الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دين السلام:
وما أحوجنا كأمّة أن نفقه عظمة هذا (الدّين القيّم) في ذوات أنفسنا، وفي الصغير والكبير من أمورنا، وأن نستسلم الاستسلام الذي لا تبقى معه بقيّة ناشزة من تصوّر أو شعور، ومن نيّة أو عمل، ومن رغبة أو رهبة، لا تخضع لله، ولا ترضى بحكمه .. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنّة الراضحة .. الاستسلام للمنهج الذي يقول خطانا، ونحق واثقون أنه يريد بنا الخير والنصح والرشاد .. مطمئنّون إلى معالم الطريق والمسير والصير، في الدنيا والآخرة سواء!
إنها دعوة للمؤمنين باسم الإيمان بهذا الوصف المحبّب إليهم، والذي يميزهم ويفردهم، ويصلهم بالله الذي يدعوهم إلى أن يدخلوا في السلم كافة (1) .. ونبصر نفوسًا ما تزال يثور فيها بعض التردّد في الطاعة المطلقة في السرّ والعلن .. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة مدى الحاجة إلى توجيه الدعوة للذين آمنوا، ليخلصوا ويتجرّدوا، وتتوافق خطرات نفوسهم، واتجاهات مشاعرهم، مع ما يريد الله بهم، وما يقودهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في غير ما تلجلج ولا تردّد ولا تلفّت!
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وسلام،
(1) السابق: 1: 206 وما بعدها بتصرف، وكتابنا: الإِسلام دين السلام العالمي وحاجة الإنسانية إليه: مقدمة.
وأمن وأمان .. عالم كله ثقة واطمئنان، وكله رضي واستقرار .. لا حيرة ولا قلق، ولا شرود ولا ضلال!
سلام مع النفس والضمير!
وسلام مع العقل والمنطق!
وسلام مع الناس والأحياء!
وسلام مع الوجود كله!
وسلام يرفّ في حنايا السريرة!
ويظلّل الحياة والأحياء على سواء!
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحّة تصوّره لله عز وجل، ونصاعة هذا التصوّر ويسره!
إله واحد جلّ شأنه يتجه إليه المسلم .. وجهة واحدة يستقرّ عليها جَنَانه، فلا تتفرّق به السبل، ولا تتعدّد به الجهات، ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك -كما في الوثنيّة والجاهليّة قديمًا وحديثًا عبر التاريخ- إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح!
إله واحد قويّ قادر عزيز قاهر .. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوّة الحقّة الوحيدة في هذا الوجود، وقد أمن كل قوّة زائفة، واطمأن واستراح .. ولم يعد يخاف أحدًا أو يخشى شيئًا، وهو يعبد الله القويّ القادر العزيز القاهر .. ومن ثم لم يخشَ فوت شيء!
إله واحد عادل حكيم، فقوّته وقدرته ضمان من الظلم، وضمان من
الهوى، وضمان من البخس ومن ثم يأوي المسلم إلى ركن شديد، ينال فيه العدل والأمان!
إله واحد رحيم ودود، منعم وهّاب، غافر الذنب، وقابل التوب، يجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السوء .. فالمسلم في كنفه آمن آنس، سالم غانم، مرحوم إذا ضعف، مغفور له متى تاب!
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربّه التي يعرفه بها الإِسلام، فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه، وما يطمئن روحه، وما يضمن له الحماية والوقاية، والعطف والرحمة، والعزّة والنعة، والاستقرار والسلام!
هكذا يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصوّر العلاقة بين العبد والربّ، وبين الخالق والكون، وبين الكون والإنسان!
فالله عز وجل خلق هذا الكون بالحق، وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة .. والإنسان مخلوق قصدًا، وغير متروك سدىً، ومهيّأ له كل الظروف الكونيّة المناسبة لوجوده، ومسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا، وهو كريم على الله، وخليفة في الأرض، والله معينه على هذه الخلافة، والكون من حوله صديق مأنوس، تتجاوب روحه مع روحه، حين يتجه كلاهما إلى الله، وهو مدعوّ إلى الحياة في هذه الرحاب، والتعاطف مع كل شيء، ومع كل حيّ في هذا الوجود الكبير!
