب الإنسان ربّه فيما يقول وفيما يعمل!

وفي سورة الإسراء نبصر مكانة الفرد ومسؤوليّته، ونحن نقرأ قول الحق تبارك وتعالى:

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)} " (الإسراء)!

وبذلك الناموس تتضح التبعيّة الفرديّة التي تربط كل إنسان بنفسه، وتربط قاعدة العمل والجزاء .. ومن ثمَّ نبصر الربط بين الحركة المسؤولة والكلمة الصادقة، والقول والعمل، والعقيدة والسلوك، والفكرة والتنفيذ!

(1) الترمذي (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصحيح الترمذي (2110)، وأحمد: 5: 231، وعبد بن حميد (113)، وابن ماجه (3973).

ص: 1875

وسبق أن عرفنا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار اللبن، وأعرض عن الخمر، وذلك في الحديث الأوّل الذي رواه مسلم عن ثابت عن أنس، وفيه:

"فجاءني جبريل عليه السلام بإِناء من خمر، وإِناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة".

ونبصر في هذا ترفعاً عن الحرام، وبعداً وإعراضاً، واختياراً للفطرة .. هذا مشهد!

ومشهد ثان نبصره فيما رواه أحمد، قال: حدّثنا أبو عمر الضرير، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كانت الليلة التي أسري بي فيها، أتَتْ عليَّ رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيّبة؟! فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بيْنَا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم، إِذ سقطت المدرَى من يدها، فقالت: بسم الله! فقالت لها ابنةُ فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربِّي وربّ أبيك الله، قالت: أُخْبره بذلك! قالت: نعم، فأخبرتْه فدعاها، فقال: يا فلانة، وإِنّ لك ربًّا غيري؟ قالت: نعم، ربّي وربّك الله، فأمَرَ ببقرةٍ من نحاس فأُحمِيَت، ثم أمر بها أن تُلْقَى هي وأولادها فيها، قالت له: إِنّ لي إِليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحبُّ أن تجمع عظامي وعظامَ ولدي في ثوب واحد، وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأَمَرَ بأولادها فأُلقوا بين يديها، واحداً واحداً، إِلى أن انْتَهَى ذلك إِلى صبِيٍّ لها مُرْضَعٍ، كأنّها تقاعست من أجله، قال: يا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فإِن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقْتَحَمَت".

ص: 1876

قال: قال ابن عباس: تكلّم أربعة صغار: عيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون! (1)

ونبصر في مشهد الفطرة كل خصائص (الدّين القيّم) وتصوّراته، ومن ثم يتكوّن الفرد في جوّ نظيف شريف عفيف، بعيد عن العلاقة الآثمة، ويوجد الربط بين أمانة الكلمة -كما عرفنا- وأداء الأمانات، وانطلاقاً من أن الدّين القيّم دين الحياة، بكل ما تحمله الحياة المباركة الطيّبة من معان!

ونبصر في المشهد الأخير ثبات القلب المؤمن أمام الصعاب، مهما كان شأنها .. ويتضاءل الإنسان أمام هذا الموقف المهيب .. وأمام واقع المسجد الأقصى الذي يئن بحرقة، ويهيب بأتباع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفعوا راية الحق.

وأخيراً وليس آخراً:

نبصر المسجد الأقصى محلّ عناية الله، ومكان رعايته، حيث أسرى بخاتم رسله إليه .. ولئن تاهت البلاد التي سبقت إلى الإِسلام وافتخرت، لأن الفتح كان على أيدي السابقين الأعلام، وجحافل جيوش المسلمين، فإن لموطن المسجد الأقصى أن يعتزّ بأنه قد أسْرى الله عز وجل بخاتم رسله إليه .. وجعل ذلك أمراً محكماً في القرآن الكريم، يتعبّد المسلمون

(1) أحمد: 1: 310، وسنده حسن، فقد سمع حماد بن سلمة من عطاء بن السائب قبل الاختلاط عند جميع الأئمة، وأبو عُمر الضرير اسمه حفص بن عُمر البصري، روى له أبو داود، وهو صدوق، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح!

وأخرجه بنحوه الطبراني (12280) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه بهذا الإسناد!

وابن حبان (2903) عن طريق يزيد بن هارون، والطبراني (12279)، وانظر: ابن ماجه (4030).

ص: 1877

بتلاوته .. وقد أدرك سلفنا الصالح هذه الحقائق، وتلك المعاني، فكانت الشهادة أمنية رفيعة الشأن، جليلة القدر، عظيمة الأثر، وكان الشهداء في مؤتة وحطّين وغيرهما، وقوافل المقاتلين إلى أرض فلسطين، أرض المسجد الأقصى .. وكأنّ هذه الدماء على أرض فلسطين الآن لم تكن كافية، على ما يظهر، أن نجدّد العزم على تحرير المسجد الأقصى .. وكأنه لم يبق لدى الكثير اسم ولا رسم، ولا روح ولا جسم، بيد أن الأمل قائم، ومعادلة النصر حق، والله لا يخلف الميعاد، وصدق الله العظيم:

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (النور: 55)!

ونبصر ضرورة دراسة السيرة النبويّة، وفق هذا المنهج الموضوعي في تلك الدراسات، رجاء أن نرى أنفسنا أمام تفسير الأحداث -وفق قول الرافعي- (1) إن الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الأخلاقيّة العليا إلا فيها، وأنه صلى الله عليه وسلم كان إنساناً، وكان أيضاً حركة في تقدّم الإنسانيّة، وأن من معجزاته أنه أطاق في تاريخه ما عجزت عنه البشريّة في تاريخها، وأن كل أموره موضوعة وضعاً إلهيًّا، كأنها صفات كوّنها الحق وعلّقها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة!

وكأن الحقيقة السامية في سيرة هذا النبيّ تنادي الناس (2) أن قابلوا على هذا الأصل، وصحّحوا ما اعترى أنفسكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانيّة!

(1) وحي القلم: 3: 24 - 25 بتصرف.

(2)

السابق: 2: 6.

ص: 1878

ونبصر اليقين بأن الآلام مهما اشتدّت، والمحن مهما طال أمدها، فإن الآمال الكبيرة المرتقبة تخفّف آلام الكفاح، وتمسح الجراح، وتوضح معالم الطريق.

والمنح التي تعقب المحن، تحملها معها بشائر النصر ..

ومن ثم نبصر خلفاً صالحاً لسلف صالح. تربط الجميع أخوّة زكيّة، صافية نقيَّة، ومحبّة نديّة، ومودّة رضيّة، ونفحة علويّة، وألفة قدسيّة، تنشئ في قلوبنا معالم يعجز القلم عن تصويرها .. وتهبّ نفحات القرن الأوّل .. ويولد للإسلام عالم جديد، يكون قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد!

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

* * *

ص: 1879