الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشاهد وعبر
ونجد أنفسنا أمام ضرورة الوقوف بسرعة أمام أهم المشاهد والعبر والأمثال التي ضربت للنبي صلى الله عليه وسلم فى هذه الليلة المباركة، تحمل العبر والعظات، والإشارات والبشارات!
وللأمثال عند بني الإنسان -ولا سيّما العرب- شأن وأيّ شأن، فهي ترينا المعقول في صورة المحسوس، والغائب في صورة المشاهد، والمأمول المرتقب في صورة الواقع المحقّق .. وهي بما فيها من دقة التصوير، وسموّ التعبير، وعظمة التقدير، وقوّة التأثير، تستولي على النفس، وتسيطر على الحسّ، وتهزّ أوتار القلوب هزًّا!
ومن ثمَّ لا عجب أن ضربت الأمثال للنبيّ صلى الله عليه وسلم وصوّرت تصويراً دقيقاً معبّراً، حيث يرى المشهد العجيب، فيستفسر عنه، فيجيبه جبريل عليه السلام!
وأوّل ما يطالعنا من هذه المشاهد أمانة الكلمة، ففي الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما:
"فإِذا قوم يأكلون الجيف، قال: ومن هؤلاء يا جبريل؟ " قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس
…
" هذا مشهد. (1)
وفي رواية بسند حسن عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) انظر: أحمد: 1: 257 وفيه قابوس مختلف فيه، وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين، وصحح إسناده ابن كثير: التفسير: 5: 26 وله شواهد، وأورده السيوطي: الدر المنثور: 5: 214 وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وأبي نعيم: الدلائل، والضياء: المختارة.
"مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قال: قلت: من هؤلاء؟ قال خطباء من أهل الدنيا، كانوا يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب .. أفلا يعقلون؟ "
وفي رواية: "من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء من أمتك"! (1)
هذا مشهد ثانٍ!
ويأتي مشهد ثالث بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لمّا عرج بي ربِّي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"! (2)
تلك المشاهد تحذّر الإنسان وتنذره أن يقول غير الحق، وهي ترهب النفس في صور ترتجف لها فرقاً، ويقشعرّ الوجدان رعباً، سواء في صورة هؤلاء الذين يأكلون الجيف، وهؤلاء الذين تقرض شفاههم بمقاريض من نار، وهؤلاء الذين يخمشون وجوههم وصدورهم بأظفار من نحاس!
يا للهول!
إن الخيال الشاخص يقف عاجزاً عن أن يتصوّر مآل هؤلاء الذين يقولون غير الحق! في آية صورة من صوره!
(1) أحمد: 3: 120، 231، 239، والفتح الرباني: 20، 257.
(2)
أحمد: 3: 224، والفتح الرباني: 20: 257، وأورده ابن كثير، وعزاه لأحمد، ثم قال: وأخرجه أبو داود من حديث صفوان بن عمرويه من وجه آخر ليس فيه أنس، وانظر: عون المعبود: 223: 13 - 224 (4857 - 4858).
ألا إنه للهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيّله؛ لأنه أشدّ وأغلظ من أن يطيقه!
ولكنه الواقع الذي ينتظر هؤلاء الذين يسعون بالفتنة، ويمشون بالسوء من القول!
ويزداد الهول البشع شدّة، ويعجز القلم عن التعبير، وترتجف الأوصال، ونحن نقرأ:"خطباء من أمّتك"!
وهذه المشاهد -وهي قليل من كثير- تدعو الإنسان إلى أن يرغب في أن يحفظ للكلمة أمانتها!
وحسبنا -كذلك- أن نذكر ما رواه الترمذي وغيره عن معاذ بن جبل قال:
"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يوماً قريباً منه، ونحن نسير، فقلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني عن النار، قال: "لقد سألتني عن عظيم، وإِنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت".
ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل".
ثم قال: "ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذورة سنامه"!