والعقيدة التي تقف صاحبها أمام معالم الحياة عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة تسكب في روحه السلام، وتطلقه يعانق الوجود، ويشيع من حوله الأمن والرفق، والحبّ والسلام!
والاعتقاد بالآخرة يؤدي الدور الأساسيّ في إفاضة السلام على روح المؤمن
وعالمه، ونفي القلق والسخط والقنوط .. ذلك أن الحساب الختاميّ ليس في لهذه الحياة الدنيا، والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة!
إنه هناك في الآخرة، والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب .. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقّق في الأرض أو لم يلق جزاءه!
ولا قلق على الأجر إذا لم يوفّ في هذه العاجلة بمقاييس الناس، فسوف يوفّاه بميزان الله، ولا قنوط من العدل إذا توزّعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد، فالعدل لا بدّ واقع:
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)} [غافر: 31]!
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم، وتداس فيه الحرمات، بلا تحرّج ولا حياء، فهناك الآخرة فيها عطاء، وفيها غناء، وفيها عوض عمّا يفوت!
وهذا التصوّر من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة، وأن يخلع التجمّل على حركات المتسابقين، وأن يخفّف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة العمر القصير المحدود!
ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة:
مخلوق ليعبد الله .. ومن شأن هذه الغاية -ولا شك- أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء .. ترفع شعوره وضميره، وترفع نشاطه وعمله، وتنظف وسائله وأدواته .. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله، وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه، وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج الله فيها .. فأولى به ألا يغدر
ولا يفجر، وأولى به ألا يفسق ولا يخدع، وأولى به ألا يطغى ولا يتجبّر، وأولى به ألا يستخدم أداة مدنّسة ولا وسيلة خسيسة، وأولى به ألا يستعجل المراحل، وألا يعتسف الطريق، وألا يركب الصعب من الأمور، فهو بالغ هدفه من العبادة بالنّيّة الخالصة، والعمل الدائب في حدود الطاقة!
ومن شأن هذا كله ألا تثور المخاوف والمطامع في نفسه، وألا يستبدّ به القلق في أيّة مرحلة من مراحل الطريق، فهو يعبد في كل خطوة، وهو يحقّق غاية وجوده في كل خطرة، وهو يرتقي صعدًا إلى الله في كل نشاط، وفي كل مجال!
وشعور المؤمن بأنّه يمضي مع قدر الله، في طاعة الله، لتحقيق إرادة الله .. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار، والمضيّ في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق، وبلا قنوط من عون الله ومدده، وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء!
ومن ثم يحسّ بالسّلام في روحه، حتى وهو يقاتل أعداء الله وأعداءه -كما سيأتي- فهو إنما يقاتل لله، وفي سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله .. ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض من أعراض هذه الحياة!
كذلك شعوره بأنّه يمضي على سنّة الله مع هذا الكون كله .. قانونه، ووجهته، فلا صدام ولا خصام، ولا تبديل للجهد، ولا بعثرة للطاقة، وقوى الكون كله تتجمّع إلى قوّته، وتهتدي بالنور الذي يهتدي به، وتتجه إلى الله وهو معها يتجه إلى الله!
والتكاليف التي يفرضها الإِسلام على المسلم كلها من الفطرة، ولتصحيح السلوك .. لا تتجاوز الطاقة، ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه، ولا تهمل
طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء، ولا تنسى حاجة من حاجات تكوينه الجسمانيّ والرّوحيّ لا تلبّيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء!
ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه .. يحمل منها ما يطيق حمله، ويمضي في الطريق إلى الله، في طمأنينة وروح وسلام!
والمجتمع الذي ينشئه هذا النهج الربّاني، في ظلّ النّظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة، والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال .. كلها مما يشيع السلم. وينشر روح السلام!
هذا المجتمع المتوادّ المتحابّ المترابط المتكامل المتناسق!
هذا المجتمع الذي حقّقه الإِسلام مرّة في أرقى وأصفى صورة .. ثم ظلّ يحقّقه في صور شتّى على توالي الحقب، تختلف درجة صفائه .. ولكنه يظل في جملته خيرًا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهليّة في الماضي والحاضر، وكل مجمع لوّثته هذه الجاهليّة بتصوراتها ونظمها الأرضيّة!
هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة -آصرة العقيدة -حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان، واللغات والألوان، وسائر هذه الأواصر العرضيّة التي لا علاقة بها بجوهر الإنسان!
هذا المجتمع الذي يسمع الله تبارك وتعالى يقول له:
والذي يرى صورته في قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فَرّج عن مسلم كُربةً فرّج الله عنه كُربةً من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة"(1).
وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة رضي الله عنه: "المؤمن مرآة أخيه، إِذا رأى فيه عيبًا أصلحه"(2).
وفي رواية أخرى:
"المؤمن مرآة أخيه، والمؤمن أخو المؤمن، يكفّ عليه ضيعته، ويحوطه من ورائه"(3).
وفي رواية لمسلم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"المسلمون كرجل واحد، إِن اشتكى عينه اشتكى كلّه، وإِن اشتكى رأسه اشتكى كله"(4).
هذا المجتمع المثاليّ النظيف الشريف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة، ولا يتبجح فيه الإغراء، ولا تروج فيه الفتنة، ولا ينتشر فيه التبرّج، ولا تتلفّت فيه الأعين علي العورات، ولا ترفّ فيه الشهوات على الحرمات، ولا ينطلق
(1) البخاري: 46 - المظالم (2442)، وانظر (6951)، ومسلم (2580)، وأحمد (5646)، وانظر (4749، 5357)، وأبو داود (4893)، والترمذي (1426)، والنسائيُّ: الكبرى (7291)، والبيهقي: 6: 94، 201، 8: 330، والشعب (7614)، والآداب (104)، والقضاعي (168، 169، 477)، والبغوي (3518)، والطبراني: الكبير (3137، 3549)، وابن حبّان (533).
(2)
البخاري: الأدب المفرد (238).
(3)
البخاري: الأدب المفرد (239)، وأبو داود (4897) عون المعبود، وإسناده حسن، كما قال العراقي في تخريج الإحياء: 2: 182 وأقره المناوي، وهو كما قالا.
(4)
مسلم: 45 - البر (2586).
فيه سعار الجنس، وعرامة اللحم والدم، كما تنطلق في المجتمعات الجاهليّة قديمًا وحديثًا!
هذا المجتمع الذي تكفل فيه حريّات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم كفالتها بالتشريع الربّاني المطاع .. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنّة، ولا يتسوّر على أحد بيته، ولا يذهب فيه لم هدرًا والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقةً أو نهيًا والحدود حاضرة!
هذا المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون .. كما يقوم على المساواة والعدالة الحقّة التي يشعر معها كل أحد أن حقّه منوط بحكم شريعة الله لا بإرادة حاكم، ولا هوى حاشية، ولا قرابة كبير!
هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانيّة التي يضيق المقام عن ذكرها .. مجتمع السّلم والسّلام، والأمن والأمان!
تلك بعض معانى الأمان التي سبق ذكرها في قوله جلِّ شأنه:
وقوله عز وجل:
ونبصر دعوة الذين آمنوا للدخول في السلم كافة، ليسلموا أنفسهم كلّها لله، فلا يعود لهم منها شيء، ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظّ، وإنما تعود كلها لله في طواعية وفي انقياد وفي تسليم!
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة، وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان .. في المجتمعات التي لا تعرف الإِسلام، أو التي عرفته ثم تنكّرت له، وارتدّت إلى الجاهليّة تحت عناوين شتّى في جميع الأزمان!
هذه المجتمعات الشقيّة الحائرة، على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادّي، والتقدّم الحضاري، وسائر مقوّمات الرّقيّ في عرف الجاهليّة الضالّة التصوّرات، المختلّة الموازين!
والمجتمعات الجاهليّة الضالة نبصرها في حياة أمم كثيرة .. ونبصر شعوبها مهدّدة بالانقراض!
فالنسل في تناقص مطّرد بسبب فوضى الجنس .. والعلاقات المثليّة الفاجرة، والجيل مدمن على المسكرات والمخدّرات .. كما يشهد الواقع الأليم!
والأمراض النفسيّة والعصبيّة والشذوذ بأنواعه هلاك ودمار! وخراب وبوار! ثم انتحار!
ولا ننسى أن نشير -مجرّد إشارة- إلى ما حدث في الحرب العالميّة الأولى، والحرب العالمية الثانية، وما هو معلوم من العدوان الآثم الذي استخدمت فيه أسلحة الدمار الشامل في كثير من الحروب الطاحنة هنا وهناك، والتي ما زالت شعوب كثيرة تعاني منها، والعالم الإِسلامي كذلك!
ومع هذا الواقع الأليم يفتري بعض الجاهلين الضالّين المعاصرين بأن الإِسلام دين الإرهاب! (1)
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب خلا من بشاشة الإيمان، وطمأنينة
(1) انظر كتابنا: الوسطيّة والإرهاب العالمي.
العقيدة، فلا يذوق طعم السلم الذي نبصره حين نذكر أوّل بيت للعبادة عبر التاريخ، ودعوة المؤمنين للدخول فيه كافة، لينعموا بالأمن والسلام والظل والراحة والقرار!
ونبصر في الدعوة إلى الدخول في السلم كافة تحذيرًا بعد ذلك أن يتبعوا خطوات الشيطان الرجيم، فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان:
إمّا الدخول في السلم كافةً!
وإمّا اتباع خطوات الشيطان!
إمّا إسلام وإمّا جاهليّة!
إما هدى وإمّا ضلال!
ومن ثم ينبغي للمسلم أن يلزم الهُدى، فلا يتلجلج ولا يتردّد، ولا يتحيّر بين شتّى الاتجاهات!
إنه ليست هناك مناهج متعدّدة للمؤمن أن يختار واحدًا منها، أو يخلط واحدًا منها بآخر!
كلا، إنه من لا يدخل في السلم بكلّيّته، ومن لا يسلم نفسه خالصةً لمنهج الله وشريعته، ومن لا يتجرّد من كل تصوّر آخر، ومن كل منهج آخر .. يسلك سبيل الشيطان لا محالة!
ليس هناك حلّ وسط، ولا منهج بين بين، ولا خطّة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك:
حق، وباطل!
وهدى، وضلال!
والله عز وجل يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافّة،
ويحذّرهم في الثانية من اتّباع خطوات الشيطان، ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم، ويستثير مخاوفهم بتذكيرهم بعداوة الشيطان لهم .. تلك العداوة الواضحة البيّنة، التي لا ينساها إلا غافل .. ثم يخوّفهم عاقبة الزلل بعد البيان:
وتذكيرهم بأن الله تعالى {عَزِيزٌ} يحمل التلويح بالقوّة والقدرة والغلبة، وأنهم يتعرّضون لقوّة الله حين يخالفون عن توجيهه!
وتذكيرهم بأنّه جلّ شأنه {حَكِيمٌ} فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير، وما نهاهم عنه هو الشرّ، وأنهم يتعرّضون للخسارة، حين لا يتبعون أمره، ولا ينتهون عما نهاهم عنه، فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في هذا المقام!
هذا وحسبنا أن كلمة (سلام) قد وردت في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرّة، فضلًا عن مادّة تلك الكلمة التي ذكرت أكثر من ذلك في الكتاب والسنة الصحيحة!
وهي تحمل أواصر القربى بين الناس، وتدعوهم إلى أن يعيشوا على هذه الأرض إخوة متعاونين لا متعادين، ومتراحمين لا متزاحمين!
والسلام اسم من أسماء الله تعالى:
والسلام مصدر بمعنى المسالمة (1)، وُصف الله تعالى به على طريقة الوصف بالمصدر، للمبالغة في الوصف، أي ذو السلام، أي السلامة، وهي أنه تعالى سالم الخلق من الظلم والجور!