قلت: بلى يا نبيّ الله!
فأخذ بلسانه قال: "كفّ عليك هذا"!
فقلت: يا نبيّ الله!، وإِنا لمؤاخذون بما نتكّلم به؟
فقال: "ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إِلا حصائد ألسنتهم"! (1)
وهكذا تأتي أمانة الكلمة ملاك هذا كله .. ومع هذا فما يزال الوجدان يرتعش -وهو يتصوّر- مجرّد تصوّر - تلك المشاهد .. وهنا تشفّ الروح ويراقب الإنسان ربّه فيما يقول وفيما يعمل!
وفي سورة الإسراء نبصر مكانة الفرد ومسؤوليّته، ونحن نقرأ قول الحق تبارك وتعالى:
وبذلك الناموس تتضح التبعيّة الفرديّة التي تربط كل إنسان بنفسه، وتربط قاعدة العمل والجزاء .. ومن ثمَّ نبصر الربط بين الحركة المسؤولة والكلمة الصادقة، والقول والعمل، والعقيدة والسلوك، والفكرة والتنفيذ!
(1) الترمذي (2616) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصحيح الترمذي (2110)، وأحمد: 5: 231، وعبد بن حميد (113)، وابن ماجه (3973).
وسبق أن عرفنا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار اللبن، وأعرض عن الخمر، وذلك في الحديث الأوّل الذي رواه مسلم عن ثابت عن أنس، وفيه:
"فجاءني جبريل عليه السلام بإِناء من خمر، وإِناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة".
ونبصر في هذا ترفعاً عن الحرام، وبعداً وإعراضاً، واختياراً للفطرة .. هذا مشهد!
ومشهد ثان نبصره فيما رواه أحمد، قال: حدّثنا أبو عمر الضرير، أخبرنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما كانت الليلة التي أسري بي فيها، أتَتْ عليَّ رائحة طيبة، فقلت: يا جبريل، ما هذه الرائحة الطيّبة؟! فقال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قال: قلت: وما شأنها؟ قال: بيْنَا هي تمشط ابنة فرعون ذات يوم، إِذ سقطت المدرَى من يدها، فقالت: بسم الله! فقالت لها ابنةُ فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربِّي وربّ أبيك الله، قالت: أُخْبره بذلك! قالت: نعم، فأخبرتْه فدعاها، فقال: يا فلانة، وإِنّ لك ربًّا غيري؟ قالت: نعم، ربّي وربّك الله، فأمَرَ ببقرةٍ من نحاس فأُحمِيَت، ثم أمر بها أن تُلْقَى هي وأولادها فيها، قالت له: إِنّ لي إِليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحبُّ أن تجمع عظامي وعظامَ ولدي في ثوب واحد، وتدفننا، قال: ذلك لك علينا من الحق، قال: فأَمَرَ بأولادها فأُلقوا بين يديها، واحداً واحداً، إِلى أن انْتَهَى ذلك إِلى صبِيٍّ لها مُرْضَعٍ، كأنّها تقاعست من أجله، قال: يا أُمَّهْ، اقْتَحِمِي، فإِن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقْتَحَمَت".
قال: قال ابن عباس: تكلّم أربعة صغار: عيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحب جريج، وشاهد يوسف، وابن ماشطة ابنة فرعون! (1)
ونبصر في مشهد الفطرة كل خصائص (الدّين القيّم) وتصوّراته، ومن ثم يتكوّن الفرد في جوّ نظيف شريف عفيف، بعيد عن العلاقة الآثمة، ويوجد الربط بين أمانة الكلمة -كما عرفنا- وأداء الأمانات، وانطلاقاً من أن الدّين القيّم دين الحياة، بكل ما تحمله الحياة المباركة الطيّبة من معان!
ونبصر في المشهد الأخير ثبات القلب المؤمن أمام الصعاب، مهما كان شأنها .. ويتضاءل الإنسان أمام هذا الموقف المهيب .. وأمام واقع المسجد الأقصى الذي يئن بحرقة، ويهيب بأتباع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرفعوا راية الحق.