وأوّل خطاب من الحق تبارك وتعالى لأوّل رسول بعد أن انحسر الطوفان كان دعوةً إلى السلام، وحثًّا على نشره في الآفاق:
ولم يرسل الله رسولًا، إلا ومنحه السلام، وأفاض عليه، ليكون شعاره في حياته، وأساسًا لتعامله مع الناس:
{سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)} [الصافات: 79]!
{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109)} [الصافات: 109]!
{سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120)} [الصافات: 120]!
{وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)} [الصافات]!
إنهم لا يتلفّتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتراك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفّعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين!
(1) التحرير والتنوير: 28: 120.
لا عن ضعف ولكن عن ترفّع!
ولا عن عجز إنما عن استعلاء!
وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالمسلم المشغول بما هو أهم وأكرم وأرفع!
والسلام تحيّة المسلمين عند لقائهم وتزاورهم كما هو معلوم، ومن شأن هذه التحيّة أن تؤلّف القلوب، وتوثق الصلات، وتربط بين المسلمين برباط المحبّة والمودّة، ومن ثم فهي شعار دائم، ومفتاح للخير!
وفي كل صلاة تشهّد، وفي كل تشهّد يطالعنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الله قال: كنّا إِذا صلّينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إِلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"إِن الله هو السلام، فإذا صلّى أحدكم فليقل: التحيّات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين -فإِنكم إِذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض- أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"! (1)
(1) البخاري: 10 - الأذان (831)، وانظر (835، 1202، 6230، 6265، 6328، 7381)، والأدب المفرد (990)، ومسلم (402)، وأحمد: 1: 349، 382، 394، 413، 414، 418، 423، 427، 440، 464، والدارميّ: 1: 308، والطيالسي (249)، وابن أبي شيبة: 1: 291، 292، وأبو داود (968، 969)، والنسائيّ: 2: 239، 240، 3: 40، 51، 50، والكبرى (664، 668، 1109، 111، 1130، وابن ماجه (899)، وابن خزيمة (703، 704)، وأبو عوانة: 2: 229، 230، والطحاوي: 1: 262، 263، والطبراني:(9886، 9902، 9903)، والبيهقي: 2: 103، 138، والبغويّ:(644، 645، 678)، وابن حبّان (1948، 1949).
يقول المسلم هذه التحيات المباركات الطيّبات تسمع مرات على الأقل في اليوم، فضلًا عن النوافل!
إنها تحيّات طيّبات مباركات لله عز وجل، متجدّدات في كل صلاة، تعبق بأريج الحبّ، وشذى العبوديّة، تتصاعد من أعماق الجَنان في الإنسان!
تحمل روح الحياة وطهرها، ومعنى العبوديّة وجلالها، والإنسانيّة وكمالها، وخشوع الإنسان وخضوعه .. تنقل المسلم من اللصوق بالمادّة إلى التحليق في رحاب الكون، بفكر طموح، وعقل ثاقب!
وإنها روح الحبّ، وصفاء الوجدان!
تعرج بقائلها إلى أن يعلو على الزمان والمكان، فيرسل سلامًا طيّبًا مباركًا بكاف الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسلامًا عليه وعلى عباد الله الصالحين، ممن أطاعوا الله وعبدوه في السماء والأرض، يضيء معالم الطريق إلى الآخرة ونعيمها الخالد العظيم!
وتأتي شهادة التوحيد، وعقيدة الإِسلام، ورسالة الإيمان، ومبعث الخير للحياة!
وفي التشهد الأخير يجد السلم نفسه أمام الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها عشرة مذاهب، كما نقل الحافظ ابن حجر! (1)
وحسبنا ما رواه الشيخان وغيرهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (لقيني كعب بن عُجرة فقال: ألا أهدي لك هديّة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: بلى، فأهدها لي، فقال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عنكم أهل البيت؟ فإِن الله قد علّمنا كيف نسلم، قال:
(1) انظر: فتح الباري: 11: 152 - 153.
"قولوا: اللهم! صلّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على إِبراهيم وعلى آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على إِبراهيم، وعلى آل إِبراهيم، إِنك حميد مجيد"(1).
وفي رواية لمسلم وغيره عن أبي مسعود الأنصاري قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نُصلي عليك، يا رسول الله! فكيف نصلّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تمنّينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: اللهم! صلّ على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما صلّيت على آل إِبراهيم، وبارك على محمَّد، وعلى آل محمَّد، كما باركت على آل إِبراهيم، في العالمين إِنك حميد مجيد. والسلام كما علمتم"! (2)
(1) البخاري: 60 - الأنبياء (3370)، وانظر (4797، 6357)، والشافعي: 1: 192، وعبد الرزاق (3105)، والحميدي (711، 712)، وأحمد: 4: 241، 243، 244، وعبد بن حميد (368)، والدارمي: 1: 309، وأبو داود (976، 977، 978)، والنسائيّ: 3: 47، 48، والكبرى (1119، 1120، 1121)، وعمل اليوم والليلة (54، 359)، والترمذي (483)، وابن ماجه (904)، والبيهقي: 2: 147 - 148، والطبري: التفسير: 22: 43، وأبو عوانة: 2: 213، والطبراني: الكبير: 19 (270، 273، 275 - 279)، وانظر (283، 284، 285، 292)، والأوسط (4478، 6834)، والبغوي (681)، والتفسير: 5: 274، والجعديات (141)، والطحاوي: شرح المشكل (234)، وابن حبّان (912)، وانظر (1957).
(2)
مسلم: 4 - الصلاة (405)، ومالك: 16501 - 166، والشافعي: 9001 - 191، وعبد الرزاق (3018)، وأحمد: 4: 118، 119، 5: 273، وعبد بن حميد (234)، والدارميّ: 1: 310، وأبو داود (980، 981)، والنسائيّ: 3: 45، والكبرى (1117)، وعمل اليوم والليلة (48، 49)، والدراقطني: 35401، والحاكم: 1: 268، والبيهقي: 2: 146، 378، وابن حبّان (1958، 1959).
وتعدّدت الروايات مع اختلاف يسير!
وفي فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، منها ما رواه أحمد وغيره بسند حسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من صلّى عليّ واحدة، صلّى الله عليه عشر صلوات، وحطّ عنه عشر خطيئات"(1).
وفي فضل السلام على النبي صلى الله عليه وسلم -أيضًا- أحاديث كثيرة، منها ما رواه أحمد وغيره بسند حسن عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من أحد يسلِّم عليّ إِلا ردّ الله عز وجل إِليّ روحي حتى أردّ عليه السلام"(2).
وهنا يطالعنا قول الله عز وجل:
(1) أحمد: 3: 102، 261، وابن أبي شيبة: 2: 517، والضياء المختارة:(1564، 1566، 1567، 1568)، والبخاري: الأدب المفرد (643)، والنسائيُّ: 3: 50، وعمل اليوم والليلة (62، 362، 363)، والحاكم: 1: 550، والبيهقيّ: الشعب (1554)، والبغويّ (1365)، وابن حبّان (904)، وانظر: مسلم (408) عن عبد الله بن عمرو، والترمذي (3614)، والنسائي: 2: 65، وعمل اليوم والليلة (45).
(2)
أحمد: 2: 527، فيه أبو صخر: حميد بن زياد الخراط، حسن الحديث، روى له مسلم، وباقي رجاله ثقات، رجال الشيخين، وأخرجه أبو داود (2041)، والبيهقيّ: 5: 245 من طريق عبد الله بن يزيد المقري، والطبراني: الأوسط (3116) عن عكرمة بن سهل الدمياطي، عن مهدي بن جعفر الرملي، عن عبد الله بن يزيد الإسكندراني، عن حيوة بن شريح، وعن عبد الله بن يزيد الإسكندراني، لم نجد له ترجمة، ولعله المقرئ والمكي نفسه، وإنما وهم في نسبته، شيخ الطبراني بكر بن سهل الدمياطي، أو شيخه مهدي الرملي، فكلاهما تكلّم في حفظه، والله أعلم!
وانظر: أحمد: 2: 367، وأبو داود (2042)، والطبراني: الأوسط (8026)! وانظر معنى الحديث في: عون المعبود: 6: 26 وما بعدها!
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]!
قال البخاري: قال أبو العالية: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء! (1)
وقال ابن عباس: يصلّون: يبرّكون! (2)
وروى الترمذي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا: صلاة الربّ: الرحمة، وصلاة الملائكة: الاستغفار!
والصلاة تكون بمعنى التمجيد والدعاء والرحمة، على حسب ما أضيفت إليه، وقد أفاض ابن القيّم في بيان ذلك، فأجاد وأفاد! (3)
ويا لها من مرتبة سنيّة، حيث تردّد جنبات الوجود ثناء الله عز وجل على نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم! (4)
ويشرق الكون كله، وتتجاوب أرجاؤه، ويثبت في كيان الوجود ذلك الثناء الأزلي القديم، الأبديّ الباقي!
(1) فتح الباري: 8: 532 - 533 قال ابن حجر: أخرجه ابن أبي حاتم، ومن طريق آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع، وهو ابن أنس بهذا، وزاد في آخره (له).
(2)
قال ابن حجر: وصله الطبري من طريق عليَّ بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله: {يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} قال: يبرّكون على النبي، أي يدعون له بالبركة، فيوافق قول أبي العالية، لكنه أخصّ منه، وقد سئلت عن إضافة الصلاة إلى الله، دون السلام، وأمر المؤمنين بها وبالسلام، فقلت: يحتمل أن يكون السلام له معنيان: التحية والانقياد، فأمر به المؤمنون، لصحّتها منهم، والله وملائكته لا يجوز منهم الانقياد، فلم يضف إليهما، دفعًا للإيهام، والعلم عند الله: المرجع السابق!
(3)
انظر: تفسير ابن كثير: 3: 506، والشوكاني: 4: 292، والقاسمي: 13: 4901، وجلاء الأفهام: 157 وما بعدها!
(4)
في ظلال القرآن: 5: 879 بتصرف.
وما من نعمة ولا تكريم بعد هذه النعمة، وذلك التكريم!
وأين تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العليّ، وصلاة الملائكة في الله الأعلى؟
إنما يشاء الله تشريف المؤمنين بأن يقرن صلاتهم إلى صلاته وأن يصلهم عن هذا الطريق بالأفق العلويّ الكريم، الأزليّ القديم!
وما يكاد المسلم ينتهي من صلاته حتى يسلّم عن يمينه وعن شماله!
يروى أحمد وغيره بسند صحيح عن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلِّم على يمينه، وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله" حتى يُرى -أو نرى- بياض خدّيه! (1)
وما يكاد ينتهي من التسليم حتى يدعو بهذا الدعاء الذي رواه مسلم وغيره عن عائشة قالت: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إِذا سلّم لم يقعد إِلا مقدار ما يقول: "اللهم! أنت السلام، ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإِكرام".
وفي رواية: "يا ذا الجلال والإِكرام"(2).
(1) أحمد: 1: 390، 408، 409، 444، 448، والطيالسي (308)، وعبد الرزاق (3130)، وابن أبي شيبة: 1: 299، وأبو داود (996)، والترمذي (295)، والنسائي: 3: 63، والكبرى (1154، 1155، 1156)، وابن ماجه (914)، وأبو يعلى (5102، 5114)، وابن خزيمة (728)، والطحاوي: 1: 268، والبيهقيّ: 2: 177، والطبراني: الكبير (1073)، وابن حبّان (1993).
(2)
مسلم: 5 - المساجد (192)، والطيالسي (1558)، وابن أبي شيبة: 1: 302، 304، وأحمد: 6: 62، 184، 235، والدارميّ (1354)، وأبو داود (1512)، والترمذي (298، 299)، والنسائيُّ: 3: 69، والكبرى (1170)، وعمل اليوم والليلة (95، 96، 97، 367)، وابن ماجه (924)، وأبو يعلى (4721)، وأبو عوانة: 2: 241، 242، والبيهقيّ: 2: 183، والبغوي (713) وابن حبّان (2000).