وأخيراً وليس آخراً:
نبصر المسجد الأقصى محلّ عناية الله، ومكان رعايته، حيث أسرى بخاتم رسله إليه .. ولئن تاهت البلاد التي سبقت إلى الإِسلام وافتخرت، لأن الفتح كان على أيدي السابقين الأعلام، وجحافل جيوش المسلمين، فإن لموطن المسجد الأقصى أن يعتزّ بأنه قد أسْرى الله عز وجل بخاتم رسله إليه .. وجعل ذلك أمراً محكماً في القرآن الكريم، يتعبّد المسلمون
(1) أحمد: 1: 310، وسنده حسن، فقد سمع حماد بن سلمة من عطاء بن السائب قبل الاختلاط عند جميع الأئمة، وأبو عُمر الضرير اسمه حفص بن عُمر البصري، روى له أبو داود، وهو صدوق، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح!
وأخرجه بنحوه الطبراني (12280) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه بهذا الإسناد!
وابن حبان (2903) عن طريق يزيد بن هارون، والطبراني (12279)، وانظر: ابن ماجه (4030).
بتلاوته .. وقد أدرك سلفنا الصالح هذه الحقائق، وتلك المعاني، فكانت الشهادة أمنية رفيعة الشأن، جليلة القدر، عظيمة الأثر، وكان الشهداء في مؤتة وحطّين وغيرهما، وقوافل المقاتلين إلى أرض فلسطين، أرض المسجد الأقصى .. وكأنّ هذه الدماء على أرض فلسطين الآن لم تكن كافية، على ما يظهر، أن نجدّد العزم على تحرير المسجد الأقصى .. وكأنه لم يبق لدى الكثير اسم ولا رسم، ولا روح ولا جسم، بيد أن الأمل قائم، ومعادلة النصر حق، والله لا يخلف الميعاد، وصدق الله العظيم:
ونبصر ضرورة دراسة السيرة النبويّة، وفق هذا المنهج الموضوعي في تلك الدراسات، رجاء أن نرى أنفسنا أمام تفسير الأحداث -وفق قول الرافعي- (1) إن الدنيا لم تستطع تحقيق غايتها الأخلاقيّة العليا إلا فيها، وأنه صلى الله عليه وسلم كان إنساناً، وكان أيضاً حركة في تقدّم الإنسانيّة، وأن من معجزاته أنه أطاق في تاريخه ما عجزت عنه البشريّة في تاريخها، وأن كل أموره موضوعة وضعاً إلهيًّا، كأنها صفات كوّنها الحق وعلّقها في التاريخ لمعاني الحياة، تعليق الشمس في السماء لمواد الحياة!
وكأن الحقيقة السامية في سيرة هذا النبيّ تنادي الناس (2) أن قابلوا على هذا الأصل، وصحّحوا ما اعترى أنفسكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانيّة!
(1) وحي القلم: 3: 24 - 25 بتصرف.
(2)
السابق: 2: 6.
ونبصر اليقين بأن الآلام مهما اشتدّت، والمحن مهما طال أمدها، فإن الآمال الكبيرة المرتقبة تخفّف آلام الكفاح، وتمسح الجراح، وتوضح معالم الطريق.
والمنح التي تعقب المحن، تحملها معها بشائر النصر ..
ومن ثم نبصر خلفاً صالحاً لسلف صالح. تربط الجميع أخوّة زكيّة، صافية نقيَّة، ومحبّة نديّة، ومودّة رضيّة، ونفحة علويّة، وألفة قدسيّة، تنشئ في قلوبنا معالم يعجز القلم عن تصويرها .. وتهبّ نفحات القرن الأوّل .. ويولد للإسلام عالم جديد، يكون قضاء الله الغالب، وقدره الذي لا يرد!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *